زمكانية الاشكال في التصوير العربي الاسلامي..

  على الرغم من تنوع الثقافات في الاقاليم التي امتزجت مع الفكر الاسلامي ، وتنوع مظاهر فنون الحضارة الاسلامية، الا ان هذا التنوع خضع لوحدة ثقافية اساسها الفكر التوحيدي للعقيدة الاسلامية التي اخذ بها المفكر المسلم، وذلك دون ريب شكّل وحدة الرؤية الفكرية والبصرية للفنان المسلم، ولعل المفاهيم الزمنية الواردة في القرآن الكريم، وما بحثه مفكرو الاسلام كان احد المرجعيات ذات الاثر الواضح على التصوير العربي الاسلامي، اذ ان صياغته واسس بنائية سطوحه قد كيفها الفنان وفق تلك المرجعيات، وبالشكل الذي اثرت في موقف الفنان، وتشكيل قوة ضاغطة تركت آثارها في نتاجه الفني، ونفذت الى طرائق تفكيره الجمالي.. وجل ما تمخض من ذلك هو لغة بصرية حسية رائعة مؤثرة تمتلك حريتها في الصياغة والتكوين وحاملة لبنية الزمن وبالصورة التي جسدت وعي المسلم لزمانية الوجود المادي وما ورائه.

 

 ان من ثوابت الحقائق التي جاء بها كتاب الله، هي بقاء وحدانية الخالق جل وعلا ووجوده خارج عن مجرى الزمان، فأوليته وآخريته بلا ابتداء وانتهاء زماني، وان جميع المخلوقات فانية وتقع بمجملها في حدود الزمان وتبقى خاضعة له، وهذا ما استقاه الفنان المسلم واستثمره في تعبيره عن الوجود المادي وحركته باتجاه فنائه في اللغة البصرية، اذ سعى لإذابة وتبديد الكيفية الحجمية للهيئات وبعض الاشكال واحالها الى كيفية مسطحة في بعض اعماله، لعرض حركة تحولها من وسطها المادي المنظور وارتباطاتها الزمانية والمكانية، الى آخر ذهني مجرد، اذ يأتي المكان الثنائي البعد ملائماً لجعل الحركة المتوهمة في هذا الحيز .

 

    فلو اطلعنا مثلا على المكان التصويري الاخر الذي يحاول الفنان تمثيله ( من مخيلته او من ارض الواقع) نجد انه ذو ابعاد ثلاثية واقعا وله خواص الزمن الذي يتحرك فيه وما يستوجبه هذا المكان من اظهار البنى الحجمية وابراز كيانها في الفضاء، وما يرتبط بذلك من اظهار للبعد المسافي موجود ايضاً وتتبين من خلاله ماهيات الحجوم في الفضاء وبالشكل الذي تستطيع تقدير المسافة والزمن التي تفصل الاشياء فيما بينها، وهنا يكون المشاهد ملزما على الاحساس بالحركة من الخارج الى داخل خلال الحيز المكاني، في حين نلمس في نفس الوقت الكيفيات الحركية نحو عمق المشهد او فضائه.. وهو انما يؤكد فيؤكد على اتساع المكان المنظور وامتداده على نحو اكثر من المكان المسطح.

 ومن ذلك نستشف ان امكانية الحركة واحتمالاتها المتوهمة والمتجهة للعمق لها قابلية البقاء دون مفارقته، أي بمعنى ادق ان المكان الثلاثي الابعاد يعرض حركة الزمن بمعناه الفيزيائي كما هو في الواقع ، أي انه صالح لتسجيل الحقيقة الظاهرية لزمانية الوجود المادي والمتحددة بلحظة زمنية معينة، وان هذا التجسيد لحيثيات حركة الزمن كما هو في الواقع والتي تحكم وجود الاشياء في المكان الطبيعي، هو ما حاد عنه التصوير العربي الاسلامي على الاطلاق بدءاً من جذوره الرافدينية وانتهاء لما وصل اليه التصوير في قمة نضجه وتطوره اليوم، فالفن الاسلامي كما هو معلوم فن بعيد عن الابعاد المادية العيانية وارتباطاتها الزمانية والمكانية بالقدر الذي يهمه ما تحمله تلك الاشياء من ابعاد زمانية جوهرية تختفي وراء ظاهر الاشياء. فالفكر الديني الاسلامي كان ينظر للوجود على انه وجود روحي خارج المحددات الزمانية والمكانية، ووجود مادي معيّن بتلك المحددات.

 وهنا جاء الفن الاسلامي تعبيراً عن هذه الرؤية الثنائية للوجود واضحاً وجلياً اذ يلمس الاتجاه في احالة ما هو عياني محدود الى ما هو كلي وغير محدود، كوسيلة سعى الفنان اليها للتعبير عن الحقيقة الجوهرية للوجود، اذ لا يمكن للفن ان يعبر عن ذلك عبر التصوير المحاكاتي او المطابقة الحرفية للابعاد الحسية للطبيعة، فالفنان العربي المسلم اتجه بنظرته الحدسية التأملية الى الكشف عن الجوهر الخالد، الجوهر الكوني المتصل الذي لا يقبل التجزئة ولا التباين وهذا الكشف يتم بإلغاء الجوانب الحسية الزائلة من شخص الانسان ومن الطبيعة على حد سواء.

ولا شك ان الملامح الحسية تعيق الحدس عن ادراك غايته وهي الجوهر الحق، بل تصرفه الى التعلق بالمظاهر الواقعية والمكانية فتجعل منه حساً مرتبطاً بالغرائز والميول وبقدر ما تبدو الصورة ذات بعدين بقدر ما يكون ارتباطها بعلم الغيب قوياً، حتى يصل به هذا الارتباط الى تحويل الفكرة الى اشارة وقلب الواقع الى رمز كلي، واذا كان الفنان المسلم في تعبيره عن الحقيقة التي جاء بها القرآن الكريم في تناهي زمانية الوجود المادين قد تم من خلال صياغة الوسط الذي تحركت فيه بنية الزمن وبالكيفية التي ارادها الفنان، فان الوجود الالهي الخارج عن الزمان لا يمكن معرفته الا من خلال ما هو زماني ومكاني، أي ان المخلوق هو وسيلة للاستدلال على الخالق، وان هذا الوسط الذي تحركت فيه بنية الزمن تشير من الجانب الاخر الى حركة متخيلة مفارقة للوسط المادي لتنفتح على البعد الروحي، ويلمس ذلك في الفن العربي الاسلامي سواء كان رسماً تشبيهياً او زخارف نباتية او هندسية فكل واحدة من هذه الانماط تذكر بالتطلع من زمانية وجودها المادي للانفتاح على ديمومة كونية مطلقة، وكأن ذلك يرتبط بمعنى قوله الحق (( ولله ملكُ السمواتِ والارضِ وما بينهما واليهِ المصيرُ )) .

 اللوحة من ابداع الفنان الهندي (مقبول قضية حسين)، ورسمت بتقنية الزيت على القماش وتحمل عنوان ( كربلاء ) ، وقد تضمنت بين حدودها المستطيلة سهاما متطايرة بين حصانين يخوضان معركة حامية (كرمزية الى القوتين المتقاتلتين)، حيث تظهر تلك الوحوش القوية بدون حوافر، كجزء من اللغة البصرية للفنان .

 

 

المرفقات

كاتب : سامر قحطان القيسي