مفهوم الاعتزال في القرآن الكريم :
يعد مفهوم الاعتزال من أهم المفاهيم في القرآن الكريم، حيث ورد في العديد من الآيات القرآنية وقد تشابهت معانيه في العديد منها ، إلّا أن المعنى الأساسي له في اللغة هو من مادة (عَزَلَ) الْعَيْنُ وَالزَّاي وَاللَّامُ أَصْلٌ صَحِيحٌ يَدُلُّ عَلَى تَنْحِيَةٍ وَإِمَالَةٍ.
تَقُولُ: عَزَلَ الْإِنْسَانُ الشَّيْءَ يَعْزِلُهُ، إِذَا نَحَّاهُ فِي جَانِبٍ.
وَهُوَ بِمَعْزِلٍ وَفِي مَعْزِلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، أَيْ فِي نَاحِيَةٍ عَنْهُمْ.
وَالْعُزْلَةُ: الاعْتِزَالُ. وَالرَّجُلُ يَعْزِلُ عَنِ الْمَرْأَةِ، إِذَا لَمْ يُرِدْ وَلَدَهَا.(1)
أقسام الاعتزال في القرآن الكريم :
وهو على قسمين رئيسين يمكن استخلاصهما من خلال الآيات القرآنية :
أولًا : الاعتزال الفردي
وهو أن يعتزل الفرد عن الجماعة بغض النظر عن الدافع الذي دفعه إلى الاعتزال ، فقد يكون الدافع والمحرك إلى الاعتزال هو دافع الإيمان ، أو الشرك، وللاعتزال الفردي العديد من الأنواع بحسب الآيات القرآنية :
١- الاعتزال الناتج من الكفر والنفاق :
حيث يعتزل الفرد جماعة المؤمنين ، ويسلب التوفيق عن الانضمام إليهم ، نتيجة لعمى قلبه وكفره ونفاقه، فيأخذه العذاب.
كما في قوله تعالى:{ وَنَادَىٰ نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ قَالَ سَآوِي إِلَىٰ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ}(2)
حيث أن المعزل اسم مكان من العزل وقد عزل الابن نفسه عن أبيه والمؤمنين في مكان لا يقرب منهم، ولذلك قال: (وَنَادَىٰ نُوحٌ ابْنَهُ) ولم يقل: وقال نوح لابنه
والمعنى: ونادى نوح ابنه وكان ابنه في مكان منعزل بعيد عنهم وقال في ندائه:
"يا بنى – بالتصغير والإضافة دلالة على الاشفاق والرحمة – اركب معنا السفينة ولا تكن مع الكافرين فتشاركهم في البلاء كما شاركتهم في الصحبة وعدم ركوب السفينة".(3)
ب- الاعتزال الناتج من الإيمان والاعتقاد الراسخ بالتوحيد:
حيث يعتزل الفرد جماعة الكفار ، رجاء التعرض لرحمة الله تعالى ،وخوفًا من عقابه ، فالمؤمن يعيش بين حالتي الخوف والرجاء ، فيفوز بالرحمة والمواهب الإلهية العظيمة ،كما في قوله تعالى :﴿وَأَعتَزِلُكُم وَمَا تَدعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَأَدعُواْ رَبِّي عَسَىٰٓ أَلَّآ أَكُونَ بِدُعَآءِ رَبِّي شَقِيًّا فَلَمَّا ٱعتَزَلَهُم وَمَا يَعبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَهَبنَا لَهُۥ إِسحَٰقَ وَيَعقُوبَ وَكُلّا جَعَلنَا نَبِيًّا ﴾(4)
فقد وعد النبي إبراهيم (عليه السلام) باعتزالهم والابتعاد عنهم وعن أصنامهم ليخلو بربه ويخلص الدعاء له رجاء أن لا يكون بسبب دعائه شقيًا و إنما أخذ بالرجاء لأن هذه الأسباب من الدعاء والتوجه إلى الله ونحوه ليست بأسباب موجبة عليه تعالى شيئًا بل الإثابة والإسعاد ونحوه بمجرد التفضل منه تعالى، على أن الأمور بخواتمها .(5)
ج-الاعتزال الناتج من طاعة الأوامر والأحكام الإلهية :
وهو يكون باعتزال الفرد فعلًا معينًا امتثالًا للأوامر الإلهية ، كما في قوله تعالى : :﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ (6)
حيث يعتزل الزوج عن مقاربة زوجته في أيام الحيض ،وهو أخذ العزلة والتجنب عن المخالطة والمعاشرة، يقال: عزلت نصيبه إذا ميزته ووضعته في جانب بالتفريق بينه وبين سائر الأنصباء، والقرب مقابل البعد يتعدى بنفسه وبمن، والمراد بالاعتزال ترك الإتيان من محل الدم .(7)
ثانيًا : الاعتزال الجماعي :
وهو أن يعتزل جماعة عن بقية قومهم ، نتيجة لإيمانهم وحفاظًا على دينهم، كما في قصة أصحاب الكهف في قوله تعالى :﴿ وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا﴾(8)
هؤلاء الفتية الموحدون قاموا بما يستطيعون لإزالة صدأ الشرك عن قلوب الناس، وزرع غرسة التوحيد في مكانها، إلّا أن ضجة عبادة الأصنام في ذلك المحيط الفاسد، وظلم الحاكم الجبار كانتا من الشدة بحيث حبستا أنفاس عبادة الله في صدورهم وانكمشت همهمات التوحيد في حناجرهم.
وهكذا اضطروا للهجرة لإنقاذ أنفسهم والحصول على محيط أكثر استعدادًا وقد تشاوروا فيما بينهم عن المكان الذي سيذهبون إليه ثم كان قرارهم: (وإذا اعتزلتموهم وما يعبدون إلّا الله فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقًا) .(9)
أهمية مفهوم الاعتزال :
نستنتج من خلال الآيات القرآنية السابقة أهمية مفهوم الاعتزال بالنسبة للمؤمنين، فقد يكون الاعتزال ضروريًّا للحفاظ على النفس و الدين ، عندما يتلوث المجتمع بالفساد والانحراف ، ويخاف المؤمنون القتل ولا يستطيعون مواجهة الظالمين ، فيكون الاعتزال هو السبيل الوحيد أمامهم ، نصرة لدين الله تعالى، فيحفهم الله برحمته ، ويؤيدهم بنصره.
المصادر والمراجع
(1)ابن فارس ،معجم مقاييس اللغة ،ج4، ص 307 .
(2)سورة هود :42،43.
(3) الطباطبائي ، تفسير الميزان ،ج10، ص229 ، بتصرف.
(4)سورة مريم :48-49.
(5)مصدر سابق ،ج14،ص61، بتصرف ،
(6) سورة البقرة : 222.
(7) مصدر سابق ، ج2، ص 208، بتصرف.
(8)سورة الكهف :16.
(9) الشيرازي ، ناصر مكارم ، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل ، ج9، ص 210.
الباحثة : أفياء طالب عزيز
اترك تعليق