النثر في ثورتي التوابين والمختار الثقفي وتأثره بالنص القرآني ج1

 

المقدمة

تعددت الحركات النهضوية على مرّ العصور والأزمان، وتميّزت كُلّ واحدة عن الأُخرى ـ سلباً أو إيجاباً ـ بمميزات تخصُّها، وتفاوتت هذه الخصائص بلحاظ الزمان والمكان والأشخاص، وكذلك من حيث الأهداف والمبادئ...

وقد امتازت الثَّورات الإسلاميّة العربيّة آنذاك بطريقتها في شحذ الهمم لبلوغ الغاية؛ حيث كانت الخطابة من أهمّ الطرق التي تساهم في النّصر عسكريّاً وإعلاميّاً، مستلهمين ذلك من سليقتهم العربية الصحيحة.

وإذا استلهمت أيُّ ثورة وضعها المعنوي والحركي من منبع الإسلام الحقيقي وهو القران الكريم، فإنَّ ذلك سينعكس على واقعها، وخصوصاً في الخطابيات، ولو أُضيف لهذا الشعور بالمسؤولية والاعتراف بالتقصير والندم على أخطاء الماضي، فإنَّ وضعها سيزداد قوّة وإصراراً معنويّاً وخطابيّاً لتغيير المستقبل، وهذا ما حصل لثوار وقادة ثورة التوابين، وكذلك ثورة المختار في الجملة، وقد بانَ كُلّ ذلك على خطاباتهم وتأثرهم بالقران الكريم مع شعورهم بالمسؤولية.

ومحور بحثنا هو دراسة هذه الخطابات وموادّها، وطريقة نثرها، وأساليبها في التعبير، مستعينين ببعض الشواهد على ذلك. لذا سنقسّم البحث على محورين رئيسين بعد ذكر تمهيد للبحث نتعرّف فيه على مفهوم النثر الفني ووظيفته، وسيتناول المحور الأوّل أنماط النثر الفني في ثورة التوابين وثورة المختار الثقفي، ونتحدث في المحور الثّاني عن أثر القران الكريم في ثورة التوابين وحركة المختار الثقفي.

تمهيد: النثر مفهومه ووظيفته

مفهوم النّثر

النّثر في اللغة: مصدر للفعل نثر بمعنى فرّق، ويأتي النّثار بمعنى النّثر، وهو الفتات المتناثرة من المائدة، جاء في القاموس المحيط: ((نثر الشيء نَثَرهُ ويَنثُره نثراً ونثاراً: رماه متفرّقاً كنثره فانتثرَ وتنثّر وتناثر والنّثارة بالضّم والنّثر بالتّحريك ما تناثر منه، أو الأُولى تخصُّ ما ينتثر من المائدة فيؤكل للثّواب))  [1]  ، ويذكر الزمخشري في أساس البلاغة للفظة   نثر   معنى آخر يدلُّ على كثرة الكلام، يقول: ((رجل نثر: مهذار ومذياع للأسرار))  [2]  .

 وقد دخلت هذه اللفظة البيئة الثقافيّة الأدبيّة بنفس المعنى، أي: الكثير والمتفرق من الكلام، ثم أخذت تقتصر على الكلام الأدبي الذي يرتفع على الكلام العادي في التّعبير والمعنى  [3]  .

واستخدم النقّاد والأُدباء فيما بعد هذا اللفظ في المفهوم ذاته، فعرّفه الدكتور شوقي ضيف بأنّه: ((الكلام الذي لم يُنظَّم في أوزان وقوافٍ، وهو على ضربين: أمّا الضّرب الأوّل فهو: النثر العادي الذي يُقال في لغة التخاطب، وليست لهذا الضّرب قيمة أدبيَّة إلّا ما يجري فيه أحياناً من أمثال وحِكَم. وأمّا الضَّرب الثاني فهو: النثر الذي يرتفع فيه أصحابه إلى لغة فيها فنّ ومهارة وبلاغة، وهذا الضرب هو الذي يُعْنى النقّاد في اللغات المختلفة ببحثه ودرسه وبيان ما مرَّ به من أحداث وأطوار، وما يمتاز به في كُلّ طور من صفات وخصائص، وهو يتفرّع إلى جدولين كبيرين، هما الخطابة والكتابة الفنيَّة، ويسمّيهما بعض الباحثين باسم النثر الفني))  [4]  .

وظيفة النثر

يقوم النثر الفني بإداء وظيفتين مهمّتين، هما: اللّذة، والإفادة.

 وقد جمع بعض النقَّاد بينهما، وذهب بعضهم إلى التفريق، فيما ذهب فريق ثالث إلى جانب الإفادة وحدها  [5]  .

