ما هو الدليل على الغيبة الكبرى

على الرغم من البحوث الكثيرة في مسالة الغيبة الكبرى إلا أن الباحث بحاجة إلى بيان أدلة الغيبة الكبرى, اذ هي لم تقتصر على دليل واحد بل هناك عدة أدلة تعين الباحث للوقوف على هذه الادلة الكثيرة منها:

أولاً- الدليل العقلي

إنّ إمكانية تحقق مثل هذه الغيبة عقلاً وعدم امتناعها يشير إلى دلالة العقل لوقوع مثل هذه الغيبة, فالاحتمال العقلي وارد في مثل هذا الأمر وكون القضية غيبية فلا مجال لتحكم العقل فيها فعدم ادراكها عقلاً لا ينفي وقوعها, فالقضية كونها حقاً لا ريب فيه لا يشترط ثبوتها عقلاً, فكم من القضايا الغيبية كالبرزخ والجنة والنار والصراط والحساب لم يقف دونها العقل حائلاً بمجرد عدم ثبوتها فنحن مأمورون بتصديقها والتسليم بها طالما وردت عن طريق نقلي لا ريب فيه, فكثير من الأمور ليست من شأن العقل ولا مدخلية للعقل فيها نفياً أو إثباتاً.

ثانياً- الدليل الكلامي

ويقع في محورين:

المحور الأول: قاعدة اللطف وهي القاعدة التي يعول عليها الكثير في إثبات وجوب الحجة وعدم خلو الأرض منها، واثبات الغيبة كونها متفرعة من ضرورة وجود الحجة لقاعدةاللطف التي تعني أن الله سبحانه وتعالى وهو اللطيف الخبير يعلم ما يحتاج إليه المكلف من مقربات الطاعة ومبعدات المعصية أي أنّه سبحانه يحرص - برحمته ورأفته بالعباد - على إيجاد مقتضيات الطاعة وما يبعد الإنسان عن المعصية كل ذلك باختياره, ومن أهم أسباب الطاعة والقرب إلى الله تعالى وهو تنصيب الإمام والحفاظ عليه حتى في أحلك الظروف التي يضطر فيها الإمام بالابتعاد عن الأنظار والغيبة عن الناس.

المحور الثاني: العصمة: وهي ملكة تتوفر عند الإمام عليه السلام تعينه على تأدية مهمته بعد أن علم الله تعالى منه الصدق والوفاء بالعهد والعصمة هي مقتضي يتوفر إليه الإمام لا يرتكب معه المعصية ولا تصدر منه هفوة, بمعنى أن الإمام لا يرتكب ما يخالف حكمة الله تعالى, كل هذا سيكون مبرراً منطقياً لكون الإمام عليه السلام ما عمله من غيبة تنسجم والحكمة الربانية دون أدنى مخالفة لها.

ثالثاً- الدليل التاريخي

وهي النصوص المؤكدة تاريخياً على ولادته وما صاحبها من حالات التكتم والإخفاء والتستر على ولادته وما تحملته السيدة نرجس أم الإمام من معاناة من أجل إخفاء ولادته وعدم الافصاح عنها، فضلاً عن حرص الإمام العسكري عليه السلام على إخفاء أمر الولادة وإظهاره إلاّ إلى خواصه ومقربيه.

كما أنّ هناك نصوصاً قارنت بين غيبته وغيبة من سبقه من أنبياء ومصلحين، وخوض تجربة غيبة الإمام أمر حتمي أكده أئمة أهل البيت عليهم السلام.

رابعاً- الدليل العقائدي

هو كون فلسفة الغيبة لها نظيرها في الديانات الأخرى، وإمكانية حصول مثل هذه الغيبة لدى الكثير من الملل الأخرى, بل بشرت هذه الديانات بوجود مصلح لابد من ظهوره في آخر الزمان بغض النظر عن تسميته وهويته فهي ترى ضرورة مثل هذا المصلح وظهوره لمقتضى الحكمة التي بسببها يتم الإصلاح والتكامل البشري المنشود.

 رؤية الإمام عليه السلام في الغيبة الكبرى

مرة أخرى نؤكد أن الغيبة الكبرى لا تعني انقطاع الإمام عن رعيته, فالإمام عليه السلام لديه من مهام القيادة والرعاية لأمته ما يعجز معها الإحصاء والمتابعة, إلا أنّنا يمكن أن نقف على بعض اللقاءات التي جرت بين الإمام عليه السلام وبين شيعته ما يجعلنا أن نحيط بإمكانية حركة الإمام في المجتمع وتعاطيه مع الأحداث بكل دقة وتفصيل, على أنّنا يجب أن نجعل أمامنا حقيقة واحدة وهي:

إنّ الإمام لا يعني في غيبته استعمال المعجز في حالات اختفائه بل إنّ المعجز إحدى آليات اختفائه، وبما يجده الإمام عليه السلام مصلحة, والمهم إنّ الإمام عليه السلام في غيبته يتعاطى مع الناس على أساس الحالة الطبيعية التي من خلالها يمكنه ان يلتقي مع الآخرين، وفي خضم حركته داخل المجتمع كأي إنسان آخر لكنه يتخفى من خلال تغيير الزي أو استخدامه للهجةٍ تبعد احتمالات كشف هويته, أو على أساس تعامله مع الآخرين بتجارة معينة أو بمهمة ما, على أنّ الأخبار تؤكد وجوده عليه السلام في كل مواسم الحج؛ يطوف مع الطائفين ويسعى مع الساعين ويعرف الناس إلاّ أنهم لا يعرفونه، بل لا يحتملون بأدنى مناسبة معرفة شخصه الكريم لاتباعه طرائق الإخفاء المختلفة, ولكي تكتمل لدينا صورة معينة لحركته عليه السلام يمكن أنْ نتابع بعض المشاهدات التي حدثت للبعض متشرفاً برؤية الإمام في ذلك في فترة الغيبة الكبرى ليتسنى لنا فهم حقيقة تعامل الإمام مع الأمّة وعدم ابتعاده عنها بأي حال.

