حافظ الشعرُ العربيُّ على مرِّ عصورهِ بهويّته القائمة على رُكني الوزن والقافية، وهو النمط الذي تفتّحت عليه قرائح شعراء الجزيرة العربية منذُ ابن حذام الذي أشار إليه امرؤُ القيس في بيته الشهير:
عوجا على الطلل المحيلِ لعلّنا نبكي الديارَ كما بكى ابنُ حذامِ
ولعلّ تلك الإشارة اليتيمة التي ألمع إليها امرؤ القيس تُكسبه الفرادة في سبق القول ضمنيًّا: إنّ الشعر العربي لم يكن إلا على هذا النمط الذي ألِفناهُ؛ ولذا كان الشعراءُ يسيرون في ركاب ذلك التقليد الذي اختطّه لهم (ابنُ حذام) تلك الشخصية التي صمتتْ مدوّنات التاريخ عن ذكرِ طرفٍ من أخبارِها، فلم يكن سبيلٌ بين الشعراء أنْ يتقدّم أحدهم على الآخر من حيث التنافس أيُّهم أشعرُ إلا من حيثُ دقّة التصوير الذي يبرع فيه الشاعر من دون الآخرين، فكان امرؤ القيس ابنَ بجدتها في سبقه الآخرين بجدّة الصور وانتزاعها من عدّة أطراف، قد نُمهّد لحديثنا ببيت له على نحو الاختصار، وهو قوله:
كأنّى غداة البين يوم تحمّلوا ... لدى سمرات الدار ناقف حنظل
لقد أدرك نُقاد الأدب بُعد الصورة التي نسجها الشاعر من جهة لفظية، حيث جاءت أداة التشبيه والمشبّه في أول البيت، أما المشبّه به فكان في آخر البيت، هذا من جهة، ومن جهة أخرى أنّها غير مستهلكة، بما يتطلّب كدًّا ذهنيًّا من قبل القارئ لهذا البيت- ولعلّ الشاعر لم يحصر طلبه بالوقوف لمن كانوا معه فيما قبل هذا البيت بل كان يروم ضمنًا أنْ يقف قارئو شعره عند أبياته- فيتأمّل في زوايا الصورة التي رسمها الشاعر، ويجد نقاط الالتقاء المضمرة، فيؤشّرها بعقله، بما يدع فُسحةً لانتشاء العقل وإمداده بالصور المشغولة بالفِكر؛ ولذا كان نُقّاد الشعرِ أولى تذوّقًا من غيرهم، فكان لابن قتيبة (ت: 276 هـ)، أن يجتهد ويقول: ((أراد أنّه بكى في الدار عند تحمّلهم، فكأنّه ناقف حنظل، وناقف الحنظلة ينقفها بظفره، فإن صوّتت علم أنّها مدركة فاجتناها، فعينه تدمع لحدّة الحنظل وشدّة رائحته، كما تدمع عينا من يدوف الخردل، فشبّه نفسه حين بكى بناقف الحنظل)) الشعر والشعراء: 129 .
ومن يقرأ كتاب ابن قتيبة فيما بعد الشاهد المقبوس من كلامه في أعلاه، يجد أنَّ ثمّة تقليدًا مضى عليه الشعراء – بما فيهم شعراء المعلّقات- حتى في تناولهم الصورة، مما يُبرهِن أنّ رهانَ الشاعرية لم يقف عند حدّي الوزن والقافية، بل بطرافة الصور التي تنهال بها مخيّلة الشاعر، وقُدرته على التصرُّف باللغة في رسم تلك اللوحات الآسِرة عبر إتقانه لعبة البلاغة، وأكثر من ذلك حين يُشاكس السائد من استعاراتٍ وكنايات وتراكيب اعتاد السواد الأعظم من الشعراء في استعمالها بهذا الشكل، فيأتي المبدع ليُعيد رسم الطريق إلى خارطة إبداعه بإعادة تشكيل تلك التراكيب المقيّدة لإبداعه في الوقت الذي يُحافظ فيه على هيبة القواعد النحوية، فلا يمسُهُ إلا على نحو المُرخّص به من تجاوز بعض الشروط الصارمة للقواعد النحوية بشكلها التقعيدي الصارم، بما يُحقّق الغاية الإبداعية التي يستشرفُ ضفّتها في متخيّله المترامي الأطراف.