 إنَّ الجمع بين اللّذة والإفادة يُعدُّ الأقرب إلى طبيعة الأدب، ونظرته إلى وظيفة النّثر الفنّي في التراث الأدبي؛ من الخطابة والرّسالة والمقامة التي تدور في إطار نفع المجتمع وخدمته؛ بإسهامها في التّعبير عن جوانبه الاجتماعيّة والدينيّة والسياسيّة والثقافيّة، وإلى جانب هذه الوظيفة فقد وفّت الكتابة بأشكالها المتعدَّدة بالحاجات الجماليّة التي تُحقّق المتعة  [6]  .

ومن هذه الإبانة الدلاليَّة الموجزة لمفهوم النثر ووظيفته سيمضي البحث لتتبع أنماط النثر الفنّي خطباً ورسائل، وعهوداً ووصايا، بأطوارها ومراحلها منذ العصر الجاهلي إلى ثورة التوابين وإمارة المختار الثقفي؛ لتسليط الضوء على مدى الرُّقي الفنّي الذي وصل إليه النثر في هاتين الحقبتين.

المحور الأول: أنماط النثر الفنَّي في ثورة التوابين وإمارة المختار

كان النثر الفنّي في هاتين الحقبتين ذا قصديّة عالية من ناحية الأُسلوب والأفكار؛ إذ وظّفه الخطباء والمترسّلون من أجل دعوتهم، فكان الخطيب أو المترسّل يستعين بكل قدراته اللّغويّة والأُسلوبيَّة وملكاته البيانيّة والبلاغيَّة من أجل التّأثير في السَّامعين، والأخذ بجوامع قلوبهم، فكان نتاجهم الأدبي يرتقي بحقٍّ إلى النَّمط العالي في الأداء، وهو ضرب يستحق أَنْ يُدرس دراسة أُسلوبيَّة من خلال تحليل وظائف أصواته وأبنيته وتراكيبه؛ لأنَّ وظيفة الأُسلوبية دراسة الاختيارات اللغوية الخاصَّة التي يستعملها المنشئ في النص، والتي يتميز بها من غيره من المنشئين  [7]  ، وفيما يلي نستعرض أنماط النثر في هاتين الثورتين:

النمط الأول: الخطابة

 ينبغي أن نتعرّف إلى أدبيات الإسلام إجمالاً ـ قبل بيان خطابة حُقبتي ثورة التوابين وإمارة المختار ـ وطريقة صُنعه للخطابة بعد ما كانت الخطب الجاهلية طاغية، وكيف أنه قد أزالها، بما فيها خُطب المفاخرات والخصومات، وسجع الكهّان، ليُنذر بتحوُّل مهمّ في فنّ الخطابة الذي أصبح مسايراً للحياة الاجتماعية في عصر صدر الإسلام.

الخطابة في الإسلام

عندما جاء الإسلام أوْلى المسلمون وفي مقدّمتهم الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وآله الخطابة عناية خاصة، لما لها من سمات وخصائص تجعلها خير وسيلة من وسائل الدعوة إلى الإسلام؛ لأنها كانت تستوعب أُسلوب المناظرة والمناقشة، والمحاجّة والإقناع، وهذه كلها مهمّة في البيان والإبلاغ.

‏ولما هاجر الرسول الكريم صلى الله عليه وآله إلى المدينة أصبحت الخطابة من وسائل بيان التشريعات الإلهية، والوعظ والإرشاد وتنظيم حياة المسلمين، وعندها حظيت الخطابة في هذا العصر بالتطوُّر والازدهار مقارنة بحالها في عصر ما قبل الإسلام؛ إذ حدث تغيُّر وتحول في هيكلها وأساليبها ومعانيها.

‏وقد تلمّس الباحثون الأسباب التي أدّت إلى تطوّر الخطابة وازدهارها في هذا العصر فوجدوها تكمن في عدة أسباب، منها:

* أنَّ الرسول صلى الله عليه وآله ((اتَّخذها بعد الهجرة أداة لإيضاح تعاليم الإسلام ووعظ المسلمين))  [8]  .

* وكذلك أصبحت فرضاً مكتوباً في صلاة الجُمَع والعيدين، وفي مواسم الحج ((وبذلك عَرَفَ العرب ضرباً مُنظَّماً من الخطابة الدينيَّة لم يكونوا يعرفونه في الجاهليَّة))  [9]  .

* كذلك كان لوجود القرآن الكريم الأثر الكبير الذي أدَّى ((إلى تطوُّر الخطابة وارتقائها في العصر الإسلامي وفي العصور التي تَلَتْهُ))  [10]  .

