النهضة الحسينية قراءة معاصرة

 

توافرت الأدلة في تأثير النهضة الحسينية على سائر الأمم السابقة والمعاصرة؛ إذ يتوافد إلى كربلاء الإباء ملايين الناس على مدار السنة من مختلف البقاع, مُتَحدِّين الصعاب وأنواع الابتلاءات من دون كلل أو ملل؛ بل يزدادون عامًا بعد آخر؛ ليظهروا الجمع الكبير الذي يعبِّر عن قوة الإسلام والمسلمين المؤمنين بالنهضة التي نادى بها الحسين (عليه السلام) في كربلاء فردًا ثم أصبحت جموعًا يمكنها أن تحجب أشعة الشمس في وضح النهار.

ولم يكن الإصلاح الحُسيني بمعزلٍ عن الثوابت الإسلامية التي أكدتها الرسالة المحمديّة السمحاء؛ بل جاءت النهضة الحسينيَّة متوشحة بلباس الإيمان ومكمِّلة لمنهج النبوَّة ومحافظة على مبادئ الولاية التي أقرتها بنود الثقافة الإسلامية؛ لحفظ العباد والبلاد من الفتن المظلمة التي تعصف بالناس بين الحين والآخر؛ فتسلبهم نعمة الهداية وتبعدهم عن دينهم الحق الذي شَرَعه الله تعالى لينقذهم من ظلمات الجهل ومستنقعات الرذيلة إلى نور الهداية والصراط السويِّ.

إنّ خروج الحسين(عليه السلام) نحو نهضة أبديَّة كان لا بدَّ له من أسس ومبانٍ يعتمدها في الوصول والاستمرار؛ لذلك نهض (عليه السلام) بمعيّة شعار مدويٍّ زلزل عروش الفاسدين؛ إذ قال عليه السلام: ((إني لم أخرج أشرًا ولا بطرًا ولا مفسدًا ولا ظالمًا وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدي صلى الله عليه وآله أريد أنْ آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي علي(عليهما السلام)[1], وكأنه يُذَّكرنا بقوله تعالى:  )وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَرًا وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيط  ([2], فالحسين (عليه السلام) يُبيِّن أصول نهضته, وعلَّة خروجه, و مسند حركته, وانتماء ثورته, ومنهج دعوته, فقوله: (إنِّي لم أخرج أشرًا ولا بطرًا ولا مفسدًا ولا ظالمًا) يؤكّد أصول نهضته المباركة فلم يخرج للمرح أو تكبُّرًا على العباد أو لنشر مفسدة أو ظالمًا لأحدٍ من الخلق, وهو بذلك يؤكِّد سفاهة المتسلطين وفساد حالهم وضرورة النهضة عليهم للحفاظ على المكتسبات الإسلامية التي باتت في مهبِّ الريح بعد تسلط الفاسدين والظالمين على رقاب الأمِّة وزيغهم عن سبيل الحق وقيادتهم للناس إلى محاربة الله ورسوله ومواجهة رسالة السماء بنشر الفساد ومحاربة الإصلاح.

وزاد الحسين(عليه السلام) على ذلك؛ إذ أكَّد أنَّ خروجه بقصد الإصلاح في أمة جدِّه المصطفى (صلى الله عليه وآله), وظهر ذلك في قوله: (وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدي صلى الله عليه وآله أريد أنْ آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر), وهذه الكلمة تُبيِّن حالة الفساد آنذاك؛ إذ كان مبرمجًا مِن لدن المؤسسة الحاكمة؛ للرجوع بالأمة إلى الجاهليَّة الأولى, وترك المبادئ الإسلامية وسُنة النبيِّ الأكرم (صلى الله عليه وآله)؛ لذلك يؤكد الحسين(عليه السلام) اتصال دعوته بدعوة جدِّه (صلى الله عليه وآله), وفي ذلك إشارة إلى أنَّ القوم الذين نهض الحسين(عليه السلام) عليهم لم يكونوا على ملَّة رسول الله (صلى الله عليه وآله)؛ بل كانوا ممن يحارب الإسلام كـدين والحسين(عليه السلام) كـانتماء؛ لذلك فقد سقطت هُويتهم الإسلامية وأصبحوا عراة من جهة الدين والمبادئ والأخلاق بخروج الحسين(عليه السلام) عليهم, فلمَّا اجتمعت المصلحة على مواجهتهم مع العُدَّة التي كانت عبر المئات من الرسائل من مختلف الجهات والشخصيات أصبح لزامًا على الحسين(عليه السلام) الخروج في تلك النهضة الحُسينيَّة التي رسمت معالم جديدة للثورات وأيقظت الأمة من سُباتها العميق؛ لتتوقَّد أفئدة الناس وعقولهم تجاه القضية الإسلامية التي كانت مهدَّدة بالزوال نتيجة السياسات الخبيثة لحُكام الجور آنذاك.

