مصاديق حديث الثقلين القرآنيَّة دراسة تحليليَّة، الآية (55) من سورة المائدة أنموذجًا

 

 

لقد أفرزت المنظومة الحديثيَّة ترجمة لمسارات الدين الإسلامي على نحوٍ تأسيسيٍّ وتكميليٍّ لا يضلُّ العباد بعدها ولا يشقى، والمتأمِّل فيها يجد منها- الأحاديث النبويَّة- مضامينَ قرآنيَّةً بألفاظٍ محمديَّةٍ، ونفثاتٍ قدسيَّةً بألفاظٍ نبويَّةٍ، وفي كلِّها مصداقٌ لـ ( ما ينطق عن الهوى) وفي أيٍّ منها تأمَّلت تلحظ صداها القرآنيَّ حاضرًا؛ حتى انبثقت قاعدة (العرض)([1]) لتكشف عن أصيل الأحاديث من لصيقها، وعلى هدي ذلك تجري هذه السطور لمقاربة آيات الثقلين في القرآن الكريم فانتُخِبت الآية من قوله تعالى: ((إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءامَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ))([2]) لتكون منطلقًا لقراءة حديث الثقلين ((إنِّي تارك فيكم الثقلين، أحدهما أكبر من الآخر: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض ))([3]) فالمتأمِّل في هذا التطابق يجده دقيقًا جدًّا، بيد أنَّه تأسيسيٌّ في الآية المباركة، وتكميليٌّ في الحديث الشريف على نحو التفاعل لتنتج استمراريَّة الهداية، ولنا أن نحلل مضامينهما بحسب الآتي:

تعود لفظة (وَلِيُّكُمُ) إلى جذرها (ولي) وهي ((أصل صحيح يدل على قرب))([4])ومن معانيها(( المتولي لأمور العالم والخلائق القائم بها ... قال ابن الأثير: وكأنَّ الولاية تشعر بالتدبير والقدرة والفعل... ابن السكيت: الولاية، بالكسر، السلطان))([5]) و(الثقلين) واحده ((ثِقَلٌ، أَصْلٌ وَاحِدٌ يَتَفَرَّعُ مِنْهُ كَلِمَاتٌ مُتَقَارِبَةٌ، وَهُوَ ضِدُّ الْخِفَّةِ))[6]وقد شكَّل كلٌّ من لفظ(وليُّكم) في الآية، ولفظ(الثقلين) في الحديث مركز الملفوظ في سياقيهما، وفتحا مسارًا لتبنى عليهما الملفوظات شكلًا، وتترتب عليهما المقاصد معنًى، وينبئ سياق الآية عن معنى(وَلِيُّكُمُ) هو ((الأولى بالتصرف ، والإمام دون الناصر والمحب ; لأن حصر النصرة والمحبة في المؤمن المعطي للزكاة في حال الركوع غير مستقيم لتحققهما في المؤمن مطلقًا وإذا كان الولي بالمعنى المذكور كانت نسبة الولاية إلى الله تعالى من باب نسبة ما لأوليائه إليه))([7]) ويشعر التركيب المحصور بـ(إنَّما) عن ((وجوب اختصاصهم بالموالاة. فإن قلت: قد ذكرت جماعة، فهلا قيل إنما أولياؤكم؟ قلت: أصل الكلام: إنما وليكم اللَّه، فجعلت الولاية للَّه على طريق الأصالة، ثم نظم في سلك إثباتها له إثباتها لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه] وآله ]والمؤمنين على سبيل التبع))([8])وإذا كانت الولاية لله والرسول مسلَّمًا بها، فقد حدث تناوش وخلاف في ولاية( الذين آمنوا) بيد أنَّ الأسلوب القرآنيَّ كان دقيقًا في تخصيصهم؛ بقوله تعالى: (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ) إذ أجمع المسلمون على أنَّها نزلت في الإمام علي(عليه السلام)([9]) و وُجِّه لفظ الجمع لإيراد المبالغة([10]) ولعلَّه منظور إلى ذريَّته من الأئمة المعصومين(عليهم السلام) والعطف في الآية للتشريك بالحكم مع لحاظ الرتبة في التقديم([11])، ويفصِّل الإمام علي(عليه السلام) القول في وصف أولياء الله سبحانه قائلًا: ((إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ هُمُ الَّذِينَ نَظَرُوا إِلَى بَاطِنِ الدُّنْيَا إِذَا نَظَرَ النَّاسُ إِلَى ظَاهِرِهَا وَ اشْتَغَلُوا بِآجِلِهَا إِذَا اشْتَغَلَ النَّاسُ بِعَاجِلِهَا ... بِهِمْ عُلِمَ الْكِتَابُ وَ بِهِ عَلِمُوا وَ بِهِمْ قَامَ [كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى‏] الْكِتَابُ وَ بِهِ قَامُوا لَا يَرَوْنَ مَرْجُوًّا فَوْقَ مَا يَرْجُونَ وَ لَا مَخُوفًا فَوْقَ مَا يَخَافُونَ))([12]) فلا يحتمل كون الولي بمعنى الناصر، بل الإمام المعصوم الحاكم المتصرف بأمور المسلمين.