 ومن أهمّ تلكم الخصائص اشتمال الخطابة على الوحدة الموضوعية التي كان النثر الجاهلي يفتقر إليها، فكان الخطيب يبدأ خطبته بالتحميد والثناء على اللهU، والصلاة على رسوله صلى الله عليه وآله  [11]  ، ويعقبها بعبارة   أمَّا بعد   ثم ينتقل إلى الغرض من خطبته، ولعلَّ هذه العبارة كانت مستمدَّة من خطب العصر الجاهلي  [12]  ، فيمكن عدّها تقليداً فنيَّاً.

‏ولقد أثّر القرآن الكريم في أدب صدر الإسلام بصورة عامّة من خُطب ورسائل، لذلك كان المنهل العذب الذي ترتوي الخطابة منه، وعندها اغترف الخطباء من معينه ووشّحوا كلامهم بلآلئ آياته فأخذوا يقتبسونها اقتباساً، ويحاكونها من حيث الأُسلوب والأفكار والمعاني، وهذا بحدّ ذاته تطوّر كبير لم يألف العرب قبل الإسلام مثله؛ لأنَّ الأُسلوبَ القرآني قد امتاز بأجمل طابع، وأحكم صورة، وأروع سمت بما تهيأ له من حِكَم عالية، ومعان سامية، وحسن ارتباط بين المعاني، وعذوبة محببة في الألفاظ، ويكفي فيه أنَّه أُسلوب ربِّ العالمين وخالق الخلق أجمعين، ‏جلّت قدرته  [13]  .

وهكذا أثّر القرآن الكريم في أدب صدر الإسلام بصورة عامة من شعر ونثر، وبذلك فإنَّ كلّ تغيير حدث في الأدب إنّما كان مصدره الأوَّل القرآن الكريم ‏الذي كان وحده مصدر ثقافة المسلمين الدينيّة والعقلية والاجتماعية والأدبية، وهو الذي أحال خشونة الطباع عذوبةً وسلاسةً، وبدّل حُوشيَّة الألسنة سهولة ووضوحاً وبلاغة  [14]  ، كما أنَّه أثَّر في أدب العصور الأُخرى التي تلته.

الخطابة في ثورة التَّوابين وإمارة المختار

ازدهرت الخطابة في العصر الأُموي ازدهاراً واسعاً، وكان وراء هذا الازدهار عدَّة أسباب مختلفة؛ منها السياسي، والديني، والعقلي  [15]  :

1ـ السبب الديني: حيث شهد العصر تأسيس المدارس الدينيّة في مختلف البلدان الإسلاميّة، ليتعلَّم الناس فيها أُصول دينهم وفروعه، وكان العلماء القائمون عليها كثيراً ما يتحاورون في وجهات نظرهم  [16]  ، ولم تلبث أن تمخَّضت عن ذلك الجدال فرق متعدَّدة ومذاهب مختلفة، ((فكان ذلك باعثاً على ظهور المناظرات، وهي فرعٌ مهمٌ من فروع الخطابة))  [17]  .

2ـ وأمَّا السبب العقلي، فمرده إلى عناصر الثقافات الأجنبية التي أخذ العقل العربي ينهل منها منذ هذا العصر؛ ممّا فتق فيه الحجاج والجدل  [18]  .

3ـ أمَّا السبب الأهم ـ الذي أدى إلى ازدهار الخطابة على نحو ملحوظ ـ وهو السبب السياسي المتمثل بكثرة الأحزاب السياسيّة التي عارضت الدولة الأُموية؛ ممّا أسفر عن توالي الثورات ضد هذه الدولة، فهناك النظرية الحقة التي ترى أن الخلافة حق إلهيّ اختاره الله تعالى لأهل بيت الرسول صلى الله عليه وآله، وهم الورثة الحقيقيون وفقاً للقرآن والسنّة، وفي مقابل ذلك يرى الحزب الزبيري أنَّ الخلافة تقع في قريش، ويجب أن تكون في أحد أبناء أكبر الصحابة؛ وصاروا يدعون لابن الزبير، في حين ظهرت جماعة أُخرى ترى أنَّ الخلافة حق مطلق لعامة المسلمين، فهي لا تقتصر على فئة دون أُخرى، وهذه الجماعة هم الخوارج، وظهر غير هذه الجماعات كثيرٌ ممن عارض الأُمويين.

ومن الطبيعي أنْ يكون لكل فرقة من هذه الفرق شعراء أو خطباء يدافعون عن قضيَّتهم، ويدحضون آراء خصومهم، بل ((ليس هناك حزب ولا ثورة ـ كبيرة أو صغيرة ـ إلّا وخطباء كثيرون ينبرون للترويج لهذا الحزب، أو تلك الثورة))  [19]  .

ومن الواضح أن حُقبتي التوابين والمختار تقع ضمن هذا العصر؛ فإنَّ السبب السياسي الذي ذكرناه هو الذي أدّى إلى ظهور النثر بصورة عامة من خُطب ورسائل، بل إنَّ النثر الفني فيهما هو وليد التحولات السياسيّة التي شهدتها تلكم الحقبتان والعصر الأُموي بصورة عامَّة.

