كانت المجتمعات المختلفة على الدوام تحت تأثير الكينونات الثقافية الخاضعة لتأثير النشاطات الاجتماعية والفعاليات التاريخية والدينية العقائدية، وذلك يُعد ضرب من الحراك الاجتماعي الذي يتضمن تبادلاً لبعض المعطيات الثقافية وتفاعلها، وعلى اعتبار أن الفن هو نشاط ثقافي واجتماعي بمعناه الواسع فهو يعد نتاج للأنشطة البشرية المختلفة التي تظهر الوظائف العديدة المتمخضة من تراكم الثقافات المكتسبة والموروثة بما فيها الوظائف الدينية والعقائدية، فلا يمكن أن يتصور وجود مراحل فنية مهمة من دون أن تكون ملتحمة بديانات كبيرة، لان اقتران الثقافة بمستوياتها المختلفة لا تنفصل عن الدين .
أن للاديان مفاهيم روحية مشتركة تحدد أطر التحاور فيما بينها، وبالتالي فان انعكاس مفاهيم الأديان على الفن تعطي بدورها تمثلا كليا عن طبيعة الاداء والنتاج الفني لتحاور فنون الشعوب المختلفة الاديان فيما بينها، وذلك وفقاً لمقولة دوام الافكار وصورها المختلفة تكمن في مسار الحضارات البشرية.. عبر الرموز والدلالات الحاملة للمعرفة، والتي عادة ما يكون يكون فيها انعكاس لطبيعة التفسير العقلي للظواهر والموضوعات قيد الطرح ( موضوع اللوحة )من خلال استبطان الشعور وتجسيمه أو تجريده، ففي الوقت الذي كانت فيه اللغة المشتركة هي نقطة الارتكاز في علاقة الحوار الثقافي بين الحضارات، فإن الاشكال والرموز والدلالات المضمونية هي بطبيعة الحال محور التفاعل على مستوى الفن، ولعل سوء التبادل اللغوي يسوّغ ملامح عملية الصراع الفكري ان كان موجوداً، الا ان ذلك وفي مجال الفن يمثل الحوار على مستوى الشكل وربما المضمون، إذ أن الاختلاف على مستوى التفرعات الدينية بين الاديان والعقائد لم يوقف الفن الاسلامي عن التحاور الرمزي و الشكلي مع الفنون الاخرى، بل على العكس كان وما زال محاكياً لها بضرب سحري من التأثر والتفاعل بحكم طرق الاتصال المختلفة ومنها المحاورة الانسانية والجمالية الخالصة لينتج عن ذلك تداخل فكري ورسائل مفهومة قوامها الترميز الجمالي والفكري المحاكي لأفئدة المتلقين حين تعرضهم لا ي لوحة اسلامية بغض النظر عن ديانتهم او توجهاتهم العقدية.
ومن خلال ذلك وبعد الاقرار بان هناك عالماً واقعياً وراء الذهن وأن الانسان جزء منه ، يقع الكلام في صحة ما يعكسه الذهن عن ذلك العالم ومدى مطابقته للادراكات الذهنية والتكوينات الخارجية، ولمّا كانت طبيعة الوجود العام في حدود التصوّر الانساني مقسّمة بين المثالية والواقعية وعلى اختلاف الطرق المعرفية, فأن الفكر الاسلامي يوّضح حقيقة المعرفة , وطرقها بتصورات عقائدية تقرر المنهج الاسلامي المعرفي الذي يؤسس طبيعة الفن الاسلامي . من خلال مسؤولية الانسان في هذا الكون بإضافته بعداً من أبعاد المعادلة المعرفية المتمثلة بالخالق جل وعلا والعلم العالم والانسان وهو ما يتمحور في أتجاهين احدهما ذاتي تجاه نفسه , والاخر موضوعي تجاه العالم والله جل وعلا.
ويتعامل الفنان المسلم مع الموجودات والاوامر الالهية بما فيها من قوة وفعل فتكون محصلة ذلك التعامل هو تحول القوة الى طبيعة مغايرة لطبيعة الفعل حتى يحصل التوازن بين الفعل المادي والقوة الروحية , لان الفنان لا يمكن له ان يتدخل في الفعل الالهي, ولكنه يمكن أن يتعامل مع صنعه بعد مرحلة الانجاز في النتاج المتاح للتعامل البشري, والكيفية الفنية في تدخل الفنان بذلك النتاج في الترتيب المادي الذي يعطي الصورة الذهنية وجودها المماثل بالفعل، مفترقاً بذلك عن الصورة الطبيعية، ومناقضاً أياها في عملية التكييف والتحوير , وعلى ذلك فأن الفنان يمتلك أكثر من صورة , فهناك الصورة الذاتية للعمل الفني والصورة الذهنية السابقة والنافذة فيه والتي هي السبب في أنجازه , بينما صورة الاشياء في الطبيعة لا تمتلك الا نفسها بالشكل المماثل.
ولذلك كان وما زال الفن الاسلامي يبتعد عن المحاكاة للطبيعة ويتجه الى لغة جديدة للتعبير عن طريق الخيال, وهذا يعني أنه يبدي أهتمامه بالباطن دون الظاهر من الاشياء المادية , مما يشير الى وجود ذوات شاعرة بصفاتها الذاتية الخاصة و كيانها المستقل, لذا نجد أن التقليد والمحاكاة تساير الحياة وتتابع الحركة ففيها طابع الزمان , بينما يجري الفن الاسلامي مع الزمان , وبذلك أصبحت الصورة الذهنية عند الفنان المسلم تمتلك طاقة للتشكل المتوازن بين المادة والروح وفقاً لطبيعة التوجه الاسلامي المجرّد فتكون الصورة الماثلة صورة بسيطة غير مركبة , لذلك خلت الفنون الاسلامية في بعض الاحيان من أي معنى مباشر , فعندما يختفي الرمز نهائياً فأن معناه يستمر ليشكل مفهوماً باطناً للرمز ورسالته.
وفي ضوء ذلك فأن العمل الفني الاسلامي محاولة للتوفيق بين كينونات الوجود المرئي المحسوس وبين الوجود المتأمّل, أذ عمل الفنان المسلم على استلهام الخطوط والألوان والنسب وقوانين الرياضيات التي بمجملها مجموعة من العناصر المادية المنظورة , والعلاقات المدركة , والمرتبطة بالوجود العيني, و شكـّل ثوابت وشروطاً لا يمكن بدونها تشكيل المكونات الحسية للعمل التجريدي , ولكنها كينونات لا تمثل الواقع و لا تعبر عن أشكاله المبهمة نحو الزوال بقدر ما تمثل النظير المادي للتفكير الجمالي المستوحى من الفكر الديني .
اترك تعليق