وفي ديوانه البِكْر (أضرحة الماء) الذي خصّصه الشاعر الدكتور أحمد الخيال الجنابي، في مدح ورثاء أئمة أهل البيت (ع) يجد القارئُ فيه إبداعًا فنّيًا محضًا جرى عليه الشاعر، مغادرًا تلك النمطيّة التقليدية في استعراض وقائع الملحمة الحسينية، بما يجعلها أشبه بالسرد التاريخي، منتقلاً إلى رسم الحادثة برمزيّة عالية اتّخذت البلاغة الحديثة القائمة على التغريب في إيراد الاستعارات والكنايات، مُخفّفًا من عبأ التُراث اللغوي الذي استراح على رفوف المكتبات في معاجم اللغة وكتب الغريب، الأمر الذي يجعل نصّه محلّقًا في ذهن المتلقّي كالمنطاد حين يعلو بفعل رمي أكياس الرمل المعلّقة فيه من قبل صاحبه، فلنأت مثلاً إلى قوله مُشيرًا إلى أصحابه:
هم كربلاءُ، نمتْ على أوجاعِهم أغصانُها، والحزنُ فيها مثمرُ
هم أيقنوا بالحبّ حين تفرّسوا وجهَ النبيّ بوجهِه فتحرّروا
قالوا لصوت الماءِ حين تضوّرت أفواهُهم عطشاً بأنـــّــهم روُوا
لم يمنعوا ماعونَهم يوماً وما جاعتْ قصائدُ حبِّهم أو قصّروا
همْ والحسينُ وكربلاءُ ورابعٌ ساق الدماءَ على الدماءِ فكبّروا
لعلّ ما أورده الشاعر في هذه الأبيات من استعارات لا يمكن اقتناصها كلها، فهي متداخلة فيما بينها مكوّنة صورًا تتوالد من صور، وأرى أن الاستعارة المكنية التي اشتغل الشاعر عليها في أول البيت، إذ شبّه كربلاء بالشجرة ولكنه حذف المشبّه به وأبقى بعضًا من لوازمه مثل (الأغصان، مثمر) ومن ثم شبّه أنصار الحسين (ع) بكربلاء التي شبّهها بالشجرة، بجامع كونهما –الأنصار وكربلاء- لهما صفات الشجرة من حيث العطاء، وإفادة الآخرين من ثمرها، على الرغم من اكتساء تلك الثمرة بقشرة الحُزن الذي جلّل مصارعهم، ومن ثمّ في البيتين التاليين، تجد تغريبًا واضحًا يُضفي للماء صفات الإنسان ما يُسمّى بالتشخيص، كذلك يُضفي صفة التضوُّر للأفواه من العطش، في حين تعارف الاستعمال اللغوي أنّ التضوّر للبطن من الجوع، هذا التلاعب البلاغي المشاكس من شأنه أنْ يستفزّ القارئ ويجعله يعيد النظر في البيت الشعري؛ لما فيه من إسناد صفات لأشياء لم تتّصف بها حقيقةً بل مجازًا، وبهذا تكون المفارقة لاعبًا أساسيًّا يعمل على إدامة الدهشة الناتجة من فجوة التلقّي ومسافة التوتّر – بتعبير كمال أبو ديب- التي تنشأ من هذا التغريب في الإسناد.
ويلتفت الشاعر إلى المضمون الذي يحرص أنْ يعرضه بمستوىً يُوازي الأداء الشكلي المتمظهر في القصيدة، فيُضفي على أولئك الأنصار صفات الكمال، بأنّهم لم يُقبلوا إلا على ما يُؤثّث حضورهم المعنويّ عبر التاريخ، فقد شبّههم – إيماءً- بالشعراء الذين هاموا عِشقًا في وادي كربلاء، فراحوا يُقدّمون كلّ ما عندهم من غالٍ ونفيسٍ لأجل فداء مولاهم الحسين (ع)، أما البيت الرابع – موضع الشاهد- ففيه اكتمال لوحة العشق الإلهي بانصهار تلك الأركان الأربعة ممثّلة بالموقع (كربلاء) التي اختارها الله من دون الأرض لتكون مسرحًا للتضحية والفداء، وبهم وبالحسين (ع) وبالرابع الذي لم يشأ الشاعر أنْ يُفصح باسمه؛ لإيمانه أنّ لعبة النص لا تكتمل إلا إذا اشتغلت على ملأ الفراغات التي لا يُتقنها سوى القارئ – بالمصطلح الذي أورده آيزر- فكانت دلالته مفتوحةً لاحتمالات يقع كلٌّ منها في معنًى يصبُّ في تحقيق شعرية النص بفتح آفاق تأويله إلى دلالات متنوّعة.