أمَّا ثورة التوابين، فإنَّ البحث قد عرض لأسباب ظهورها، وهي الممارسة القمعية للأُمويين تجاه آل بيت الرسول صلى الله عليه وآله، وإقدامهم على قتل الإمام الحسين  علیه السلام وأهل بيته، بصورة وحشيَّة يندى لها جبين التاريخ، فشعرت جماعة بعد مقتله  علیه السلام بالندم؛ لأنَّهم كانوا قد دعوه للخروج إليهم ووعدوه المناصرة والبيعة ولم يوفوا بوعودهم، فلاحظ بعضهم أنَّ هناك شبهاً عظيماً بينهم وبين توابي بني إسرائيل؛ فتدبَّروا أمرهم، وأخذوا يهيئون لحركة يتوبون بها، وبدأت حركتهم سريَّة، فجمعوا الأنصار معتمدين بما لهم من قدرة على الإقناع والبيان، حيث كان في زعمائهم الخطيب والشاعر والدَّاعية  [20]  .

وقد تجمّع هؤلاء القوم وألقى كل واحد منهم خطبة خيّم طابع الندم عليها، كما أنّ خُطبهم لم تقتصر على تجمعاتهم، بل كانت موزَّعة على فترات اجتماعهم إلى ساعة استشهادهم، ومن الطبيعي أن يكون للطرف الآخر   النقيض   خُطبٌ أيضاً، فكانت تلك الخطب موزّعة بين التوابين ومناوئيهم وفقاً لتدرجها الزمني وعلى النحو الآتي:

الفريق الأول:   التوابون وأنصارُهم   وهم:

1ـ المسيب بن نجبة الفزاري، من رؤوس التوابين، وله خطبتان.

2ـ رفاعة بن شداد البجلي، من رؤوس التوابين، وله خطبة واحدة.

3ـ سليمان بن صُرَد الخزاعي، من رؤوس التوابين، وله خمس خُطب.

4ـ عبد الله بن وال التميمي، من رؤوس التوابين، وله خطبة واحدة.

5ـ عبد الله بن سعد بن نفيل، من رؤوس التوابين، وله خطبة واحدة.

6ـ خالد بن سعد بن نفيل، وله خطبة واحدة.

7ـ عبد الله بن الحنظل الطائي، وله خطبة واحدة

8ـ سعد بن حذيفة بن اليمان، وله خطبة واحدة.

9ـ عبيد الله بن عبد الله المري، وله خطبة واحدة.

10ـ صخير بن حذيفة بن هلال، وله خطبة واحدة.

الفريق الثاني:   المناوئون   وهم:

1ـ عبد الله بن يزيد، الوالي الزبيري على الكوفة، وله خطبتان.

2ـ إبراهيم بن محمد بن طلحة، الوالي الزبيري على خراج الكوفة، وله خطبة واحدة.

3ـ عبد الملك بن مروان، خليفة أُموي في الشام، وله خطبة وحدة.

ومن الجدير بالذكر: أنَّ الخطب الخاصَّة بالتوابين تتراوح بين الطّول والقصر، بحسب الحاجة والمقام، فقد يطول بعضها لحاجة الخطيب إلى التفصيل والتماس الحجج وضرب الأمثال، حتّى يتمَّ له إقناع الجمهور، وهذا واضح في خطبتي عبيد الله المري، والمسيب بن نجبة الفزاري، وخطبة ابن صُرَد الأُولى  [21]  ، وقد تقصر الخطب كثيراً حتَّى تكاد تكون رأياً من الآراء يُبديه الخطيب في أمر يعرضه لأصحابه، وهذا كما في خطبة ابن صُرَد الخامسة، أو خطبة عبد الله بن الحنظل الطائي التي لم تتجاوز بضع كلمات  [22]  .

أمَّا الخطابة في إمارة المختار الثقفي، فبلغت اثنتين وعشرين خطبة، وهي كذلك موزَّعة بين المختار ومناصريه من جهة، ومناوئيه من جهة أُخرى، كالآتي:

1ـ المختار الثقفي، وله عشر خُطب.

2ـ عبد الرحمن بن شريح، مناصر، وله ثلاث خُطب.

3ـ محمد بن الحنفية، وله خطبتان.

4ـ يزيد بن أنس، وله خطبة واحدة.

5ـ إبراهيم الأشتر، وله خطبتان.

المناوئون:

1ـ عبد الله بن مطيع، الوالي الزبيري على الكوفة، وله ثلاث خُطب.

2ـ مصعب بن الزبير، الوالي الزبيري على البصرة، وله خطبة واحدة.

