الفتنة الثالثة: زواجه من بنت المأمون العباسي
إنّ الفترة الزمنية من إمامة أبي جعفر الجواد (عليه السلام) تميزت بمعاصرته لشخصية ماكرة ذات دهاء سياسي وأسلوب وتحطيط وتكتيك, تميزت بها عن كثير من الشخصيات التي سبقت وتوالت على الحكم من آباءه، لقد تصدى المأمون لمواجهة الأئمة (عليهم السلام) الذي شهد له التاريخ بأنّه أدهى حكام وملوك بني العباس، كما أنّ معاوية من قبل كان داهية بني أمية.
إنّ من سبق المأمون من حكام وملوك وولاة عمدوا إلى مواجهة الأئمة (عليهم السلام) وأتباعهم بطريق مباشر وبأبشع الطرق وحدّ السيف بالحديد والنار، كان المأمون على اطلاع على الكيفية التي كان أبوه يتعامل بها مع الشيعة بقسوة، إلا أنّه علم بأنّ هذا الأسلوب المتشدد مع الشيعة وأئمتهم لن يزيدهم إلا قوة، ولن ينحيهم عن خطهم، بل أنّه سيزلزل حكم وسلطان بني العباس كما زلزل من قبلهم حكم وسلطان بني أمية.
لقد اتبع المأمون سياسة جديدة مع الشيعة تتركز وتبتني على محاولة تضعيف الفكر الشيعي, وتفكيكه والطعن به من الداخل؛ لزلزلة اعتقادهم في دينهم, وإزالته من وجدانهم وضمائرهم ونفوسهم؛ فيقضي عليهم فلا تقوم لهم قائمة.
لاحظ المأمون أنّ الإمامة هي الدرع الحصين, والأساس الذي يحافظ على هذا الخط الإلهي ويصحح الفكر؛ ومن هنا سعى لتحطيم هذا الفكر في نفوس الشيعة من خلال جبر الإمام على الزواج من إبنته أم الفضل؛ فيحقق عدّة أمور:
الأمر الأول: تحطيم عقيدتهم بعلم الإمام (عليه السلام) من خلال تشكيل المناظرات مع أبرز علماء البلاط العباسي الذين تصل يده إليهم أمثال يحيى بن أكثم فإنّ المأمون كان واثقاً بقدرة يحيى بن أكثم قاضي القضاة, الذي كان متضلعاً في الفقه, وكان المأمون معجباً به أيّما إعجاب حيث منحه منصباً كبيراً هو قاضي القضاة، وبلغ إعجابه به أن أضاف إليه منصباً أخر هو إدارة الحكم وتولي ديوان المحاسبات والإشراف على جميع أعمال الدول الاسلامية الكبيرة, وهذه الطريقة فعلها المأمون من قبل مع أبيه الرضا (عليه السلام)، وكان يدعو للحضور رؤساء القوم وأشرافهم علّه يحصل اشتباه أو توقف فيحصل مراد المأمون.
الأمر الثاني: زلزلة عقيدة الشيعة بعصمة الإمام (عليه السلام) من خلال استدعائه إلى دار الخلافة ليعيش في بذخ القصور بشكل يسقط مفهوم العصمة, والزهد الذي يتصفون به, عَنِ الْحُسَيْنِ الْمُكَارِي قَالَ: (دَخَلْتُ عَلَى أَبِي جَعْفَرٍ بِبَغْدَادَ وَهُوَ عَلَى مَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ. فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: هَذَا الرَّجُلِ لَا يَرْجِعُ إِلَى موطنه أَبَداً، وَأَنَّا أَعْرِفُ مَطْعَمُهُ. قَالَ: فَأَطْرَقَ رَأْسِهِ، ثُمَّ رَفَعَهُ وَقَدْ اصْفَرَّ لَوْنُهُ فَقَالَ: يَا حُسَيْنُ خُبْزِ شَعِيرٍ، وَمِلْحُ جَرِيشَ فِي حَرَّمَ جَدْيُ رَسُولُ اللَّهِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا تَرَانِي فِيهِ)[1].
الأمر الثالث: رصد تحركات الإمام فوجود ابنة المأمون في بيت الإمام هو وجود لجهاز استخباراتي يحوط بالإمام حتى في داخل بيته؛ لمعرفة ما يخططه الإمام؛ وبهذا يضمن المأمون عدم خروج الملك عن بني العباس.
الأمر الرابع: ضمان عدم خروج الثورات، إنّ ضم الإمام إلى بلاطهم يصوره كشخص تابعٍ للسلطان؛ فيتحول الشيعة من معارضين إلى أتباع لسلطان بني العباس وحكمهم، وبهذا يضمن عدم خروج الثوار ضد سلطان بني العباس وحكامه.