أولاً- رعاية شيعته في البحرين من خلال إرشاده وتوجيهه المبارك

وخلاصة الحادثة أنّ بعض النواصب قام بعملية أراد من خلالها مطاردة الشيعة من قبل الوالي الذي بدوره ينصب العداء للشيعة ـ السكان الأصليين والأكثرية في هذه البلاد ـ فجاء أحدهم برمانة مكتوب عليها لا اله الا الله محمد رسول الله ابوبكر وعمر وعثمان وعلي خلفاء رسول الله, وجعل الوالي يصدق بأنّ تلك حجة قوية في اعتناق الشيعة لمذهب أهل السنة وإلاّ يدفعوا الجزية كما يدفعها إليهود والنصارى والمجوس, إلى غير ذلك من شروط التنكيل واسباب التهديد, ولما لم يجد الشيعة مخرجاً لهذه الأزمة خرج أحدهم إلى الصحراء مستغيثاً بالإمام المهدي عليه السلام وفي الأثناء التقى به الإمام عليه السلام وعرّفه أنّ الرجل قد احتال على الوالي بجعله قالباً فيه تلك الكلمات وجعلها على الرمانة وهي في الشجرة وكلما تنمو الرمانة تضغط هذا القالب على قشرها الرقيق فتنطبع الكلمات وتظهر ما تظهر على الرمانة, ثم أعلمه بمكان الكيس الذي فيه القالب ليريه إلى الوالي ويفضح أكذوبته فضلاً عن أن هذا الرمان إذا فتحه لا يجد فيه إلاّ الرماد والدخان كما أعلمه الإمام عليه السلام, وخلاصة الأمر أنّ الوالي حينما علم بالحقيقة اعتذر إلى أهل البحرين، وأمر بقتل الرجل المحتال وبذلك أنجى الإمام الشيعة في البحرين من القتل والتنكيل.

ثانياً- قصة ياقوت الدهان

وما جرى له عند لقائه بالإمام وما دار بين الإمام وبينه من حديث وكيف أحاله إلى شخص يستلم منه بعض ما يحتاجه من مال.

ثالثاً- المقدس الأردبيلي

حينما توقف في معرفة بعض المسائل العلمية فلقي الإمام عليه السلام وأجابه عن كل ما سأل.

رابعاً- قصة السيد مهدي القزويني

حيث حضر الإمام عليه السلام مجلس بحثه وناقشه في بعض القضايا الفقهية بحضور جمع من طلبته, ومشاهدة السيد القزويني للإمام عليه السلام حينما دافع عن زائري الإمام الحسين عليه السلام المتوجهين إلى كربلاء من عصابات قطاع الطريق.

ولسنا في صدد سرد القصص والمشاهدات بقدر ما أردنا التنبيه إلى وجود حالات التشرف بالإمام عليه السلام وامكانية معايشته مع واقع الأمة وما تمليه مصلحة أتباعه من الإلتقاء أو عدمه, على أن الإمام عليه السلام لم ينقطع عن متابعة أمور شيعته كما في رسالته للشيخ المفيد بقوله عليه السلام... ونحن وإن كنا ثاوين بمكاننا النائي عن مساكن الظالمين حسب الذي أراناه الله تعالى لنا من الصلاح ولشعيتنا المؤمنين في ذلك مادامت دولة الدنيا للفاسقين. فإنا نحيط علماً بأنبائكم, ولا يعزب عنا شيئاً من أخباركم ومعرفتنا بالذل الذي أصابكم مذ جنح كثير منكم إلى ما كان السلف الصالح عنه شاسعاً, ونبذوا العهد المأخوذ وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون. إنا غير مهملين لمراعاتكم, ولا ناسين لذكركم, ولو لا ذلك لنزل بكم اللأواء, واصطلمكم الأعداء, فاتقوا الله جل جلاله... إلى آخر رسالته عليه السلام.

ملاحظة: على أنّ اللقاء بالإمام عليه السلام في عصر الغيبة الكبرى غير مستحيل, بل ممكن على أساس مقتضيات مصلحة الواقع المتعلقة بالإمام خاصة أو بالشخص المتشرف برؤيته خاصة اوبهما كذلك, فضلاً عن الاستعداد العام للشخص الملتقي لفيوضات التشريف, وربما لم يكن الشخص قابلاً صالحاً لهذا الفيض من عدم أهليته لهذا التشريف لتراكم الذنوب المانعة من هذا التخصيص, أو لعدم إمكانيته كتمان أمر اللقاء وهو أمرٌ يحتاج إلى قابلية خاصة في التكتم؛ وفوق كل هذه الأمور فرض المصلحة الخاصة التي يجدها الإمام عليه السلام من لقائه بالشخص أو عدمه.

إذن فغيبة الإمام قضية تتعلق باستعداد الأمة لقبول هذا الفيض أو الاستفادة من هذا اللطف الالهي «فوجوده لطف, وتصرفه لطف آخر, وعدمه منا» كما ينسب ذلك إلى الخاجه نصير الدين الطوسي, وبذلك فمسألة الغيبة فضلاً عن كونها أمراً غيبياً إلاّ أنّ قسطاً وافراً تتحمل مسؤليته الأمة والمصلحة الإلهية فوق كل اعتبار.

المرفقات

: السيد محمدعلي الحلو