‏ النمط الثاني: الرسائل الفنيّة

لنستوضح كيفية الرسائل الفنيّة التي كانت في زمن الجاهلية، وعصر صدر الإسلام، ومن ثمّ نُعرّج على رسائل أصحاب ثورة التوابين، وكذلك الرسائل الفنيّة للمختار الثقفي آنذاك.

الرَّسائل الفنيّة بين الجاهليَّة وعصر صدر الإسلام

لا توجد بين أيدي الباحثين وثائق صحيحة تدلُّ على أنَّ الجاهليين عرفوا الرَّسائل الأدبية وتداولوها، وهذا لا يعني أنَّهم لم يعرفوا الكتابة، فالكتابة ـ رسماً وخطَّاً ـ كانت معروفة لدى العرب قبل الإسلام، وهي لا ترقى إلى ما قبل مائة وخمسين عاماً، فوجودها مقرون بوجود الشعر، إذ إنَّهما جناحان لطائر الكلمة  [23]  .

فالكتابة معروفة آنذاك إلّا أنَّ صعوبة وسائلها جعلتهم لا يعتمدونها في الأغراض الأدبيَّة والنثريَّة والشعريَّة، ((ومن ثمَّ استخدموها فقط في الأغراض السّياسيَّة والتّجاريَّة))  [24]  ، وكانت رسائلهم ((يغلب فيها الإرسال، وتتَّصف بالإيجاز والوضوح والصدق))  [25]  .

وإذا ما وصلنا إلى العصر الإسلامي، فإنَّنا نجد أنَّ الرَّسائل قد لقيت حظَّاً من الاهتمام من لدُن الرَّسول صلى الله عليه وآله، فقد كان الرَّسول الكريم صلى الله عليه وآله يكاتب الملوك والأُمراء بكثير من الرسائل، ويدعوهم فيها إلى الإسلام الحنيف  [26]  ، وكان كثيراً ما يكتب عهود الأمان والمعاهدات بينه وبين المشركين أو غيرهم من الديانات الأُخرى، وكان صلى الله عليه وآله في معظم هذه الرَّسائل أو العهود لا يعتني بتحبير أو تزويق فنّي، بل كان يؤدي غرضاً سياسيَّاً في صورة موجزة من غير تكلّف أو صنعة  [27]  ، وهي بذلك قد خلت من السَّجع والبديع اللّفظي وكانت ((أقرب إلى لغة المحادثة والتَّخاطب))  [28]  .

‏وكذلك الحال في الحقبة التي تلت زمن النبي الأعظم صلى الله عليه وآله، إذ لم يُطلب في الرسائل التي كتبها الحكّام آنذاك أيّ ضربٍ من ضروب التَّزيين والتَّنميق، فهي كالرَّسائل التي عهدناها في حياة الرَّسول صلى الله عليه وآله، رسائل أدَّت دورها ببساطةٍ ويُسْرِ على المستوى اللّغويّ دون صنعةٍ ولا غموض ولا كهانةٍ ولا لبسٍ  [29]  .

الرَّسائل الفنيّة في ثورة التَّوابين وإمارة المختار

‏تميَّزت الرَّسائل في العصر الأُموي بكثيرٍ من الخصائص الأُسلوبيَّة والسّمات الفنيَّة، وهذه الخصائص والسّمات كانت امتداداً لرسائل عصر صدر الإسلام، فقد توافقت في شكلها العام من حيث البناء ومن حيث بعض الأساليب الفنية  [30]  ، ولكن سمات التَّطور والإنضاج الفنّي ما لبثت أنْ طرأت على كثير من تلك الرَّسائل فيما بعد.

وكانت هناك العديد من العوامل التي أدَّت إلى هذا التَّطور الفنِّي، منها: تشعُّب مواضيع الرَّسائل، وتنوّع أغراضها، وتولّي الكتّاب إنشاء رسائلهم بأُسلوبهم الفصيح، وكان الكتّاب قد حظوا بالمكانة الرفيعة من الحكّام؛ الأمر الذي جعلهم يتنافسون فيما بينهم في الافتنان بأساليب الكتابة.

 وكان لأُسلوب القرآن الكريم في نفوس هؤلاء أثره البالغ، حتى أصبح المَعين الذي تنهل منه الرَّسائل كثيراً من معانيها وصورها  [31]  .

