في ليلة أشرقت بنور السماء، وارتسمت على وجه الدهر آية من آيات العظمة، وُلد الإمام زين العابدين، علي بن الحسين عليه السلام، ليكون قبسًا من مشكاة النبوة، ومشكاة من نور الإمامة. جاء إلى الدنيا في زمن تتقاذفه الفتن، ليكون شاهدًا على أقدس ملحمة عرفها التاريخ، وحاملًا لرسالة الخلود بعد أن خضبت دماء الطهر أرض كربلاء.
كربلاء: ميلاد الوجع وميلاد الرسالة
ما أشد أن يولد الإنسان في قلب المأساة، وأن يفتح عينيه على جراح الأمة النازفة! عاش الإمام السجاد عليه السلام في ظلال المجد العلوي، واستقى من معين الحسين عليه السلام دروس الفداء، حتى جاء يوم الطف، يوم اصطفاء الدم، فكان شاهدًا على مذابح الطهر، حيث ذُبح والده الإمام الحسين عليه السلام، ورفاقه الأبرار أمام ناظريه، وسبيت عماته وأخواته، فذاق من كؤوس الألم ما لم يذقه بشر.
كان مريضًا يوم كربلاء، لكنه لم يكن عاجزًا عن حمل الرسالة. شاء الله أن يبقى الإمام السجاد عليه السلام ليحمل عبء الثورة، ويصوغ معالمها بالكلمة، تمامًا كما خطها الحسين عليه السلام بالسيف. فلئن سقطت السيوف من أيدي الشهداء، فقد رفعت الكلمة سيفها، وانطلقت من فم السجاد عليه السلام، فكانت أبلغ من حد السيف، وأمضى من حد الحسام.
في مجلس يزيد: كلمة تهز العروش
بعد كربلاء، ساقوا الإمام السجاد عليه السلام أسيرًا إلى مجلس الطاغية يزيد، يحسبون أن القيود ستخنق صوته، وأن الأسر سيكسر عزيمته. لكنهم لم يدركوا أنهم كانوا أمام ابن الحسين، سليل الوحي، الذي تربى في ظلال القرآن.
وقف الإمام هناك، وسيف البيان بين يديه، وسلاح الحق في قلبه، فخاطب الجمع بقوة اليقين، وسكب على رؤوسهم آيات الذكر الحكيم، حتى تزلزلت العروش، وانقلب السحر على الساحر.
كان صوته كوقع الرعد، يخترق جدران القصور، ويفضح زيف الطغاة، حتى اضطرب يزيد، وخاف أن تنقلب الأمور عليه، فأمر بفك قيود الإمام وإعادته إلى المدينة، حيث بدأ مرحلة جديدة من الجهاد، لا بالسيف، بل بالكلمة، والدعاء، والتربية الروحية والفكرية.
جهاد الكلمة: الثورة الصامتة
عاد الإمام إلى المدينة، يحمل في صدره ثورة لم تهدأ، لكنه أدرك أن مواجهة الطغيان بالسيف في تلك المرحلة تعني قتل الرسالة في مهدها، فاختار سلاحًا أقوى وأبقى: سلاح الدعاء والعلم والتربية.
في زمن كممت فيه الأفواه، ونُفي الحق في سراديب الظلم، انبرى الإمام ليعيد صياغة الوعي الإسلامي من جديد. لم تكن الصحيفة السجادية مجرد كلمات تُرتل، بل كانت زبورًا للروح، وإنجيلًا للثائرين، ودستورًا لتطهير القلوب من رجس الظلم والانحراف.
لقد أدرك أن الأمة لا تنهض إلا بتزكية النفس، ولا تتحرر إلا بالعودة إلى الله، فجاءت أدعيته كنفحات من السماء، تحيي القلوب التي أرهقتها المآسي. ففي دعائه للمجاهدين، رسم ببلاغة الأئمة معالم الجهاد الحق، فقال:
"اللَّهُمَّ وأَيُّمَا غَازٍ غَزَاهُمْ مِنْ أَهْلِ مِلَّتِكَ، أَوْ مُجَاهِدٍ جَاهَدَهُمْ مِنْ أَتْبَاعِ سُنَّتِكَ لِيَكُونَ دِينُكَ الْأَعْلَى وحِزْبُكَ الْأَقْوَى وحَظُّكَ الْأَوْفَى فَلَقِّهِ الْيُسْرَ، وهَيِّئْ لَهُ الْأَمْرَ، وتَوَلَّهُ بِالنُّجْحِ، وتَخَيَّرْ لَهُ الْأَصْحَابَ..."
ألم يكن في كلماته هذه امتدادٌ لنداء الحسين عليه السلام في يوم عاشوراء؟ ألم يكن في أدعيته جذوة الثورة التي لن تنطفئ أبدًا؟
منارة العابدين: الإمام الذي سجد حتى بكى الوجود
لم يكن الإمام السجاد عليه السلام زاهدًا معتزلًا، بل كان قائدًا، يتقدم الصفوف بروحه قبل جسده. ولقد سُمي "زين العابدين" لأنه جسّد العبودية بأسمى معانيها، وكانت سجداته أبلغ من خطب الوعاظ، وأعمق من دروس الفقهاء.
يقولون إنه كان يسجد حتى يبتل موضع سجوده بدموعه، فكان أشبه ما يكون بمحراب داوود، الذي أذاب الصخور بذكر الله. لكنه لم يكن يبكي عن ضعف، بل كان يبكي عن وعي، عن أمة ضلت سبيلها، عن أرواح لم تدرك بعد أن كربلاء لم تنتهِ، وأن الصراع بين الحق والباطل لا يزال قائمًا.
الإمام السجاد عليه السلام: ولادة الأمل وبقاء الرسالة
في ذكرى ميلاده الميمون، لا نحتفي بميلاد رجل عظيم فحسب، بل نحتفي بميلاد مدرسة، بمنهج، بنور ممتد عبر الأجيال. هو الإمام الذي حمل جراح كربلاء في قلبه، وحوّلها إلى طاقة تغييرية عظيمة، وهو الذي انتصر رغم الأسر، وغلب رغم القيود، وظل صوته صداحًا في الأفق:
"وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ" (آل عمران: 139).
سلامٌ عليك يا زين العابدين، يوم وُلدت، ويوم جاهدت، ويوم تسجد الأرواح حبًا لك حتى قيام الساعة.
اترك تعليق