السيرة الحسينية .. الجزء الأول .. سيرة التاريخ

قد يبدو العنوان للقارئ لأول وهلة أنه كتاب تاريخي يضم الحوادث التي رافقت حياة الإمام الحسين (عليه السلام) بطريقة تتابعية منذ ولادته وحتى استشهاده ورسم المواقف والشخصيات التي عايشت تلك المرحلة بطريقة سردية كما جرت العادة على مثل هذه العناوين، ولكن القارئ سيصاب بالدهشة عندما يتصفح هذا الكتاب وسيظن أنه لمجموعة من المؤلفين في اختصاصات شتى وليس لكاتب واحد لما احتواه من معلومات وثقافة متنوعة يجد فيها ما يروي ظمأه الفكري والعلمي والأدبي والتاريخي والعقائدي.

ولا غرو إذا وجدنا الكتاب بهذه المميزات فهو لصاحب الموسوعة الضخمة والساحرة (دائرة المعارف الحسينية) العلامة الشيخ والأستاذ المحقق محمد صادق الكرباسي الذي نحت اسمه في سجل التاريخ، وآثر أن يسخّر نفسه ووقته وقلمه للقضية الحسينية فتماهى معها وضحّى لأجلها، وكان أميناً وحريصاً على لمِّ كل ما تناثر من أصدائها، فاكتنفها واكتنفته وأفعم فيها وأفنى جل عمره جهداً وجهاداً وسعياً في البحث والتدقيق العلمي وواجه الكثير من المعاناة ليخرجها بهذا الحقيقة الناصعة التي أنطق بها التاريخ والزمان والمكان والأبعاد فدخل بتأليفه هذا عالم الخلود من أوسع أبوابه لأنه أبقى بعده شعلة وقّادة تنير للأجيال طريق الحق الحسيني الذي دوّى يوم عاشوراء (لا والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أفر فرار العبيد).

يبدأ الكرباسي أول فصول الكتاب بعنوان (تاريخ الإنسان) الذي يرتبط بتاريخ الأرض كما هو معروف، فعمر الأرض هو 4،65 مليار سنة، وتاريخ الحياة يصل إلى 1،4 مليار سنة، أما الحياة الحقيقية فتقدر بنحو مائة مليون سنة وهي مقسمة إلى خمس أقسام: (البدائي والأول والثاني والثالث والحديث) والأخير حُدد بنحو نصف مليون سنة، وهو القسم الذي اعتقد البعض أن الجنس البشري قد ظهر فيه.

ولا يجزم الكرباسي بهذه التقسيمات ويعزوها إلى التخمين ما لم تدعمها الأدلة والبراهين وهو رأي المحقق الذي لا يثبت الشيء وضده ما لم يكن هناك دليل قاطع يؤكده، فالقول في ذلك في رأي الكرباسي يحتاج إلى أدلة وفق منهجه العلمي المستند إلى أدوات البحث الموضوعي فلا يستطيع إثباته بدونها، كما يشير إلى الخلاف الكبير بين المؤرخين في التقسيم الإسلامي الذي يبدأ بهبوط آدم، فطوفان نوح، فالبعثة النبوية الشريفة، فانتهاء الحكم العثماني حتى اليوم، ولكنه في نفس الوقت يميل إلى الرأي المنطقي في ذلك وهو ما اختاره (في تحديد تاريخ البشرية هو الذي أجمع عليه أرباب الديانات الثلاث ــ اليهودية والمسيحية والإسلامية ــ المرتبطة بالسماء والتي ترويها الأنبياء عن جبرائيل ولا مجال لإنكارها).

أما ما يتناقله علماء الأحياء فهو (من باب الحدس والخلاف بين مدرسة الأديان ومدرسة الآثار يبقى قائماً إلى أن تصبح النظريات حقائق)

أما (مَن وراء التاريخ) فسياقه يدل على الأنسنة والحدث البشري الذي يحركه و(الإنسان هو محور التاريخ وقطب رحاه وعليه يبنى التاريخ وإليه تعود خيوطه وهو المستفيد منه) كما يقول، ويطرح سؤالا في فصل (كيف يتحدد التاريخ) وهو (هل الزمان والمكان شيئان أو شيء واحد ؟ وعلى فرض اتحادهما من منهما مقدم على الآخر ؟) ويجيب عنهما في نهاية الفصل بالقول: (التاريخ والزمان لا يتحققان بلا مكان إذ لا يتصور عالم دون مكان)

وعن (قيمة التاريخ) يبين أهميتها في شتى الحقول الإنسانية سواء على الصعيد السياسي والعلمي والاقتصادي والأدبي والفلسفي ويشير كذلك إلى حث القرآن الكريم على الاستفادة من القصص التاريخية التي تطرّق إليها، ثم ينوّه إلى نقطة مهمة قد تخفى على الكثير وهي الفرق بين (التأريخ) و(التاريخ) وقد يتبادر إلى الذهن أنهما كلمة واحدة لكن الأولى تشير إلى تعريف الوقت مطلقاً، أما الثانية فتشير إلى المعنى الخاص المحدد بزمان ومكان، وعن الفرق بين (علم التاريخ والآثار) فإن التاريخ مقدم على علم الآثار الذي هو بحاجة إلى التاريخ، كما أن (التاريخ لا يعيد نفسه) فالذي يعود هو الأسباب والمسببات وبما أن الأمم تحدد تواريخها حسب عظمة الحدث فيها، فقد اتخذ المسلمون هجرة النبي بداية لتاريخهم.

وعن (المؤرخ) ودوره في التعامل مع الأحداث التاريخية، و(خضوع التاريخ للتخصص) و(مبدأ التاريخ الإسلامي) يتوغل الكرباسي في عمق التاريخ ليكشف عن الخصائص لكل من هذه الأمور قبل أن يدخل باب (النهضة الحسينية) والتي تعتبر امتداداً للدعوة النبوية الشريفة لكنه لا ينسى أن ينوّه إلى التحريف والتزييف الذي وقع في التاريخ وخاصة من قبل معاوية بن أبي سفيان في باب (حجية التاريخ)

يدخل الكرباسي باب السيرة بفصل (السيرة لغة واصطلاحا) ثم يذكر أهم من (ألف في السير) ثم (الهدف) منها قبل أن يرصد خصائص (هذه السيرة) العظيمة للإمام الحسين (عليه السلام) ثم يبدأ (بالوراثة) فـ (التربية) و(الأسرة والبيئة).

كل هذه الأمور تحدث فيها الكرباسي بالتفصيل ليبدأ بعدها الفصل الأول من حياة الإمام الحسين (عليه السلام) وهو حياته في أيام جده رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيستعرض الأحداث التي جرت في حياته الشريفة مع جده والآيات التي نزلت بحقه وأحاديث النبي في فضله، فكان الكرباسي حريصاً على تدوين كل ما يخص الإمام الحسين (عليه السلام) منذ ولادته الشريفة حتى السنة السابعة للهجرة فيتوقف ليستأنف في الجزء الثاني باقي حياته (عليه السلام)

إن هذا الكتاب برهن بحق على سد حاجة القارئ للمعلومات التاريخية والعقائدية عن الإمام الحسين (عليه السلام) وتفرد بمميزات تغني عن البحث والتنقيب في كتب أخرى.

كاتب : محمد طاهر الصفار