هل يمكن تطبيق مبادئ الحسين -عليه السلام- الجهادية في عصرنا؟

السؤال: مبادئ الحسين (عليه السلام) الجهادية أمثلة تُحتذى، ولكن في منطق عصرنا ربمّا يعدّها البعض كلاماً مثالياً غير قابل للتطبيق؛ فالعدو المتوحّش إن رأى منّا هذه المرونة والاحتياط الشديد ازداد ضراوةً وتنكيلاً، واستغلَّ هذه الطيبة المفرِطة التي لا تصلح ولا تليق إلّا بمثل الحسين (عليه السلام)؟

الجواب: إشكالية المثالية والواقعية إشكالية عامّة، ربّما يواجه بها أيّ طرح قيمي وأخلاقي إسلامي، وصفوة القول فيها تتلخّص بنقاط:

أوّلاً: إنّ المثالية إن كانت حكماً شرعياً إلزامياً، فلا يجوز لنا تجاوزه حتّى وإن خفي علينا وجه الحكمة فيه؛ لأنّ حكم الله خطٌّ أحمر لا يتجرّأ عليه إلّا فاسق، فمثلاً حرمة البدء بقتال مَن لم يقاتل، وإن بيَّت القتال، إن تمَّت أدلّتها الشرعية فلا تجيز القتال حتى وإن كان القتال المتعجّل المحرَّم يؤدّي إلى النّصر بخسائر أقل.

يقول تعالى: ﴿إِنَّ الله اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ الله فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ الله وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾.

فلابدّ أن نحفظ حدود الله، ولا خيار لنا سوى ذلك، فهل يتحقّق الجهاد بالفساد؟! وهل يُطلَب النّصر بالجور؟! أم هل يُطاع الله من حيث يُعصى؟!

ثانياً: إنّ هذا الالتزام المبدئي، وإن كان قد يُغري العدو بالجرأة على انتهاك الحرمات من جهة، لكنّه يُفكِّك تدريجاً تراكمات الحقد عند بعض أتباعه، ويُلغي من قاموس البعض منهم على الأقل شعوره بأنّ معركته عادلة.. هذا الشعور الذي إن تحقّق في الجانب المعنوي للمقاتلين ـ ولو بسبب الجهل المركّب ـ فإنّه يلهب الروح القتالية عندهم، ويزيد من فرصة انضمام مقاتلين آخرين إليه، وعندما يشعر عدوُّك بنبلك وشهامتك أو بإيمانك وقوّة بصيرتك، فإنّه يهتزّ، وقد ينتقل بعض أفراده ليحاربوا إلى جانبك، وقد روي أنّ عدداً من جيش ابن سعد قد انتقل إلى معسكر الحسين (عليه السلام) ليلة العاشر من المحرّم عندما رأوا عبادته وعبادة أصحابه، وكذا في اليوم العاشر عندما انتقل الحرّ ومعه بعض الأفراد. إنّ المبدئية العالية عندك سلاحٌ فتّاك ضدّ معنويات عدوّك.   

ثالثاً: إنّ المعركة التي تهدف إلى احتلال مدينة صغيرة أو كبيرة، ربّما لا تخطط إلّا في حدود هدفها، ومعركة الحسين (عليه السلام) وأتباعه حتّى في هذا العصر هدفها الأوّل ـ بعد الدفاع عن الحرمات ـ هداية النّاس وإخراجهم من الظلمات إلى النّور، والحرب من أعظم اختبارات مصداقية أيّ مشروع أو منهج ينال المقاتلين فيه ثقة الشعوب الأُخرى إن كانوا يتّسمون بالشرف ويحترمون القيم.

ولم نلاحظ شُعوباً دخلت في منهاج مَن احتربت معه، وتحوَّلت إلى جزء أساس من مشروعه كالشعوب التي قاتلت المسلمين في صدر الإسلام مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، بل حتّى من بعده عندما كانت الكثير من الأحكام الإسلامية الحربية قد تحوَّلت إلى قواعد في قتال غير المسلمين، وإن حصلت في بعض الأحيان خروقات كبيرة من بعده، لولاها لدخل النّاس في الإسلام بشكل أوسع وبعقيدة أرسخ، بينما نجد اليوم أنّ أيّ شعب يتعرَّض إلى احتلال، ثمّ يرتكب الجيش الذي احتله بعض جرائم الحرب؛ يتحوَّل إلى عدو لدود للدولة التي احتلّته، وتبقى الأحقاد والضغائن بينهما أجيالاً وأجيالاً.

رابعاً: إنّ المبدئية العالية عند القادة في أوامرهم الميدانية تزيد الأتباع المقاتلين بصيرة وهُدًى وإيماناً واحتساباً؛ بكونهم على حقّ، خصوصاً في الأوساط التي تنتمي إلى الأنبياء والأوصياء والفقهاء الأتقياء، وتُحقِّق لهم من الروح المعنوية ما لا يصنعه أيّ غدر أو انتقام أو تشفّي.

خامساً: إنّ الثقافة الحربية الانتهازية التي لا تراعي حُرمات العدو، تُورِث أعقد المشاكل الكبرى التي تتعرّض لها المجتمعات من محاربيها إن وضعت الحرب أوزارها، فإنّ من أعقد تداعيات الحروب رجوع المقاتلين إلى مجتمعاتهم المدنيّة، وهم يحملون بين جوانحهم قلوباً قاسية، وعادات شرسة في التعامل، وجرأة على سفك الدماء وانتهاك الحرمات.

 

_____________________________________

*مؤسسة وارث الأنبياء للدراسات التخصصية في النهضة الحسينية

 

المرفقات