الأمر الخامس: إنّ عمل الشيعة بالتقية والخفاء يشكل مشكلة حقيقية بالنسبة للدولة، وقرب الإمام من المأمون ووقوعه تحت نظره في جميع الأوقات يسمح للمأمون برصد جميع تحركات الإمام (عليه السلام) واتصالاته وبالتالي كشف وجهاء الشيعة.
الأمر السادس: جعل الإمام في بيتهم وتقريبه، وتحين الفرصة المناسبة لقتله من دون إثارة الشكوك، أو توجيه تهمة القتل إليهم بحجة حبهم للإمام وتزويجه إبنت المأمون، وقد كانت الشيعة تعلم ذلك وتتخوف على الإمام، فعن مُحَمَّدُ بْنِ عَلِيِّ الْهَاشِمِيِّ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي جَعْفَرٍ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) صَبِيحَةُ عُرْسِهِ حَيْثُ بَنَى بِابْنَةِ الْمَأْمُونِ وَكُنْتُ تَنَاوَلَتْ مِنَ اللَّيْلِ دَوَاءً فَأَوَّلُ مَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ فِي صَبِيحَتِهِ أَنَا وَقَدْ أَصَابَنِي الْعَطَشُ وَكَرِهْتُ أَنْ أَدْعُوَ بِالْمَاءِ فَنَظَرَ أَبُو جَعْفَرٍ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) فِي وَجْهِي وَقَال: أَظُنُّكَ عَطْشَانُ؟ فَقُلْتُ: أَجَلٍ، فَقَالَ: يَا غُلَامُ أَوْ جَارِيَةُ اسْقِنَا مَاءً فَقُلْتُ: فِي نَفْسِي السَّاعَةَ يَأْتُونَهُ بِمَاءِ يُسَمُّونَهُ بِهِ؛ فَاغْتَمَمْتُ لِذَلِكَ فَأَقْبَلَ الْغُلَامِ وَمَعَهُ الْمَاءُ فَتَبَسَّمَ فِي وَجْهِي ثُمَّ قَالَ، يَا غُلَامُ نَاوِلْنِي الْمَاءِ فَتَنَاوَلَ الْمَاءِ، فَشَرِبَ ثُمَّ نَاوَلَنِي فَشَرِبْتُ، ثُمَّ عَطِشْتُ أَيْضاً وَكَرِهْتُ أَنْ أَدْعُوَ بِالْمَاءِ فَفَعَلَ مَا فَعَلَ فِي الْأُولَى، فَلَمَّا جاءَ الْغُلَامِ وَمَعَهُ الْقَدَحِ قُلتُ: فِي نَفْسِي مِثْلَ مَا قُلْتَ فِي الْأُولَى، فَتَنَاوَلَ الْقَدَحِ، ثُمَّ شَرِبَ فَنَاوَلَنِي وَتَبَسُّمُ)[2].
وهذه الرواية تدل دلالة صريحة على أن خطة المأمون كانت مكشوفة ليس عند الإمام فقط، بل عند كثير من أصحاب وشيعة أهل البيت (عليهم السلام).
مأساة الرحيل
في سن الشباب وفي بدايات العقد الثالث من عمر الإمام الشريف أتخذ القرار النهائي من قبل سلاطين البلاط العباسي لتصفية الإمام جسدياً من خلال الاغتيال من داخل أروقة بيته، من امرأة فضة وخبيثة وحاقدة, حرمها الله لشدّة دناءتها أن ترزق بمولود عن الإمام بالرغم من كثرة ذريته، كما أخبر جده الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام), لقد حصدت يد المعتصم الآثمة ما زرعته يد الإجرام فهيّأ له أخوه المأمون قتل الإمام الجواد (عليه السلام) بدسّ السم عن طريق ابنة المأمون ــ زوجة الإمام الجواد ــ فعانى ثلاث حرارات قبل شهادته، حرارة الصيف وحرارة السم وحرارة الشباب، ليمضي (عليه السلام) بعد هذه المعاناة شهيدا ً في آخر ذي القعدة من عام 220هـ، حيث بقي جسده الطاهر ثلاثة أيام على سطح الدار تحت أشعة الشمس، فسلام عليه يوم ولد، ويوم يموت، ويوم يبعث حيا مع آبائه الطاهرين وأبنائه المنتجبين.
الهوامش:-----
([1])قطب الدين الراوندي, الخرائج والجرائح ج ١ ص ٣٨٣.
([2])الشيخ الكليني, الكافي ج ١ لص ٤٩٦.
اترك تعليق