من قلب الازقة ..

التكوين الفني يحمل توقيع الفنان التشكيلي العراقي احمد الشهابي والذي انجز كجزء من سلسلة اعمال الفنان التراثية والحضارية المتجددة في تزيين العمارة في بلاد وادي الرافدين بريته الحداثوية المتجددة، وقد اعتمد الشهابي في لوحته مبدأ الجمع بين اسلوبين متناقضين، اذ جمع بين الاشكال الواقعية وبين بعض العلامات والرموز التجريدية ذات الدلالات الواضحة للمشاهد، فعمد على تحوير الاشكال الواقعية وتجريدها من ابعادها الحقيقية وربطها بعلاقات تركيبية متناسقة.

 حاول احمد الشهابي جذب نظر المشاهد من خلال توزيعه عناصر اللوحة على مساحة المشهد لتشغل معظم سطحه افقياً، الذي احتوى على مساحات مشغولة بأشكال هندسية ونباتية وكتابية متلاحمة ومتجاورة، متكوّنة من قباب ومنائر واهلة وبيوتات بغدادية وبعض الكلمات المتداخلة فيما بينها، حيث يلمس المشاهد للوحة ان الفنان يعود في هذا العمل الفني إلى ذكريات الطفولة ، مخترقا به عالم التراث الشعبي حيث بين الحرف العربي والبناء الهندسي للشناشيل الخشبية والقباب والمآذن والاهلة من فوقها وبين زخارف جاءت كمربعات ومستطيلات متداخلة، بما يوحي بمكنونات الفنان وأفكاره، ومشاعره المغلفة بعالم التراث والحنين الى التراث العراقي وجمالية مفرداته ورموزه التي تعود بالمشاهد والفنان وتصنع ذاكرته وتغني ملكته الفنية والجمالية .

ان استخدام الفنان المنتج لألوان اللوحة جاء نتيجة تواشجه مع الالوان المستخدمة في التراث العراقي بشكل عام، كألوان السجاد والبسط المحلية والوان الخشب المستخدم في صناعة الشناشيل في البيوتات العراقية القديمة ، وهذا ما تناسب مع بقية مساحة اللوحة التي حاول فيها الفنان أن يعيد صياغة اشكالها ليكون أرضية مشحونة بالرموز والأفكار، وهذه المعالجة تعود بالذاكرة الى فنون العراق القديم والفنون العربية الإسلامية فيما بعد خاصة فن الزخرفة الإسلامية من خلال إبراز الشكل والمضمون الروحي للوحة .

ومن جانب آخر تتجلى للمشاهد أشكال الرموز الإسلامية وما تحتويه من زخارف ونقوش مميزة ، حيث وظف الفنان تلك الرموز بتراكيب جديدة مستفيداً من مقوّمات التركيب البنائي للرموز الإسلامية التراثية ليصوغها بشكل جديد، فالقباب والأهلة والأبواب المزخرفة التي أولاها الفنان عناية خاصة في اللوحة فأن الرموز الإسلامية المتعددة التي احتلت مراكزاً سيادية في المنجز تمثلت بأشكال الاهلة والقباب والمنائر المنتشرة على مساحة اللوحة،  وهي تحمل قيمة تشكيلية من خلال ربطها بين المسجد والمدينة وبالخصوص في هذه اللوحة، ففيها إشارة رمزية واضحة لارتباط العالم المحسوس بعالم المثل وارتباط المسلمين بالخالق جل وعلا وبأجواء روحانية وقدسية انتقلت الى حياتهم اليومية وحتى في معيشتهم وطريقة بنائهم وسكنهم.

 لقد تعامل الشهابي مع الوان اللوحة بطريقة مميزة فلم يكن ذلك على أساس قيمة اللون التشكيلية أو الجمالية فحسب، بل كان لقيمة اللون الرمزية والتعبيرية والتي لها الأثر الواضح في اختياره للألوان وتوظيفها بشكل رمزي أو تعبيري ، فعمد على جعل الفضاء العام للمنجز يميل إلى الوان مختلفة وبدرجات متفاوتة وهي على ما يبدو تمثل اوقات السحر والغسق والليل ، وتخللت مساحات اللوحة ألوان عدة تراوحت بين الاصفر والاحمر والبني والبرتقالي وبعض الألوان كالأبيض والأخضر وحتى الأسود الازرق بدرجاته، فضلاً عن بعض المساحات اللونية الخليطة المتناثرة في ثنايا اللوحة لينتج عن كل هذا التنوع اللوني إفصاحاً لدلالات الحركة والتكرار الخطي واللوني الذي يقود الإيقاع إلى هندسة الاشكال وإشغال المساحة الكلية للفضاء بتداخل البُنى وتراكب الأشكال الهندسية مع الخلفية المميزة كأنها جدران لبيوتات الازقة العراقية القديمة .

وهنا تجدر الاشارة الى  أن اللوحة اعلاه هي مثال يحتذى به للتحولات الفكرية والبنائية التي تنسجم مع ما آلت إليه الفنون التشكيلية من عمليات البحث الفني التجريبي لطبيعة الفن وتداولية مفاهيمه الحداثوية ومحاولة توظيفه لاستعادة تراثنا العراقي بحلة حداثوية أخّاذة، ويبدو أن احمد الشهابي قد أبدع في هذا.. فهو كما نشاهد في اللوحة اعلاه وسائر لوحاته الفنية .. قد عبر عن قابلية الذات في كشف الجمال المستتر وراء تجريد الأشكال وألوانها .

 

كاتب : سامر قحطان القيسي