بعد انتهاء المعركة توجّه عمر بن سعد إلى الكوفة، وأخذ من بقي في معسكر الإمام الحسين عليه السلام سبايا، وعند دخول موكب السبايا إلى الكوفة خطب الإمام السجاد خطبة قال فيها: "أيها الناس من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، أنا ابن من انتهكت حرمته، وسلبت نعمته، وانتهب ماله، وسبي عياله، أنا ابن المذبوح بشط الفرات من غير ذحل ولا ترات، أنا ابن من قُتل صبرا وكفـى بذلـك فـخرا"[1]، فالإمام السجاد عليه السلام يعرّف بنفسه، ويذكر أنه ابن الحسين بن علي بن أبي طالب، ثم يذكر عدة صفات لأبيه الحسين عليه السلام الشهيد يفضح بوساطتها ما فعله المجرمون الغادرون بأبيه من جرائم فظيعة، ومنها أنهم انتهكوا حرمته، وسلبوا نعمته، وانتهبوا ماله، وسبوا عياله، وذبحوه وقطعوا رأسه ورفعوه على القناة، ثم قال: (أنا ابن من قُتل صبرا وكفى بذلك فخرا)، وهنا أسأل:
لماذا قال: (قُتل صبرا)، ولم يقل (قُتل) فقط؟
وما الإشارات السيميائية التي يبعثها قوله: (قُتل صبرا)؟
إن الإمام السجاد عليه السلام أراد أن يبيّن أنّ أباه الحسين عليه السلام قد غُدِر به ولم يقتل قتلة عادية، بل قُتِل صبرا، وهو بذلك يشير إلى خسّة قتلته وحقدهم ودناءتهم وغدرهم، فقد جاء في معنى القتل صبرا: "وصبرُ الإنسان وغيره على القتل: أن يُحبس ويُرمى حتى يموت. وقد قتله صبرا"[2]، فهو يخبر عما فعله المجرمون بأبيه الحسين عليه السلام، فقد جعجعوا به وحاصروه في أرض كربلاء، وحبسوه في هذه القطعة من الأرض، ومنعوه من الذهاب إلى أي مكان آخر، ومنعوا عنه الماء والطعام، وبعد قتل أصحابه وأهل بيته، حاصروه وحيدا من كل جهة، ورموه بالنبال والسهام والحجارة، ومزّقوا جسده الطاهر بسيوف غدرهم ولؤمهم، ثم قتلوه أبشع قتلة بقطع رأسه ورفعه على رأس رمح طويل، ثم داسوا جسده الطاهر بحوافر خيولهم، أفلا يعد هذا القتل صبرا وليس قتلا عاديا؟، ويبدو أن الإمام السجاد أراد الإشارة إلى هذه المعاني وغيرها حينما قال: (قُتل صبرا)، ثم أردف قوله هذا بقوله: (وكفى بذلك فخرا)، فهو يفتخر بهذه القتلة التي أصابت أباه عليه السلام، ويبيّن أنها كفى بها فخرا يفتخر به الإمام السجاد وأهل البيت عليهم السلام وأتباعهم؛ وذلك لأنها:
1. كشفت عن صبر أبيه الحسين عليه السلام غير المحدود الذي فاق صبر الصابرين، وأثارت إعجاب البشرية بأجمعها، ولفتت أنظارها، وبيّنت تسليمه المطلق لإرادة الله تعالى، كيف لا وهو القائل حينما سقط عن فرسه:
"صبرا على قضائك يا رب، لا إله سواك يا غياث المستغيثين، ما لي ربٌ سواك ولا معبود غيرك، صبرا على حكمك يا غياث من لا غياث له"[3].
2. بيّنت بشكل واضح لا مراء فيه الوجه القبيح لأعدائه، وقسوتهم، وحقدهم الأسود، وعمى بصيرتهم، وأنهم على باطل وأن الحسين عليه السلام على حق، وأظهرت وقوفهم مع الباطل ضد الحق، وكفى بذلك فضيحة لهم على رؤوس الأشهاد، وكفى بذلك فخرا للإمام الحسين عليه السلام وأهل بيته وأتباعه.
3. أظهرت غدر أعداء الحسين عليه السلام به، وعدم التزامهم بعهودهم ومواثيقهم له، فبعد أن وعدوه بنصرته والقتال في صفّه ضد الأعداء، فإذا بهم ينقلبون عليه شرّ انقلاب، ويقتلونه صبرا قتلة غادرة جبانة تبين حقيقة معادنهم، وانعدام ضمائرهم، وانحطاطهم وخسّة نفسياتهم وحقارتها التي طوّعت لهم قتل الحسين عليه السلام هذه القتلة البشعة، فيما أظهرت من جانب آخر صدق الحسين عليه السلام، وعظمة شخصيته، وشجاعته، وإخلاصه لهم، فقد جاء مسرعا لنجدتهم حينما طلبوا منه ذلك، مع خطورة الأوضاع، وصعوبة الظروف، فدفع حياته الشريفة ثمنا لذلك، وقتل صبرا، وكفى بذلك فخرا له ولأهل بيته وأتباعه.
الهوامش:------------------------------------------------
[1] مقتل الحسين، 333. وينظر: نفس المهموم: 395.
[2] مختار القاموس، 348، مادة صبر.
[3] مقتل الحسين، 297.
اترك تعليق