يتابع المحقق الشيخ محمد صادق الكرباسي رحلته وترقّبه لمسيرة الركب الحسيني حدثاً بحدث ومنزلاً بمنزل، وكل حركة وسكون ومسير ونزول موثقاً بالصور ومدعوماً بالخرائط والوثائق التاريخية الدقيقة.
في هذا الجزء وهو العشرون بعد المائة من موسوعته دائرة المعارف الحسينية يشد الكرباسي الرحال مع قافلة الأسرى بعد أن رافقها منذ بدء مسيرها من المدينة المنورة حتى كربلاء، فيضع قاعدة يرتكز عليها في رصد المواضع وإبراز المحطات التي توقف فيها أو مرّ بها ركب السبايا اعتماداَ على أقدم المصادر التي تحدثت عن ذلك، ومن ثم تحديد المسافة بين المحطات حسب التقديرات القديمة والحديثة نظراً للتحولات الجغرافية للمدن والمناطق.
كما اعتمد في قياس المسافات بما هو شائع الآن وذلك بتحويل الميل العربي والفرسخ إلى الكيلو متر لتسهيل التعامل به، كما وضع خرائط محلية وواسعة وسطحية لتحديد المواقع فيما بينها، والحديث ديموغرافياً عن كل بلدة وتحديد موقعها، وتصحيح أسماء المواضع بعد أن وقع عليها التصحيف، وتسميتها بمسمياتها الآنية، وإرجاعها إلى أصولها والتنويه ببعضها التي طمست آثارها عبر طرق باب الآثار.
وبعد أن يرسم الكرباسي محاور قاعدته ينطلق منها باعتماده ــ تاريخياً ــ على مصدرين مهمين يشكّلان بوصلة البحث وهما: مقتل الحسين لأبي مخنف المتوفى سنة (157 هـ) والذي يعد أقدم مصدر في هذا الجانب، ونور العين في مشهد الحسين لأبي إسحاق الاسفراييني المتوفى سنة (316 هـ)
كما اعتمد الكرباسي في تعيين الأماكن على مصدرين جغرافيين مهمين هما: معجم البلدان لياقوت الحموي المتوفى سنة (626 هـ)، وموجزه: مراصد الاطلاع لعبد المؤمن بن عبد الحق البغدادي المتوفى سنة (775 هـ) إضافة إلى أطالس مختلفة.
هذه هي دائرة إيضاح ماهية الكتاب رسمها الكرباسي باتقان قبل الشروع في رحلته التي اكتنفتها الأحداث الشيقة والمعلومات المهمة، حيث يبين في انطلاقته في ملاحظات هامة ثلاث عشرة نقطة يوضح فيها آلية العمل مع هذه الرحلة في كمية مسافة السير بالساعة على الإبل وحساب مدة المسير والاستراحة في اليوم الواحد.
وقد بلغت المواضع التي سار بها ركب السبايا ــ كما في المصادر ــ من الكوفة إلى دمشق أربعة وثلاثون موضعاً، حدّد منها الكرباسي سبعةً وعشرين موضعاً بما فيها الكوفة ودمشق، أما السبعة مواقع المتبقية فهي ليست بمواقع أساسية بل هي أديرة وصومعة كانت موجودة أثناء رحلة السبي ثم اندثرت.
ولا يكتفي الكرباسي بالمعلومات التقريرية التي ذكرتها المصادر حول مسير السبايا ونزوله، بل يسبر الغور في هذه الرحلة لاكتشاف أسباب المسير بهذا الموضع دون غيره، والأحداث التي جرت فيه، ومعدل درجات الحرارة المتعارف عليها، ودراسة التواريخ وتطابقها مع أيام الأشهر، مع تراجم للشخصيات في هذه الرحلة.