إنَّ مجيء الخبر على المسار الاسمي يوحي بثبوت الولاية فيهم، وتصدُّر الفعل المضارع في صدر الصلة(يقيمون) و(يؤتون) لينبئ عن استمرار الولاية في (أهل البيت) عليهم السلام([13]) مع لحاظ أنَّ الآية نزلت في مرحلة التأسيس والدعوة إلى توحيد الله سبحانه، وبيان أولياء المسلمين الذين تجب طاعتهم؛ لأنَّ في ذلك توحيدًا لله سبحانه، فهي قدَّمت ثقلين أحدهما يدرك بالعقل وهو (الله) سبحانه، والآخر مصداق مستمر يعيش بين الناس ليترجم التعاليم السماويَّة ويعلِّمها للعباد، وهذا يتفق مع مضمون حديث الثقلين، بل يُعدُّ أساسًا لفكرته، بيد أنَّ ألفاظه جاءت لتحول عن الضلالة بشرط التمسك بالثقلين اللذين نجدهما قد انحصرا بالقرآن الكريم الذي يقابل الذات المقدَّسة بوصفه كلامه سبحانه، ومصداقه ومعلِّمه هم أهل البيت (عليهم السلام) بوصفهم ترجمانه، ويمثل الرسول الرباط الجامع بين الوحي والأئمة (عليهم السلام) وهذا يدحض رواية (سنتي) لأنَّ القرآن مكتوب يحتاج إلى الناطق العالم به ليبثَّ علومه للعباد وهم أهل البيت(عليهم السلام)، بخلاف(وسنَّتي) لأنَّها هي الأخرى تحتاج - إلى جنب القرآن- من يوضِّحها، فلا يجتمع مضمونان من دون مصداق عقلًا، بل تقتضي التركة- إنِّي تارك- مضمونًا، ومصداقًا لذلك المضمون، ولو كان غير ذاك لذهبت كلُّ طائفةٍ بما تفهمُ بحسب أكثر المخالفينَ لآيات الثقلين والحديث.

إذا تأمَّلنا بنية حديث الثقلين نجدها قد صُدِّرت بتوكيد غير مكفوف (إنِّي) بينما جاء في مفتتح الآية مكفوف بـ(ما) ليخصص هناك معنى، ويؤكّد هنا عملًا ومعنى، و(تارك) اسم فاعل وقع تأثيره على لفظ(الثقلين) ليوحي بتماسك نصي متين السبك، وقُرن ذلك التوكيد بتأبيد النفي الذي تفيده (لن) فهما-الثقلان- الحصن المنيع من الضلال، وأُكِد عدم افتراقهما بتكرار الأداة (لن) إلى قيام الساعة.

خلاصة القول: إنَّ لحديث الثقلين مصاديق قرآنيَّة تؤكِّده، ولم يكن بدعا من القول- والعياذ بالله- حتى تُحرَّف روايته بحسب الأهواء والمشارب؛ لأنَّه (صلى الله عليه وآله) لا ينطق عن الهوى، وإنَّ لفظ (الولاية) مخصوص بالله سبحانه، والرسول وأهل بيته (عليهم السلام) ولا تشمل المؤمنين عامة بحسب قول بعض المفسرين ورواة الحديث، وقد ورد لفظ (الولاية) مفردًا، والمصاديق متعددة ليوحي بوحدة الهدف وهو عبادة الله وحده؛ لأنَّ ولاية أهل البيت تستلزم ولاية الرسول و ولاية الله سبحانه؛ لأنَّهم امتداد لما نزل من السماء من تعاليم، الأمر الذي أصبح رضا الله رضاهم(عليهم السلام) لأنَّهم لا يرتضون بما لم يرضَ به الله، والعكس صحيح.

التوصيات: نوصي بأن تدرس الأحاديث النبويَّة قرآنيًّا لبيان دقتها ومنطلقاتها التبليغيَّة قرآنيًّا، ولدحض ما يصيبها من تحريف في الشكل والمعنى أو في أحدهما.

ونوصي بأن تبحث آيات الثقلين في القرآن بوصفها منهاجًا لاستقامة الأمة، ولا أغالي إن قلت أنَّها تصلح لدراسة الماجستير.

 ([1])قال الصادق ( عليه السلام ) : (( كلّ شيء مردود إلى كتاب الله والسنّة ، وكلّ حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف)) الكافي، الشيخ الكليني(ت:329هـ): 1/ 69.

 ([2])سورة المائدة: 55.

([3]) مسند أحمد بن حنبل(241هـ): 17/ 170.

 ([4])معجم مقاييس اللغة، ابن فارس(ت:395هـ): 6/ 141.

 ([5])لسان العرب، ابن منظور(ت:711هـ): 15/ 406-407.

([6] ) مقاييس اللغة، أحمد بن فارس(ت: 395هـ): 1/ 382.

[7])) شرح أصول الكافي، مولي محمد صالح المازندراني( ت:1081(:4/ 234.

[8])) الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، الزمخشري جار الله (المتوفى: 538هـ):1/ 648.

[9])) ذكرت ذلك مصادر كثيرة من الفريقين يتعذر حصرها، ينظر: جامع البيان في تأويل القرآن، محمد بن جرير الطبري (المتوفى: 310هـ): 10/425، معالم التنزيل في تفسير القرآن، أبو محمد الحسين بن مسعود بن محمد بن الفراء البغوي الشافعي (المتوفى : 510هـ): 1/16.

[10])) الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل:1/ 648.

[11])) ينظر: البلاغة والتطبيق، د. أحمد مطلوب، د. كامل حسن: 145.

 ([12])نهج البلاغة، تحقيق: د. صبحي الصالح: 552.

[13])) إنَّ أمر التصدق في الركوع ورد تكراره عن الأئمة (عليهم السلام). ينظر: شرح أصول الكافي:4/234.

المرفقات

: الدكتور موفق هاشم الرحال، جامعة كربلاء، كلية السياحة، التخصص اللغة العربية / لغة. : دار القرآن الكريم