تشظيات ذاكرة..

حاول اغلب فناني الحركة التشكيلية في العراق الابتعاد عن مقتربات أشكال العالم المرئي وعلاقاته الحسية، وذلك في محاولة لتحريره من سطوة العالم المادي، وقد حاول رسام اللوحة اعلاه ذلك من خلال تناوله للأشكال الهندسية كالمربع او المستطيل واستخدامه كشكل ماورائي له لغته المرمزة، واستثماره كمفردة تشكيلية تبتعد عن المرئي المألوف وصولاً إلى المطلق بتجلياته الروحية، وفق رؤية تحاول التوغل إلى الأعماق للتعبير عن الضرورات الداخلية للفنان .

اللوحة من ابداع التشكيلي العراقي الراحل شاكر حسن ال سعيد الذي انطلق في هذا العمل كما هو معهود منه بمكوناته الثقافية والفكرية والمعرفية، وبرؤية صوفية تأملية تخترق مكونات العالم الخارجي إلى أسلوب تجريدي يكشف عن تلك العلاقة الجدلية بين الذات والموضوع ، من خلال حالة قلق وبحث دائمين ، هو جزء من القلق الإبداعي الذي يشكل سمة من سمات المبدع في مرحلة فنية وسياسية لا تتسم بالهدوء والاستقرار، ولو دققنا في مفاصل اللوحة وعناصرها لوجدنا ان ثمة تفكيك يسود فيها ويبدو ان الفنان عمد الى ذلك بغية الوصول بهذا العمل الابداعي إلى كلية لا متناهية لأشكال الحياة والإحساس بكينونيتها، سعياً إلى إعطاء أشكاله استثارات داخلية تمتلك من القوة ما يجعلها حاملة لمضامين عدة ، مُعلنة وغير معلنة .

تتمازج في هذه اللوحة الالوان لتضفي احاسيساً خاصة للمساحات ذات الألوان السوداء والرمادية مع الحروف والكلمات العربية والخطوط العشوائية التي تعلوها، اذ تتشابك في عفويتها وشحنتها العاطفية لتقترب من الرسوم التي يتركها الأطفال على جدران البيوت القديمة بكل ما تحمله هذه الكتابات والأشكال من تنوع دلالي، مضمناً إياها أشكالاً هندسية مع إضافات لما يمتلكه ال سعيد من رؤية خاصة عليها .

عادة ما ابتعد شاكر حسن ال سعيد عن تصوير الاشكال الانسانية، لكنه لم يبتعد عن الأثر الذي يتركه ذلك الإنسان الذي يعيش أزمات إنسانية وحضارية وسياسية، مصوراً من خلالها شعبيته ، وماساته، وقلقه اتجاه عالم مليء بالموت والدمار، فلوحته الشاخصة الان تنطق بكينونة إنسانية أخذت جانباً من ملامح الفرد العراقي الذي عاش ويلات المستعمر والحروب المتتالية، والدمار المشار إليه بأشكال مجزئة من الخطوط والكتل الداكنة ، موزعة على نحو تلقائي منفعل كتعبير تجريدي عن الإحساسات الداخلية التي يعيشها الإنسان الفنان ، والالتفاف حول الروح كسبيل للخلاص .

ويبدو واضحاً أثر الازمات والحروب وانعكاسها تجريبياً على السطح التصويري لدى آل سعيد  في اغلب اعماله، فهو يؤسس لمساحة ذات مواصفات مرنة ، يتخذ منها حزوزاً أو علامات أو ما يشبه الثقوب في الجدار المتمثل باللوحة، والتي ابتعدت عن القواعد المنظورية في تمثيل الفراغ ، لذا نجد أشكاله المزدحمة بالتنوع الظاهر ، تبدو كأشكال طافية متشظية ، تنتشر بعفوية ضمن صياغات حرة لم تنشأ عن قصدية سابقة ، بل تحكمت فيها حركة تأويلية منفتحة مع عملية القراءة .

ان الفنان لم يمتثل إلى القواعد والشروط الفنية ، فهو يُطلق أشكاله في فسحة مرنة من العلاقات الحرة ، مع التأكيد على فكرة المغايرة واللامألوف، في محاولة الفنان للنفاذ إلى البعد الدلالي من خلال معالجات تحتمل التأويل، وإعادة القراءة لمرات عدة، فأشكاله المسطحة تحفل بمضامين موزعة بين الصفات المرئية الموضوعيةوبين الصفات غير المرئية التأملية، فتبدو كصور مبعثرة للوجود ، أخذت طابعاً تجريدياً ، بعد عمليات الاختزال والحذف والإضافة وهي بحقيقتها تنتمي إلى أشكال مقتبسة من الطبيعة ، تستثير القوى الحدسية للمتلقي ، وتفتح نافذة للحوار مع الآخر .

وهنا نستطيع ان القول ان الفنان وفق في محاولة الكشف عن خبايا ذاته دون ان يفسرها ، فأفكاره تولد في لحظة خلق إلهامية لا شعورية تشظت فيها الأشكال المستمدة من مخزونه الصوري والرمزي من مخيلة حرة تزخر بالصور المتلاحقة ، والتي أتاحت بدورها الفرصة للانفتاح على العالم الخارجي، وتفككت معها الكتل وتوزعت الألوان، وتشتت الخطوط والحزوز في فوضى معقولة تقوض من منطق الأنساق الفنية الجامدة، ليصبح العمل مفتوحاً لا يتحدد بنقطة مركزية واحدة، بل يعمل التفكيك على تشظية معالم السطح التصويري ، لتنفتح معها منظومة التأويل ، ويتشظى بذلك المعنى المحدد ضمن أسلوبية تتوسم التعبير عن اللامحدد ، فالنص لدى الراحل شاكر حسن ال سعيد هو نص مفتوح تتشظى فيه الدلالات ، دون ان تفصح عن شيء ثابت محدد ، مما تتيح للمتلقي المهتم مزيداً من التأمل والإحالات وتغريه بمحاولة اكتشاف معاني الرموز ، وصلتها بالإنسان من جهة وبالمطلق من جهة أخرى.. تلك هي فنوننا العربية .

: سامر قحطان القيسي