تكاد كُتب المقاتل التي ألّفت بخصوص واقعة كربلاء تتشابه من حيث المضمون في رسم وقائع يوم عاشوراء والشخصيات التي حضرت يوم الطف من الشهداء الأبرار إلّا من بعض التغييرات الطفيفة التي لا تؤثر على مجريات الأحداث, ولكن ما إن تطّلع على كتاب (أضواء على مدينة الحسينية) حتى تُفاجأ بمعلومات عن أحداث وشخصيات لم تتطرّق إليها بقية المقاتل. فقد جمع مؤلف الكتاب مجموعة من الروايات المهمة وأضاف شخصيات تاريخية استقاها من مصادر نادرة ونقلها بمصداقية متحرِّياً الدقة والعناية في نقلها مرفقة بالشروح والايضاحات, فكان لهذا الاسلوب المميّز في النقل والطرح والموازنة بينهما ما يجعل الكتاب فريداً في بابه, بكراً في طرحه وموضوعه, حيث يتيح للقارئ أن يعرف الصحيح المؤكد من غيره.
هذا المُجمل المختصر للكتاب تنضوي بين دفتيه عدّة خصائص علمية وفنية وأدبية وتاريخية وفلسفية وفقهية لا يدركها القارئ لهذا المجمل إلّا بخوض عباب هذا البحر الزاخر بالمعلومات والحقائق التي اكتنزها مؤلفه العلم الخفّاق المحقق الكبير الشيخ محمد صادق الكرباسي صاحب الموسوعة العلمية والأدبية والتاريخية الشاملة (دائرة المعارف الحسينية) التي حملت الإرث التاريخي العظيم لمدينة كربلاء المقدسة والتي بذل في انجازها الجهود الجبارة, فما إن يطالع القارئ لجزء من هذه الموسوعة حتى يستشف العلمية الواسعة للمؤلف والمدارك الفقهية والأدبية الفذة والمادة التاريخية الضخمة التي جمعها في أسفار موسوعته الضخمة والمتنوِّعة التي تُعد كنزاً من كنوز المكتبة الإسلامية والعربية.
هذا الكتاب الذي نقف عند أبوابه يحمل الرقم (102) في تسلسل هذه الموسوعة, وقد حمل عنوان (أضواء على مدينة الحسين) قسم (مبحث الشهداء) حيث يستهل الكرباسي (تمهيده) للكتاب بالحديث عن (الحركة السياسية في كربلاء المقدسة) بإحياء ذكري شهدائها وهو أحد فصول (أضوائه) على مدينة الحسين مستعرضاً آثار الحركات السياسية بإنجازاتها وخسائرها بأسلوب الضليع في الشؤون السياسية مُمهِّداً بذلك للدخول في القسم الذي خصص له الكتاب (مبحث الشهداء) وإيضاح الغاية منه بالقول: (إننا في هذا الجزء بالذات نحاول إحصاء جميع شهداء كربلاء المقدسة), حيث لم ينحصر ذكره لأسماء الشهداء على واقعة الطف, بل تعدّاها إلى العصور اللاحقة من الذين سقطوا مضرجين بدماء الكرامة في سبيل العقيدة والمبدأ, ويمكن القول أن كل باب طرقه الكرباسي في هذا الكتاب هو مبحث كامل من حيث الإلمام والإحاطة بجميع جوانبه.
ويتوسّع الكرباسي في مبحثه باتباعه نهج التقصِّي والتعمُّق والاستغراق في الشرح ليصل إلى الغاية من بحثه واستيفاء موارده, ويستشهد الكرباسي في كل مباحثه على القرآن الكريم بالدرجة الأساس ثم الحديث الشريف وروايات أهل البيت (عليهم السلام) لأنه يراها ــ حسب تسلسلها ــ أحق وأقوى في الاحتجاج من غيرها من المصادر, ففي معنى الشهيد لغة واصطلاحاً يتلمس القارئ المقدرة العجيبة التي يبديها في علوم اللغة وإلمامه بشواردها ومواردها كما ينمُّ عن اطلاع شامل وبصير بمبانيها ودقة في ذكر معانيها واشتقاقاتها.