والحُسين(عليه السلام) أكّد أنّه يسير في نهضته المباركة بمسيرة جدِّه وأبيه (عليهما السلام)؛ ليثبِّت أنَّ منهجه ومنهج أبيه ومنهج جدِّه (عليهم السلام) منهج واحدٌ في وجه المنهج الذي أخذ عنوانه من الإسلام والإسلام منه براء, واتضح ذلك في ختام كلمته المباركة؛ إذ قال(عليه السلام): (وأسير بسيرة جدي وأبي علي), فسلب الشرعيَّة من غيره في خروجه, وهذا الأمر زاد من ركائز نهضته التي نجحت في تغيير مسار الحراك الإسلامي وإنقاذ الأمَّة من غفلتها وإعادة الحياة للمسيرة الإسلامية بشكل متجدِّد عامًا بعد آخر وكأنّه (عليه السلام) أصبح شمعة الإضاءة لكل المسلمين وليستقِّر في قلوب المؤمنين أنّ الإسلام محمديُّ الوجود حُسينيُّ البقاء.  

ومن المناسب أن ندرك أنَّ هذا الظفر الحسيني في حاضرة اليوم هو الامتداد الحقيقي للرسالة الإسلامية التي جاء بها رسول الإنسانية محمد بن عبدالله (صلى الله عليه وآله) والتي تغيَّرت بفعل الحكام الذين استولوا على مقاليد الحكم الإسلامي بطرقٍ غير شرعية عن طريق إبعاد المعصوم من ممارسة حقه الطبيعي في قيادة الأمة بكل مفاصلها؛ لذلك كانت ملحمة كربلاء بما فيها من الأسى والمواجع صيحة مزلزلة لعروش الفاسدين وعودة ميمونة إلى الإسلام الحنيف الذي ارتضاه الله تعالى لإنقاذ الأمة من مستنقعات الضلالة والشرك والاهتداء بهدي الثقلين الكريمين.

إنَّ قول الرسول (صلى الله عليه وآله) في ولده الحسين (عليه السلام): ((حسين منّي وأنا من حسين))[3], يكتنز حقائق معرفية جمَّة ولاسيّما في الأبعاد العقدية, ويلزم الباحث الرجوع إلى النص ومحاولة قراءته بما يتناسب مع معطيات الخطاب, ففي المقطع الأول يمكننا فهم العبارة؛ إذ يكشف (صلى الله عليه وآله) عن مكانة الحسين (عليه السلام) منه, ويؤكد أنَّ الحسين(عليه السلام) بكل مبادئه وانتمائه ودمه وعرقه وفكره ومكانته هو من النبيِّ (صلى الله عليه وآله), وأما في المقطع الثاني من الخطاب قوله(صلى الله عليه وآله): (وأنا من حسين), فيحتاج إلى متابعة ومفاتشة لكل الأحداث التي عقبت ملحمة كربلاء الخالدة والتي أعادت للإسلام هيبته ووقاره ومبادءه؛ ليتأكد خطاب النبيِّ (صلى الله عليه وآله)؛ إذ أصبحت نهضة الحسين(عليه السلام) محيية لسنة النبيِّ (صلى الله عليه وآله) ومنقذة لمنهجه وناشرة لرسالته, وكأنَّ الحسين(عليه السلام) كان وسيلة ربانية لإحياء هذه السنن الحقة بعد أنْ شابها التغيير فزاغت عن أصالتها التي جاء بها النبيُّ(صلى الله عليه وآله) وأحياها الحسين(عليه السلام).

ومن الجدير ذكره أنَّ دعوة الإمام الصادق(عليه السلام) إلى إحياء نهضة الحسين(عليه السلام) لها علاقة وثيقة بحفظ الإسلام كمنهج وعقيدة, فقوله (عليه السلام): ((أحيوا أمرنا))[4], الذي فهم منه أهل الإختصاص دعوته إلى التمسك بالشعائر الحسينية تأكيد من المعصوم (عليه السلام) على أنَّ الإسلام لا يستقر دون وجود المعصوم(عليه السلام) الذي من شأنه أن يكون سدًا منيعًا يذود عن الإسلام ويحافظ على توازنه الفكري والثقافي والعقائدي؛ لذلك فإن الاهتمام السنوي بالتراث الحسيني وشعائره يكتنز أسرار المحافظة على الدين وسبل استقامته.      

  

[1] بحار الأنوار 44/329.

[2] الانفال 47.

[3] بحار الأنوار 37/74.

[4] الأمالي 1/67.

: الشيخ الدكتور خيرالدين الهادي