لخط الثلث مكانة خاصة عن الخطاطين كونه يعد من أصعب الخطوط العربية في مكنتهِ، وبه تقاس الإمكانية الفنية و المهارية للخطاط ومن يتمكن منهُ يتمكن من باقي الخطوط الاخرى، وقد نال اهتماماً كبيراً من قبل الخطاطين والمجودين في إتقانهِ وضبط قواعدهِ حتى بلغ مستوى عال من الإبداع.
استخدم خط الثلث في كتابات آيات الذكر الحكيم، فهو يشغل حيزاً كبيراً من مجموعة العناصر الجمالية والدلالية في العمائر الإسلامية كالجوامع والأماكن والاضرحة المقدسة، فضلاً عن اشغاله الجمالي لعناوين الكتب والمؤلفات المهمة، لذلك اخذ خط الثلث يتطور عبر الحقب الزمنية والعصور المختلفة، اذ تحققت له الجودة والتحسين والتجميل لحروفه في زمن حكم الامويين وقد تميز الخطاط في الحقبة الأموية بمراعاته المسافات البينية بين الكلمات ووزنها، واهتم أيضا بترتيب الأسطر حيث أصبحت جميع اسطر الكتابة منتظمة وذلك للحفاظ على استقامة السطر وعدم التفاوت فيما بين الحروف مما يكسبها جمالية في الإيقاع والتناسب، وتلاه في فترة حكم بني العباس اشتهار عديد من الخطاطين الذين أسهموا في تطور خط الثلث وتحسينه وصولا الى القرن الثالث عشر الهجري حيث اثبت خط الثلث وحافظ خطاطيه على مقوماته وقواعده الاساسية، ليتم هنا إجراء بعض التحسينات الفنية عليه بسبب تأثير الطريقة التعليمية التي اتبعت بوساطة الكراريس والتي تداولها الخطاطون .
لقد توجت مسيرة خط الثلث في هذا القرن بنقلة جديدة حافظت على شكله الفني ، ويعد الخطاط مصطفى راقم من أوائل الخطاطين الذين عالجوه وخاصة في جلي الثـلث فقد حـقق في صورة الثلث المعـتاد الذي يكتب عادة على شكل سطور على مختلف أنواع المساحات سواء كان ذلك في القطع أو الرقاع أو الأدراج،, الامر الذي انعكس على الأشرطة الخطية في المساجد والألواح الفني، وقد تمت فيها معالجة وتحسين أوضاعها لاسيما في التراكيب التي وصلت به حد الإتقان، ويعد راقم أول من اوجد فن التراكيب في تكوينات خط الثلث ولذلك يعد من ابرز الخطاطين، اذ انه قد درس خطي الثلث والنسخ على يد أخيه الأكبر إسماعيل ألزهدي والخطاط درويش علي، وبرز بصورة خاصة في الثلث الجلي وفي الرسم، وقد امتاز بقدرته على رسم وضبط قواعد الخط العربي التي كان ومازال لها الفضل الاكبر في تطور خط تكوينات خط الثلث، واستطاع أيضا ان يكون له أسلوبا مميزا في هذا النوع من الخط فقد انفرد بتكويناته الخطية ذات الإشكال غير المألوفة التي تنبض بالجمال.
و يعد عنصر التكوين من الخصائص المهمة والبارزة في خط الثلث وجزء من مرتكزات بنيته الفنية المثالية وهيئته العامة للشكل اللفظي، اذ أعطى التكوين لخط الثلث القابلية الواسعة في التشكيل والتنويع والإبداع الفريد، وذلك من خلال الحرف الذي يصاغ به العمل الفني وفق فكرة معينة لإنتاج شكل منتظم والذي يتحقق من خلاله الجانب الوظيفي أو الجمالي أو كلاهما في آن واحد، وايضاً من خلال تراكب الحروف أو كلمات النص المخطوط بعضها فوق بعض أو تداخلها وتشابكها فيما بينها والتي يتم من خلالها تحقيق فن النقوش الكتابية التي تستوعب عادة اكبر عدد من النصوص إذا ما قيست بالكتابات المنفردة فوق السطور، ولا يخفى على المتتبع لهذا الخط ان الخاصية التي يتمتع بها من تعدد أشكال رسم الحرف الواحد تحل إشكاليات التنظيم الشكلي للحروف والكلمات وتسهم في إنتاج وتوظيف أشكال خطية وفق أسس تصميم عالية الدقة وبالتالي استحداث هيئات خطية جديدة ومبتكرة تحسب وبلا شك تطوراً في مسيرة خط الثلث وصفة جديدة من صفاته المتجددة.
وهنا ووفقاً لأرث هذا الخط الرائع يمكننا ان نصنف التكوينات الخطية في خط الثلث إلى أنظمة متعددة كل حسب وظيفته فيما إذا كانت جمالية أو قرائية أو كليهما معاً، ومن أهم هذه التكوينات ( تكوينات الأشرطة الكتابية، تكوين السطر المتداخل، تكوين السطر متعدد المستويات، التركيب بهيئات هندسية اضافة الى التكوين المرآتي و الايقوني) وهي مقسمة حسب وظيفتها ومدى جاذبية اشكالها وسهولة قراءتها وتذوق جمالية حروفها كل على حدة.
فلو ميزنا المخطوطة الموضحة في الصورة اعلاه على سبيل المثال والناطقة بما فيها من قول رسول الله صلى الله عليه واله بحق ابن عمه ووصيه الامام علي عليه السلام، والتي تمثل نموذجا لتكوين الاشرطة الكتابية ، حيث يمكن استخدام هذا التكوينات لأداء الأغراض الوظيفية نظراً لتتابع الكلمات فيه، وعادة ما يكتب في هذا التكوين على شكل شريط ممتد ، وتكون كلماته متتابعة تتسم بالوضوح لتؤدي وظيفة قرائية, والتتابع هنا يكمن في قدرة الخطاط على جعل المتلقي ينظر إلى نقطة بداية معينة ثم ينتقل من هذه النقطة إلى نقطة أخرى ثم اخرى ثالثة وهكذا بطريقة تتابعية، ولو دققنا اكثر لوجدنا ان أساس هذا التكوين هو ثلاثة خطوط وهمية مستقيمة افقياً ، يمثل الأول منها السطر الأساسي للكتابة وهو خط استقرار الحروف والكلمات وانتظامها ، وذلك لان ميزان الكتابة يرتكز على هذا الخط أما الخط الثاني وهو الخط الأعلى الذي يمثل هامات الحروف المنتصبة أو الأصابع في حين يمثل الخط الثالث استقرار الحروف المتدلية عليه من سطر الكتابة ، وبالتأكيد تكمن أهمية هذه الخطوط الوهمية في ربط وانتظام أجزاء النص فيما بينها لتؤدي التتابع في التكوين .
اترك تعليق