كلُّ هذه العوامل أدَّت إلى تطوّر فنّ الرَّسائل في هذا العصر؛ مما جعلها تتميز بعدَّة خصائص أُسلوبيَّة يجب أن نُشير إليها؛ لأنّ هذه الخصائص هي عينها ـ في الغالب ـ خصائص الفنّ التَّرسُّلي في حُقبتي التَّوابين والمختار، ومن هذه الخصائص ما يلي  [32]  :

1ـ شيوع استعمال السجع وتعمّده أحياناً، وهذا الملمح مهمٌّ جدَّاً في رسائل هذا العصر؛ لأنَّه ‏يدلُّ على إنضاجها وتطوّرها، وقد اتضح ذلك كثيراً في المكاتبات الفنيّة الرَّسمية وغير الرَّسمية، إذ حرص بعض المترسّلين على تعمّد استعمال حلية السَّجع لما يحقّقه من تنغيم وإيقاع في رسائلهم، وخير من مثّل هذا الجانب المختار بن أبي عبيد؛ لأنَّه تعمّد ذلك في مكاتباته وخُطبه.

‏2ـ اتّشاح الرَّسائل بغريب اللّفظ، وهذا من السّمات الأُسلوبيَّة التي تميَّزت بها رسائل هذا العصر، بل هي ظاهرة دلَّت على التّأنّق والإعداد لرسائل العصر الأُموي، وتتمثَّل هذه الميزة الأُسلوبيّة كثيراً في بعض رسائل المختار الثقفي.

3ـ الإيقاع والتنغيم الموسيقي؛ إذ حرص المنشئون على إظهار عناصر الإيقاع وألوان التَّنغيم الصَّوتي؛ كي يجعلوا نثرهم بالموقع الذي تهشُّ إليه النَّفس، فعمدوا إلى تحقيق هذه الغاية باستعمال صيغ معيَّنه، والجنوح إلى التَّوازن والتَّرادف وغيرها، وهذا واضح في معظم رسائل هاتين الحقبتين، كما في رسالة ابن صُرَد إلى سعد بن حذيفة، ورسالة المختار إلى الأحنف بن قيس  [33]  .

‏4ـ الجنوح إلى الإطناب وبسط المعاني وتفريعها، وهذا ما تمثَّل في رسالة سليمان بن صُرَد إلى سعد بن حذيفة بن اليمان.

‏5ـ استعمال التَّحميدات في فصول الرَّسائل، ويقصد بالتَّحميدات: إظهار الثَّناء والحمد للهU، وهي ظاهرة فنيَّة متأتّية من العصر الإسلامي، بل سمة واضحة في جميع الرَّسائل التي احتوتها هاتان الحقبتان، وهكذا تكون الرَّسائل التي وصلت إلينا من هاتين الحقبتين غير مختلفة في طابعها عن خصائص الرَّسائل في العصر الأُموي؛ فالرَّسائل التي وصلت إلينا من حُقبة التَّوابين خمس رسائل، وهي على النحو الآتي:

أ   سليمان بن صرد الخزاعي، رسالتان.

ب   سعد بن حذيفة اليمان، رسالة واحدة.

ج   المثنى بن محزبة العبدي، رسالة واحدة.

د   عبد الله بن يزيد، رسالة واحدة.

أما حُقبة المختار الثقفي، فقد أُثِر عنها ثماني عشرة رسالة، بحسب ما روتها كتب التاريخ، وكانت هذه الرَّسائل موزَّعة بين المختار ومناصريه ومناوئيه، وهذه الرَّسائل قد توزَّعت بحسب تدرَّجها الزَّمني على النحو الآتي:

أ   المختار بن أبي عبيد الثقفي، اثنتا عشرة رسالة.

ب   محمد بن الحنفية، ثلاث رسائل.

ج   عبد الرحمن بن سعيد بن قيس  [34]  ، رسالة واحدة.

د   عبد الله بن الزبير، رسالة واحدة.

هـ   عبد الله بن عمر، رسالة واحدة.

وقد تفاوتت هذه الرَّسائل كذلك من حيث الطّول والقصر، فقد تكون الرّسالة قصيرة جدَّاً كما في رسالة المختار إلى عبد الله بن عمر  [35]  ، ورسالة الأخير إلى عبد الله بن يزيد وإبراهيم بن طلحة  [36]  ، وكذلك رسالة عبد الرحمن بن سعيد إلى المختار وردّ المختار عليه  [37]  .

وقد تقتصر هذه الرَّسائل حتَّى تتحوَّل إلى إشارة خاطفة، أو رأي من الآراء، أو توجيه يوجهه المرسل، كما في رسالة المختار إلى عبد الرحمن بن سعيد التي لم تتجاوز بعضاً من الكلمات  [38]  . ولعلَّ السبب يعود إلى الظروف المحيطة بكلٍّ من المرسل والمرسل إليه.

النمط الثالث: العهود والوصايا في ثورة التوابين وإمارة المختار

تُعرف العهود بأنَّها: ((تكاليف تجيء في صَفِّ المبايعات، ومرابط المواثيق، يُقصد بها ضمان القول بالاتفاق، والتَّعاون، والنّصرة، أو التَّهادُن))  [39]  .