إن الجهد الذي بذله الكرباسي في هذا الموضوع يعبِّر عن مدى إلمامه به كما يعدُّ خلاصة له فلم يترك بُعداً أو جانباً فيه إلا طرقه, وبعد أن استوفى جميع أبوابه أدار دفة الحديث إلى كربلاء ليدخل مدينة الحسين وليُرسي سفينه على شاطئ الإباء ورمز البطولة والفداء الإمام الحسين (عليه السلام) في باب (كربلاء والقتلى) الذي بيَّن فيه هدفه من الكتاب بالقول: (ونحن هنا سنذكر ما تمكّنا من رصده خلال أربعة عشر قرناً في مطويات سجلاتها كل من قتل على هذه الأرض المقدسة ظلماً فكان شهيداً), حيث شمل تعداده ــ إضافة إلى شهداء الطف الذين استشهدوا في كربلاء يوم عاشوراء ــ الشهداء خارج أرض المعركة والذين دعموا ثورة الحسين معنوياً وناصروا ثورته وكانت لهم روابط بالمعركة, كما شمل التعداد أيضاً الشهداء الذين سقطوا في سبيل إحياء ذكرى الحسين وشهداء انتفاضة مسيرة الأربعين وكل الشهداء من هذه الأرض المقدسة في العصور اللاحقة والذين سقطوا في سبيل الله والدين والوطن.
ثم يبدأ بذكر أسماء شهداء واقعة الطف الأليمة أولئك الأبطال الذين أنهوا حياتهم بأروع نهاية وأجلِّ خاتمة وهي الشهادة بين يدي سيدهم الحسين, ولكن الكرباسي له رأي في عددهم انفرد به دون المقاتل حيث يقول: (إن ما شاع بأن عدد المستشهدين بين يدي أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) بلغ اثنين وسبعين شهيداً غير صحيح)! ويعزو هذا الرقم إلى الهاشميين فقط باستثناء الإمام الحسين, ثم يعدد ما ذكره المؤرخون في عددهم من أقوال والتي بلغت أربعة عشر قولاً لكنه لا يأخذ بها ويتبنّى رأياً مدعوماً بالأدلة ومرفقاً بالقرائن على أن عددهم (قد ناهز الأربعمائة رجل وامرأة), ويحيل القارئ إلى تفاصيل ذلك في كتابه: (معجم الأنصار) وهو ما اعتمده أيضاً في هذا الكتاب فعدَّدَ أسماء ثلاثمائة واثنين وعشرين شهيداً ما بين رجل وامرأة وشيخ وطفل من الهاشميين والأصحاب, وأورد أسماء حتى الذين احتمل وجودهم في بعض المصادر دون الأخرى, وقد راعى في ذكرهم تسلسل الحروف الأبجدية واستثنى الإمام الحسين (عليه السلام) من هذا التسلسل حيث بدأ بذكره الشريف, وقد ذكر لكل شهيد نبذة مختصرة من ترجمته مع ذكر المصادر التي استقى منها في الهامش.
في الفصل الثاني يخصص الكرباسي موضوعه لذكر أسماء شهداء عزاء طويريج عام (1966) بعد أن يمهِّده للحديث عن تاريخ عزاء طويريج ونشأته وتطوره ثم يذكر سيرة مختصرة لكل شهيد حيث ذكر أسماء اثنين وثلاثين شهيداً ليتطرَّق بعدها في (ملحق الفصل الثاني) إلى شهداء انتفاضة الأربعين الذين سقطوا على يد النظام البعثي عام (1977) فذكر أسماء عشرة شهداء مع سيرة لكل شهيد.
لقد كان هذا التاريخ العظيم لكربلاء أثره الكبير عند الكرباسي وأعطاه حافزاً لتسليط الضوء عليه فكان بمستوى المسؤولية التاريخية والأخلاقية لهذه المدينة المقدسة فهو الابن البار بها الناهل من مواردها, ولا يزال هذا التاريخ الثر والزاخر بالمعطيات, المليء بالإنجازات الكبيرة مصدر الهام لعشاق البطولة والإباء وهم يستقون من الإرث الديني والفلسفي والفكري والإنساني الكبير الذي توّج المدينة والمتمثل برمزها الخالد الإمام الحسين (عليه السلام).
اترك تعليق