ويصنف الكرباسي الرحلة من كربلاء إلى الكوفة على ثلاث مراحل هي:
1 ــ ترحيل رأس الإمام الحسين (عليه السلام) عند عصر يوم عاشوراء مع خولى بن يزيد الأصبحي، وحميد بن مسلم الأزدي، إلى عبيد الله بن زياد فوصل خولى ليلاً إلى الكوفة ووجد أبواب القصر موصدة فبات في بيته وعند الصباح جاء بالرأس الشريف إلى زياد.
2 ــ ترحيل رؤوس أهل بيت الحسين وأصحابه الشهداء، مع شمر بن ذي جوشن الضبابي، وقيس بن الأشعث الكندي، وعمرو بن الحجاج الزبيدي. وقد وصلوا ليلاً أيضاً فباتوا خارج أسوار القصر
3 ــ ترحيل الأسرى بعد الزوال من اليوم الحادي عشر من محرم مع ابن سعد وبقية العسكر، وقد سلك الجميع طريقاً واحداً لأن الهدف واحد وهو الكوفة.
ثم يفصل الكرباسي الحديث في هذه الرحلة ويستعرض الروايات حول موضوع حمل الرؤوس وعددها عن الشيخ المفيد وابن شهرآشوب، أما في ركب الأسرى فيقارن بين الروايات في وسيلة النقل وعدد الأسرى، فجمع أسماء من ذكرتهم المصادر في الأسرى من الرجال والنساء والأطفال، ثم يبدأ مراحل الرحلة
كربلاء والشمس فيها اغتالتها يد الغدر والجريمة فغربت وكأنها تؤذن باللاعودة، وفي يوم افتضه سهم، وقصمه سيف، وأسدله رمح. وقد اختضب صباحه بدماء النبي، وامتزج مساؤه بدماء السماء، ومن أرض تتناثر فيها الأشلاء بدأت رحلة السبي.
الكوفة المدينة التي تنكرت لسيدها ها هي تستقبل بناته سبايا ورأس ابنه يُطاف به في أزقتها وتجري فيها أحداث كثيرة.. صخب وغضب وهياج واستياء وشماتة كل ذلك يستعرضه الكرباسي قبل الدخول إلى المحطة التالية.
من الكوفة إلى دمشق كان هناك ستة طرق رئيسية تمر بمدن عدة، يذكرها الكرباسي بالتسلسل، إما الطريق الذي سار عليه ركب الأسرى من الكوفة فيبدأ بجدولة الأماكن والمسافة بين كل واحد منها بالكليو متر أما المواضع فهي:
سورا، القادسية الشمالية، تكريت، الكحيل، جهينة، الموصل، تلعفر، سنجار، لين، نصيبين، عين الوردة، حران، دوسر، بالس، حلب، كفر نبو، قنسرين، معرة النعمان، كفرطاب، شيزر، حماه، حمص، جوسية، وادي النحلة، بعلبك، صومعة الراهب، دمشق ثم يعطي الكرباسي حصيلة المسافات بين هذه المدن ــ أي من الكوفة إلى دمشق ــ
ثم يفصل الحديث عن كل موضع من هذه المواضع وأسمه قديماً وحديثاً، وتأسيسه، وأهم الأحداث في تاريخه والروايات التي ذكرت مرور ركب السبايا فيه حتى يصل إلى دمشق.
وفي دمشق يتوقف الكرباسي ليروي لنا ما حل بالرأس المقدس وركب الأسارى قبل أن يعود أدراجه مرة أخرى إلى كربلاء مستعرضاً بذلك الروايات المعتبرة التي جاءت في زيارة الركب للقبر الشريف يوم الأربعين ومعهم رأس الإمام الحسين (عليه السلام) ليدفن مع الجسد الطاهر.
أما المواضع التي مر بها ركب الأسرى من دمشق إلى كربلاء فكانت خمسة عشر موضعاً تحدث عنها الكرباسي بالتفصيل.
إنها رحلة شيقة خاضها الكرباسي حاملاً بوصلته التاريخية والجغرافية لتتبع آثار ذلك الركب في رحلة الخلود.
اترك تعليق