الخطبة الثانية لصلاة الجمعة بإمامة الشيخ عبد المهدي الكربلائي في 12 شعبان 1437هـ الموافق 20 ايار 2016م

نقرأ على مسامعكم الكريمة مقاطع من كتاب الامام علي (عليه السلام) الى بعض عماله الذي خان الامانة واستحوذ على ما تحت يده من الاموال العامة – (كان من المقربين للإمام (عليه السلام) وجاهد معه ثم ولاه الامام على بعض ولايات المسلمين وقد ائتمنه على الرعية وكذلك على اموال الرعية لكنه خان الامانة .. فالإمام (عليه السلام) يعاتبه ويوبخه ثم يهدده بالعقوبة بسبب الخيانة)- ..

(كَأَنَّكَ لَمْ تَكُنِ اَللَّهَ تُرِيدُ بِجِهَادِكَ وَ كَأَنَّكَ لَمْ تَكُنْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَ كَأَنَّكَ إِنَّمَا كُنْتَ تَكِيدُ هَذِهِ اَلْأُمَّةَ عَنْ دُنْيَاهُمْ وَ تَنْوِي غِرَّتَهُمْ عَنْ فَيْئِهِمْ فَلَمَّا أَمْكَنَتْكَ اَلشِّدَّةُ فِي خِيَانَةِ اَلْأُمَّةِ أَسْرَعْتَ اَلْكَرَّةَ وَ عَاجَلْتَ اَلْوَثْبَةَ وَ اِخْتَطَفْتَ مَا قَدَرْتَ عَلَيْهِ مِنْ أَمْوَالِهِمُ اَلْمَصُونَةِ لِأَرَامِلِهِمْ وَ أَيْتَامِهِمُ اِخْتِطَافَ اَلذِّئْبِ اَلْأَزَلِّ دَامِيَةَ اَلْمِعْزَى اَلْكَسِيرَةَ فَحَمَلْتَهُ إِلَى اَلْحِجَازِ رَحِيبَ اَلصَّدْرِ بِحَمْلِهِ غَيْرَ مُتَأَثِّمٍ مِنْ أَخْذِهِ كَأَنَّكَ لاَ أَبَا لِغَيْرِكَ حَدَرْتَ إِلَى أَهْلِكَ تُرَاثَكَ مِنْ أَبِيكَ وَ أُمِّكَ فَسُبْحَانَ اَللَّهِ أَمَا تُؤْمِنُ بِالْمَعَادِ أَوَ مَا تَخَافُ نِقَاشَ اَلْحِسَابِ أَيُّهَا اَلْمَعْدُودُ كَانَ عِنْدَنَا مِنْ أُولِي اَلْأَلْبَابِ كَيْفَ تُسِيغُ شَرَاباً وَ طَعَاماً وَ أَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّكَ تَأْكُلُ حَرَاماً وَ تَشْرَبُ حَرَاماً وَ تَبْتَاعُ اَلْإِمَاءَ وَ تَنْكِحُ اَلنِّسَاءَ مِنْ أَمْوَالِ اَلْيَتَامَى وَ اَلْمَسَاكِينِ وَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُجَاهِدِينَ اَلَّذِينَ أَفَاءَ اَللَّهُ عَلَيْهِمْ هَذِهِ اَلْأَمْوَالَ وَ أَحْرَزَ بِهِمْ هَذِهِ اَلْبِلاَدَ.. فَاتَّقِ اَللَّهَ وَ اُرْدُدْ إِلَى هَؤُلاَءِ اَلْقَوْمِ أَمْوَالَهُمْ فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ ثُمَّ أَمْكَنَنِي اَللَّهُ مِنْكَ لَأُعْذِرَنَّ إِلَى اَللَّهِ فِيكَ وَ لَأَضْرِبَنَّكَ بِسَيْفِي اَلَّذِي مَا ضَرَبْتُ بِهِ أَحَداً إِلاَّ دَخَلَ اَلنَّارَ..

وَ وَ اَللَّهِ لَوْ أَنَّ اَلْحَسَنَ وَ اَلْحُسَيْنَ فَعَلاَ مِثْلَ اَلَّذِي فَعَلْتَ مَا كَانَتْ لَهُمَا عِنْدِي هَوَادَةٌ وَ لاَ ظَفِرَا مِنِّي بِإِرَادَةٍ حَتَّى آخُذُ اَلْحَقَّ مِنْهُمَا وَ أُزِيحَ اَلْبَاطِلَ عَنْ مَظْلَمَتِهِمَا).

الغرّة : الخدعة والاغفال.

الفيء: مال الغنيمة والخراج ، الازل : الخفيف الوركين فيكون سريعاً في جريه، الدامية : المجروحة والتي يخرج منها الدم.. ، الكسيرة: المكسورة اليد او الرجل..

رحيب الصدر: بمعنى الواسع، ورحيب الصدر يقال للشخص البارد المزاج والذي يملك سعة الصدر ولا يبالي في مواجهة الامور المثيرة..

التأثم: التحرز من الاثم، الشعور بالذنب.

حَدَرت : اسرعت اليهم من مادة حَدَر بمعنى الهبوط والنزول الى الاسفل.

شبه الامام (عليه السلام) احد عماله الذي خان الامانة واستحوذ على ما تحت يده من الاموال العامة بمن لم يرد الله تعالى والاخرة بجهاده بل اراد الدنيا والمال فلم تكن نيته خالصة لوجه الله تعالى في امر الجهاد وبمن لم يكن على معرفة بينة بوعد الله ووعيده بالعقاب لمن يستولي على اموال الاخرين بغير حق، وكذلك شبهه بمن يستغفل الناس ويكيدهم عن دنياهم فلم يكن له غرض من عبادته الا خدعة المسلمين عن دنياهم..