ولقد وُجِدَت العهود في العصر الجاهلي على شكل نوع من التَّحالف بين القبائل  [40]  ، لكن لقلَّة الكتابة والتَّدوين كان أكثرها يبقى عالقاً في ذاكرة الأطراف المتعاقدة، ودخلت مرحلة التدوين حينما جاء الإسلام؛ لأنَّ الرَّسول صلى الله عليه وآله أقام دولة مستقرَّة كَثُر فيها التَّدوين، وأصبحت الحياة تتطلَّب ذلك  [41]  .

ثم استمرَّت كتابة العهود في العصر الأُموي ـ عصر التَّوابين وإمارة المختار الثقفي ـ ولم تخرج عما كانت عليه في عصر قبل الإسلام أو الإسلامي، ولقد وصل إلينا من هذه العهود الدُّعاء الذي ردَّدته جماعات التَّوابين يوم الوقوف على قبر الإمام الحسين  علیه السلام قبل مواجهة العدوّ، فكان ذلك كالعهد قَطَعَه التّوابون على أنفسهم، يُشْهِدُون الله فيه على أنّهم خرجوا ثأراً للحسين  علیه السلام، وتوبة من عظيم جرمهم  [42]  .

ومنه الكلام الذي ردَّده المختار الثقفي على قبر الإمام الحسين  علیه السلام، وهو أيضاً كالعهد الذي قطعه متوعّداً بالثأر لدمه  علیه السلام  [43]  ، ويتميز هذان العهدان بكونهما قد جاءا شفاهاً، يضمِّن القائلان قولهما بالنُّصرة للإمام الحسين  علیه السلام، والأخذ بثأره من قاتليه، يرافق ذلك الشّعور بالنَّدم على قتله، والتباكي المثير للأشجان، والاستشعار بعدم جدوى الحياة، والاستعداد للشَّهادة.

أمَّا العهد الذي قطعه المختار بالأمان لعمر بن سعد بن أبي وقاص فقد جاء مكتوباً، ولم يخرج هذا العهد عن كُتب العهد المعروفة في الإسلام  [44]  .

أمَّا الوصايا، فأغلبها جاء في هاتين الحقبتين ضمن الخطب والرَّسائل، وفيها يبدو الخطيب أو المترسّل، موصياً واعظاً، وهذا يشابه ما كانت عليه بعض خُطب الرسول الكريم صلى الله عليه وآله، كخطبته في حُجَّة الوداع، حيث اشتملت على مجموعة من الوصايا، ومن هذه الخطب والرَّسائل التي جاءت مفعمة بالوصايا هي بعض خُطب سليمان بن صُرَد، ورسالة عبد الله بن يزيد إلى ابن صُرَد، وخطبة يزيد بن أنس في أصحابه، وخطبة إبراهيم بن الأشتر  [45]  .

ولقد أُثِرت أربع وصايا خالصة، أي: لم تقع ضمن خطبة أو رسالة وهي: وصيّتان للمختار إلى إبراهيم الأشتر  [46]  ، ووصيَّة المختار إلى يزيد بن أنس  [47]  ، ووصيَّة ليزيد بن أنس لأصحابه  [48]  .

 

( المحور الثاني في الجزء القادم إن شاء الله تعالى)

 

الكاتب: د. هاشم الزرفي

مجلة الإصلاح الحسيني – العدد الثامن

مؤسسة وارث الأنبياء للدراسات التخصصية في النهضة الحسينية

________________________________________

[1]     الفيروز آبادي، محمد بن يعقوب، القاموس المحيط مادة (نثر): ج2، ص138.

[2]     الزمخشري، محمود بن عمر، أساس البلاغة مادة (نثر): ج2، ص248.

[3]     اُنظر: عباس، عرفة حلمي، ‏شوقي ضيف، نقد النثر النظرية والتطبيق: قراءة في نتاج ابن الأثير النقدي والإبداعي: ص212.

[4]     شوقي ضيف، الفن ومذاهبه في النثر العربي: ص15.

[5]     اُنظر: عز الدين، إسماعيل، الأدب وفنونه دراسة ونقد: ص7 وما بعدها. شوقي ضيف، في النقد الأدبي: ص46 وما بعدها.

[6]     عباس، عرفة حلمي، ‏شوقي ضيف، نقد النثر النظرية والتطبيق: قراءة في نتاج ابن الأثير النقدي والإبداعي: ص217.

[7]     اُنظر: الأُسلوبية علم وتاريخ (بحث): ص133.

[8]     النص، إحسان، الخطابة العربية في عصرها الذهبي: ص29 ـ30.

[9]     شوقي ضيف، الفن ومذاهبه في النثر العربي: ص52.

[10]    النص، إحسان، الخطابة العربية في عصرها الذهبي: ص32.

