في ذكرى ولادة سبط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، الإمام الحسن المجتبى عليه السلام، تتجدد القلوب بذكر سيرته العطرة، حيث كان عليه السلام مظهرًا حيًا لمعاني القرآن الكريم، ومصداقًا لقوله تعالى: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ (الحشر: 9) فكان في حياته مدرسة متكاملة تُجسّد معاني الإحسان والعفو والجود، كما جسّدها جده المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.
سخاؤه وإنفاقه في سبيل الله
لقد كان الإمام الحسن عليه السلام عنوانًا للكرم، حتى لُقّب بـ"كريم أهل البيت" فقد ذكرت المصادر الإسلامية أنه لم يُفوّت فرصةً للإنفاق في سبيل الله، بل تجاوز ذلك إلى درجة نادرة من الإيثار، إذ أنفق جميع أمواله مرتين، وقسّم أمواله ثلاث مرات، فكان يُخرج نصفها للمحتاجين ويبقي النصف الآخر لنفسه.
ورُوي أن معاوية بن أبي سفيان قدّم له صكًّا ثمينًا من الأموال والسلع أثناء رحلته إلى الشام، لكنه لم يرَ في ذلك ثروة تُضاف إلى ملكه، بل فرصة جديدة للإنفاق والإحسان، فوهب ذلك الصك لخادمه الذي كان يصلح نعله في تواضعٍ نبيلٍ يُحيي معاني العطاء الصادق.
وكان الإمام عليه السلام لا يكتفي بالعطاء بل يسعى لرفع كربات الناس، ففي إحدى المرات سمع رجلًا يدعو الله أن يرزقه عشرة آلاف درهم، فما كان منه إلا أن ذهب إلى بيته، وأمر بإعطائه المبلغ دون أن يسأله عن حاجته، تجسيدًا عمليًا لقوله تعالى: ﴿مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً﴾ (البقرة: 245).
ولم يكن عطاء الإمام الحسن عليه السلام ماديًا فقط، بل كان يرى في قضاء حوائج الناس عبادة عظيمة. فقد رُوي أنه كان معتكفًا في المسجد الحرام، فلما جاءه رجل يطلب منه المساعدة في قضاء حاجته، قطع اعتكافه وخرج معه، وحين سُئل عن سبب ذلك قال: "كيف لا أذهب معه، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: من ذهب في حاجة أخيه المسلم فقُضيت حاجته، كُتبت له حجة وعمرة، وإن لم تُقض، كُتبت له عمرة".
تواضعه عليه السلام: قرآن يمشي على الأرض
لم يكن الإمام الحسن عليه السلام يميز نفسه عن الناس رغم مكانته الرفيعة، بل كان أقرب ما يكون إلى الفقراء والمساكين، يخالطهم ويؤنسهم، تطبيقا لقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ (الحجرات: 10).
وذُكر أنه مرّ على جماعة من الفقراء الذين كانوا يأكلون فتيتًا من الخبز اليابس، فدعوه لمشاركتهم، فنزل عن فرسه، وجلس يأكل معهم حتى شبع، ثم دعاهم جميعًا إلى بيته، فأطعمهم وأكرمهم وكساهم، وقال لهم: "إن الله لا يحب المستكبرين".
وفي موقف آخر، صدر من أحد خدمه خطأ يستوجب العقوبة، فأسرع إلى الإمام الحسن عليه السلام يستشفع بآية من كتاب الله، قائلاً: ﴿وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ﴾ فابتسم الإمام في وجهه، وقال: "عفوت عنك" ثم تابع الخادم: ﴿وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ فزاد الإمام في إحسانه، وقال: "أنت حرّ لوجه الله" ولم يكتفِ بذلك، بل منحه ضعف ما كان يتقاضاه، ليكون هذا الموقف درسًا خالدًا في التسامح والعفو والإحسان.
الإمام الحسن عليه السلام: إشراقة نور في عالم القيم
هكذا كان الإمام الحسن المجتبى عليه السلام، تجسيدًا حيًا لمعاني القرآن الكريم، ومدرسة متكاملة للفضائل التي أرادها الله لعباده الصالحين. في ذكرى مولده الشريف، تتجدد القلوب بذكر شمائله العطرة، ليبقى مشكاةً للهدى، وسراجًا يضيء دروب الإنسانية إلى يوم الدين.
اترك تعليق