وفي قصيدته الموسومة (على باب كربلاء) يُتقِن الشاعر اللعب الاستعاري، بما يحرّك الراكد من أفق تلقّي النص الشعري لدى القارئ، الأمر الذي يرتهنُ إليه نصيب القصيدة من الإبداع، وذلك باختيار زاوية النظر التي تمهّد لموضوعه الأساس، بما يشبه موقف المصوّر البارع الذي يختار موقعًا له يُعينه على التقاط الصورة المعبّرة عن الحدث، فنقرأ للشاعر مخاطبًا كربلاء:
يا كربلاءُ أخافُ صوتَ ندائي وأخافُ نبضي واعترافَ الماءِ
فأنا ببابِكِ أستظلُّ بغيمةٍ بيضاءَ إنْ مطرتْ بلا إرواءِ
عيناي تنظرُ... لا مكانَ لأرضِها والقلبُ جفّفَهُ ضريرُ بكائي
قدمايَ سارا... لا زمانَ لرحلتي أنحرتُ كلَّ خطايَ في الصحراءِ؟
أسجدتُ فوق الرملِ أدعو خائفاً؟ متوحّداً في سجدتي ودعائي
تتكرّر في جميع هذه الأبيات إحالات الضمائر للمتكلم بما يشدّه في وحدة عضوية متكاملة، إذ تتعالق أجزاء النص وتتفاعل فيما بينها لتنتج دلالة كلية للنص ، إذ يتجلّى ذلك الصوت المنفرِد مخاطبًا كربلاء، بما يُكسبها تجسيدًا حيث تُضفى عليها صفات الكائن الحي القابل للتواصل، والشاعر إذ يخاطب كربلاء إنما يبغي الخلاص مما اعتراه من خوفٍ يُلاحقه وكأنّه يريد أنْ تفتح له الباب، ثمّ يواصل إضفاء مشهديّة الخوف على نصّه بإخبارنا أنّ عينيه تترقّبان وقلبه جفّ من بكائه الضرير، ثم ينتقل بنا إلى قدميه اللتين نحر خُطاهما، مستفهمًا عما تركه من مسير لم يبقَ منه أثرٌ لخُطاه، ثم يخاطب نفسه هل سجد فوق تلك الرمال انقطاعًا إلى الله ..؟ لم تكن أسئلته سوى دوالٍ تترك المتلقّي في متاهات تعبّر عن حيرته بما لا يجده من أجوبة تروي عطش تلقّيه.. وكأنّ ذلك ما أراده الشاعر حين يوحّد – بالمفهوم الصوفي- بين تجربته الذاتية وبين التلقّي الفنّي الذي يتغيّاه لنصّه، كلُّ ذلك لأجل أنْ يكون مدخل قصيدته مرفأً يمهّد له الرُسوَّ في ذلك الأرخبيل الدافئ المتمثّل بكربلاء الشهادة، ولذا يُفصح في أواخر أبياته عن تلك الحيرة، بقوله:
فالحبُّ يصعبُ في الحسينِ مُفسَّراً فأجلُّهُ مخفىً عن البُلَغاءِ
فأنا إلى خفقِ اصطبارِكِ أنتمي أحبو إليكَ محمّلاً بولائي
أحبو وقلبي في هداكَ مسيّرٌ يرنو إليك بمقلةٍ خرساءِ
تحكي اشتهاءَ الدمعِ حين نزولِهِ والحزنُ فيها مرسمُ الإيحاءِ
وقفتْ خطايَ على أديمٍ طاهرٍ والروحُ طافت في مدى السعداءِ
فإلى رياضكِ –كربلاءُ- يهزّني شوقٌ أسيرٌ ظامئٌ للقاءِ
يظفر الشاعر بمعشوقه الحسين (عليه السلام) بعد أنْ دخل أرجاء مدينة عشقه حبوًا؛ لأجل أنْ تتغلغل مشاعره في أديم ذلك التراب الذي جرت عليه دماء الطاهرين من آل البيت وأنصارهم، ولعلها فرصةٌ مناسبة يستثمرها الشاعر لاستدرار مدامعه، إلا أنّه أفلح في الموازنة بين جانب العاطفة التي تجرُّه إليها أجواء الحزن الذي يتبدّى عبر ثنيّات المأساة، وبين جانب استظهار ما يُلملم تلك العاطفة من الوقوع في ذلك الصخب العالي من البُكاء بالتماسه الوقوف على مكامن العزّة والشموخ في تلك البطولات التي تترجم عمق إيمان أولئك الأفذاذ بتلك الرسالة الخالدة التي حملها إمامهم وضحّى من أجلها. كلُّ تلك المضامين جعلها الشاعر في إطار جمالي رشيق يُعيد للغة الشعر بهاءها من حيث التأنّق باختيار الاستعارات، ومن ثم توزيعها بطريقة فنّية متعادلة، إذ الاستغراق في الترميز الفنّي يُلفت القارئ عن الهدفِ الأساس الذي انشغل الشاعر بحمله عبر وعاء الشعر؛ فلذا كانت المواءمة بين هذين الجانبين – بحسب ما أراه- معيارًا أصيلاً يُماز من خلاله الشاعر المبدع عن سواه.
وبهذا تغلب السمة الإبداعية في مجمل قصائد هذا الديوان، إذ تتوالد الصور وتتشعّب كأغصانِ شجرةٍ عظيمة جذّرها الولاءُ لآل بيت النبوّة، بما يجعل موضوع الشعر الحسيني ملهمًا لخيال الشعراء، ومن ثم لا يمكن الركون لقول الشاعر: (ما ترك الأوّلُ للآخر) لجدّة الصور الشعرية التي أفرزها لنا هذا الديوان وغيره من أسفار العشق الولائي لآل بيت الرسول (ص).
اترك تعليق