[11]    اُنظر: الزيات، أحمد، تاريخ الأدب العربي: ص128.

[12]    اُنظر: طليمات، غازي، مختار الأشقر، عرفان، الأدب الجاهلي قضاياه أغراضه أعلامه فنونه: ص684.

[13]    الخفاجي، محمد عبد المنعم، الحياة الأدبية في عصر صدر الإسلام: ص58.

[14]    المصدر السابق: ص44.

[15]    شوقي ضيف، الفن ومذاهبه في النثر العربي: ص63.

[16]    اُنظر: الجاحظ، عمرو بن بحر، البيان والتبيين: ج1ص243.

[17]    شوقي ضيف، الفن ومذاهبه في النثر العربي: ص65.

[18]    اُنظر: شوقي ضيف، الفن ومذاهبه في النثر العربي: ص65ـ66.

[19]    شوقي ضيف، العصر الإسلامي: ص410.

[20]    خُطب التوابين بعد استشهاد الإمام الحسين   علیه السلام، المغزى والأُسلوب (بحث): ص13.

[21]    اُنظر: أحمد زكي صفوت، جمهرة خطب العرب في عصور العربية الزاهرة: ج2، ص58ـ64.

[22]    اُنظر: المصدر السابق: ص62ـ68.

[23]    شلق، علي، مراحل تطور النثر العربي في نماذجه: ج1، ص120.

[24]    شوقي ضيف، العصر الجاهلي: ص398.

[25]    اليازجي، كمال، الأساليب الأدبية في النثر العربي القديم: ص23.

[26]    الشايب، أحمد، الأُسلوب دراسة بلاغية تحليلية لأُصول الأساليب الأدبية: ص113.

[27]    اُنظر: شوقي ضيف، الفن ومذاهبه في النثر العربي: ص97ـ 98.

[28]    المقدسي، أنيس، تطوّر الأساليب النثرية في الأدب العربي: ص36.

[29]    خليف، مي يوسف، النثر الفني بين صدر الإسلام والعصر الأُموي دراسة تحليلية: ص37.

[30]    اُنظر: غانم، جواد رضا، الرسائل الفنيّة في العصر الإسلامي حتى نهاية العصر الأُموي: ص312.

[31]    اُنظر: المصدر السابق: ص313 ـ 314.

[32]    اُنظر: المصدر السابق: ص316ـ327.

[33]    الأحنف بن قيس بن معاوية بن حصين، أبو بحر التميمي، كان سيداً مطاعاً، أسلم في حياة النبي صلى الله عليه وآله، حدَّث عن الإمام علي  علیه السلام وأبي ذر الغفاري والعباس وغيرهم، توفّي سنة 76ﻫ في إمرة مصعب بن الزبير على العراق. للمزيد اُنظر: الذهبي، محمد بن أحمد بن عثمان، سير أعلام النبلاء: ج1، ص1038ـ1041.

[34]    وهو عبد الرحمن بن سعيد بن قيس، أحد عمَّال المختار على الموصل، قام بمساندة جيش المختار الذي بعثه بقيادة يزيد بن أنس لقتال جيش عبيد الله بن زياد. للمزيد اُنظر: الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الطبري: ج6، ص39.

[35]    اُنظر: أحمد زكي صفوت، جمهرة رسائل العرب في عصور العربية الزاهرة: ج2، ص122.

[36]    اُنظر: المصدر السابق.

[37]    اُنظر: المصدر السابق: ص127.

[38]    اُنظر: أحمد زكي صفوت، جمهرة رسائل العرب في عصور العربية الزاهرة: ج2، ص128.

[39]    شلق، علي، مراحل تطوّر النثر العربي في نماذجه: ج1، ص189.

[40]    اُنظر: علي حب الله، المقدمة في نقد النثر العربي مشروع رؤية جديدة في تقنيات البحث والكتابة: ص60.

[41]    اُنظر: شلق، علي، مراحل تطوّر النثر العربي في نماذجه: ج1، ص189.

[42]     عربي، محسن، أثر حركة التوابين في الأدب، خُطب زعمائها ورسائلهم (بحث): ص268. واُنظر: الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الطبري: ج5، ص589.

[43]    اُنظر: الخوارزمي، الموفق بن أحمد، مقتل الحسين للخوارزمي: ج2، ص187.

[44]    اُنظر: الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الطبري: ج6، ص60ـ61.

[45]    اُنظر: أحمد زكي صفوت، جمهرة خطب العرب في عصور العربية الزاهرة: ج2، ص60ـ61. وص118ـ 119.

[46]    اُنظر: الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الطبري: ج6، ص21ـ82.

[47]    اُنظر: المصدر السابق: ج6، ص40.

[48]    اُنظر: المصدر السابق: ج6، ص41.