(فَلَمَّا أَمْكَنَتْكَ اَلشِّدَّةُ فِي خِيَانَةِ اَلْأُمَّةِ أَسْرَعْتَ اَلْكَرَّةَ)

أي ترصد الفرصة في اخذه وانتهزها حينما وجدها مانحة له في اخذ المال بأسرع بالوثوب على الخيانة في اخذ المال، وشبّه اختطافه لما اخذه من المال باختطاف الذئب الازل دامية المغري الكسيرة، ووجه الشبه بسرعة اخذه له وخفته له في ذلك..

ان قراءة هذه الرسالة لا يراد منها – فقط- قراءة رسالة تاريخية لحادث خيانة من قبل احد عمال الامام (عليه السلام) بل يراد العظة والاعتبار للأشخاص الذين يؤتمنون الآن على اموال الرعية واموالهم ويشمل من ائتمنه الناس على ذلك..

وخصّ الذئب الازل وشبهه به لأن خفة الوركين تعينه على سرعة الوثبة والاختطاف، ودامية المغري الكسيرة لأنها امكن للاختطاف لعدم قدرتها على الهروب والدفاع عن نفسها.

(فَحَمَلْتَهُ إِلَى اَلْحِجَازِ رَحِيبَ اَلصَّدْرِ بِحَمْلِهِ)

ثم اخبر في معرض التوبيخ له انه حمل هذا المال الى وطنه في الحجاز وكنى بكونه رحيب الصدر به إمّا عن سروره وفرحه به او عن كثرة ما حمل منه فحدرت الى اهلك.. وكأنك باستحواذك على هذا المال العام وعدم تحرزك منه كأنك تحسبه ميراث ورثته من ابيك وامك..

قوله (عليه السلام) : (فَسُبْحَانَ اَللَّهِ أَمَا تُؤْمِنُ بِالْمَعَادِ)

ويظهر الامام (عليه السلام) تعجبه الشديد من هذا السلوك المنحرف لعامله.. فقد استفهم الامام (عليه السلام) على سبيل التعجب من حاله والانكار عليه على امرين:

احدهما:

عن ايمانه بالمعاد وخوفه من مناقشة الله تعالى يوم الحساب ثم نبهه انه كان معدوداً ومحسوبا عنده وفي نظره من اهل الايمان ومن ذوي العقول وعبر عنه بـ (كان) على انه في الماضي كان كذلك أي من اهل الايمان والعقول ولكن لم يبق عنده كذلك كما كان في الماضي.

الثاني :

عن كيفية استساغته للشراب والطعام مع علمه انه ما يأكله ويشربه وينكح به له او لعياله من هذا المال لكون مال المسلمين اليتامى منهم والمساكين والمجاهدين أفاء الله تعالى عليهم لمنفعة ومعيشة عباده وتعمير بلادهم- وفيه اشارة الى ان جميع حياتك ومعيشتك ملوثة بالحرام.

وهذه اشارة الى ان الشخص الذي يؤمن بالقيامة والمعاد والحساب على اكتساب الاموال واخذها ومصدرها لا يجوز له ان يتصرف في اموال المسلمين مثل هذا التصرف القبيح والمستهجن، فمثل هذا العمل يتقاطع مع الايمان والاعتقاد بيوم الحساب – او يكون ايمانه ضعيفا وظاهريا واما من قلبه- متعلق بالدنيا وقد نسي ونسي يوم القيامة وما سيواجهه من محاسبة على اعمالنا..

(فَاتَّقِ اَللَّهَ وَ اُرْدُدْ إِلَى هَؤُلاَءِ اَلْقَوْمِ أَمْوَالَهُمْ)

امره بعد التوبيخ الطويل بتقوى الله تعالى ورد اموال المسلمين وتوعده انه ان لم يفعل ذلك ثم امكنه الله من ان يعذر الى الله فيه ان يبلغ اليه بالعذر فيه ويقتله..

(وَ وَ اَللَّهِ لَوْ أَنَّ اَلْحَسَنَ وَ اَلْحُسَيْنَ فَعَلاَ مِثْلَ اَلَّذِي فَعَلْتَ مَا كَانَتْ لَهُمَا عِنْدِي هَوَادَةٌ وَ لاَ ظَفِرَا مِنِّي بِإِرَادَةٍ حَتَّى آخُذُ اَلْحَقَّ مِنْهُمَا وَ أُزِيحَ اَلْبَاطِلَ عَنْ مَظْلَمَتِهِمَا).

الهوادة : المصالحة والمصانعة لشخص بميل اليه وعاطفة نحوه.. اقسم ان ولديه على قربهما منه وكرامتهما عليه لو فعلا كفعله من الخيانة لم يراقبهما في ذلك حتى يأخذ الحق منهما ويزيح الباطل عن مظلمتهما من مال او غيره..

ومراده ان غيرهم بطريق اولى في عدم المراقبة له..

ومن البديهي ان مراد الامام (عليه السلام) لا يعني ابدا ان يقوم الامام الحسن والحسين عليهما السلام بغصب اموال بيت المال بل المراد بيان المبالغة في هذا المطلب وانه لا احد مصون عن العقاب في حال تخلفه عن الحق والعدالة ..

ويبين الامام (عليه السلام) في هذا المقطع من كتابه من موقع التأكيد على ان المسائل العاطفية لا ينبغي ابدا ان تتدخل في الاحكام الالهية ولا ينبغي ان يكون التعامل وفقاً للروابط العائلية والنسبية على حساب إقامة العدل والحق.

الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة