803 ــ أبو الأسود الدؤلي: (توفي 69 هـ / 688 م):

أبو الأسود الدؤلي: (توفي 69 هـ / 688 م)

قال من قصيدة في رثاء الإمام الحسين (عليه السلام) والتحريض على ثأره:

يا ناعيَ الدينِ الذي ينعي التقى     قُم فانعِه والبيتَ ذا الأستارِ

أبني عــــــــــليٍّ آلَ بيتِ محمدٍ     بـ(الطّف)ِّ تقتلهمْ جفاةُ نزارِ

سبحانَ ذا العرشِ العليِّ مكانه     أنّــــى يكابره ذووا الأوزارِ (1)

وقال من قصيدة أخرى في رثاء الحسين (ع) أيضاً:

أ لستِ تريـن بني هاشم     قد افْنَتــــــهُمُ الفئة الظالمة

وأنتِ ترينَـــنْهم بالهدى     وبـ(الطفِّ) هامُ بني فاطمة

سأجعل نفسي لهم جُنَّةً     فلا تكــثري بيْ من اللائمة (2)

الشاعر

ظالم بن عمرو بن سفيان المعروف بـ(أبي الأسود الدؤلي)، شاعر عربي أصيل، ولغوي كبير، مثّل فصاحة اللغة ونصاعتها أبلغ تمثيل، عبّر شعره عن عمق الإيمان بالإسلام، وقوة معتقده بالنبي (صلى الله عليه وآله)، وولائه العميق لأهل بيته (عليهم السلام).. واضح الرؤيا، صريح التعبير، يُعدّ رائداً من روّاد الفكر العظماء، فهو أول من وضع النقاط على الحروف، وأول من وضع قواعد النحو، وأول من صنّف في علم الكلام واللغة بإشارة وتلقين من سيد البلغاء والمتكلمين علي بن أبي طالب (عليه السلام).   

إنه أبو الأسود الدؤلي الذي حَظي شعره باهتمام كبير من قبل دارسي الأدب ونقّاده كونه يمثل العصر الإسلامي الأول خير تمثيل.. لغة سليمة لم تشبها شائبة، وتراكيب فصيحة لم تشوّهها ترجمات دخيلة، وأفكار أصيلة لم تسيّرها الأغراض والدوافع والغايات الدنيوية، فكان شعره أميناً على سلامة اللغة، صالحاً للاستشهاد والاستدلال به في كتب اللغة والنحو والقراءات، أما شاعريته فقد كانت بمكانة بارزة في عالم الشعر العربي وحظي ديوانه باهتمام علماء الأدب ودراستهم ومراجعتهم وتداولهم إياه على مرّ العصور.  

رغم أن العشرات من أُمّات كتب السير والتاريخ واللغة قد تحدثت عن أبي الأسود وروت عنه الشيء الكثير من شعره وأخباره، وأولاه المؤلفون عناية خاصة إلا أنه وقع في اسمه ونسبه خلاف كثير لا يتسع المجال لسرد تفاصيله غير أننا اعتمدنا في ذكر ذلك على ما اتفقت عليه أكثر هذه المراجع الأدبية واللغوية والتاريخية، فقد ذُكر أن اسمه هو (ظالم بن عمرو بن سفيان بن جندل بن يعمر بن حِلس بن نُفاثة بن عَدي بن الدُّئل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار)، (3)

ويعزو الأستاذ عبد الكريم الدجيلي سبب الاختلاف في اسمه بقوله: (إن الذي يعرف بكنيته ويشتهر بها قد يُخفى على الناس اسمه الحقيقي) (4)

أما أمه فهي (الطويلة) من بني عبد الدار بن قصي، أما ولادته فقد قيل إنها كانت قبل البعثة النبوية الشريفة، وأدرك حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولم يره، وكان ممن أسلم على عهد النبي كما نصت على ذلك كثير من الكتب المعتبرة. (5)

وقد اتفقت أكثر المصادر على أن عمره حين توفي كان (85) عاما (6)، كما روى أكثر المؤرخين أن عام وفاته كان (69) بالطاعون الجارف (7) وقد وصف عبد الكريم الدجيلي رواية وفاته بهذا التاريخ بأنها (رواية متسلسلة مسندة) (8) وبالاعتماد على هذين التاريخين تكون ولادته قبل البعثة الشريفة بستة عشر عاماً فيعد من المخضرمين والتابعين، وقد روى عن أمير المؤمنين والحسن والحسين وعلي بن الحسين عليهم السلام (9) يقول الخوانساري: (وأما روايته عن أمير المؤمنين عليه السلام فهي كثيرة) (10)

هاجر الدؤلي إلى البصرة على عهد عمر وسكن فيها، وتشير الروايات إلى أن (أبا الأسود وليَ قضاء البصرة في ولاية عبد الله بن عباس عليها من قبل أمير المؤمنين) (11)، و(كان ابن عبّاس كلمّا خرج عن البصرة استخلف أبا الأسود) (12)

وكان أبو الأسود يعد من المقدمين الفقهاء والمحدثين من التابعين، كما أرسله عثمان بن حنيف عامل علي (عليه السلام) على البصرة على رأس الوفد الذي أوفده لمفاوضة أهل الجمل (13) وإن انتقاء أبي الأسود لهذه المهمة إنما كان لأنه يتمتع بمؤهلات عالية ترشحه لهذا المقام، كما ذكر المؤرخون أنه كان على رأس الجيش الذي أرسله عبد الله بن عباس لقتال خوارج البصرة، يقول الطبري: (أمَا خوارجُ البصرة فإنهَم اجتمعوا في خمسمائة رجل وجعلوا عليهم مسعر بن فدكي التميميّ، فعلم بهم ابن عبّاس، فاتّبعهم أبو الأسود فلحِقَهم بالجسر الأكبر) (14) كما كان ممن قاتل يوم الجمل مع الإمام علي (عليه السلام) (15)

وكان أبو الأسود من المتحققين بولاية أمير المؤمنين (عليه السلام)، ومحبته وصحبته ومحبة ولده، وقد روى ابن الاثير إن نقش خاتم أبي الأسود كان هذا البيت:

يا غالبي حسبكَ من غالبِ     ارحم علي بن أبي طالبِ (16)

وله كثير من الأشعار في أمير المؤمنين (عليه السلام) منها قوله في أن علياً هو أول من أسلم:

وإنَّ علياً لكمْ مصحرٌ     يماثله الأسدُ الأسودُ

أما إنه أوَّل العابدين     بمكــــــة واللّهُ لا يُعبدُ (17)

وكان أبو الأسود مجاوراً لبني قُشير الذين كانوا يناصبون العداوة لآل محمد، وكانوا أصهاره فكانوا يؤذونه لحبه لعلي بن أبي طالب (عليه السلام) فقال:

يقولُ الأرذلــــــونَ بنو قشـــيرٍ:     طـوالَ الدهرِ لا تنسى عَليا 

فقلتُ لهم: وكيف يكونُ تــركي     من الأعمالِ ما يُقضى عَلَيا

أحبُّ محمــــــــــداً حـــبّاً شديداً     وعبــاساً وحـمزةَ والوصيا

بنو عمِّ النبــــــــــــــيِّ وأقربوه     أحبُّ النــــــــــاسِ كلّهمُ إليّا

فإن يــــكُ حبُّهـــمْ رشداً أصبه     ولسـتُ بمخطئٍ إن كانَ غيَّا

همُ أهلُ الــنـــصيحةِ غير شكٍّ     وأهـــلُ مودّتي ما دمتُ حيّا

هوىً أعطـــيــته لمّا استدارتْ     رحى الإسلامِ لم يعدلْ سويا

أحبّهم لـــحبِّ اللّهِ حـــــــــــتى     أجيءُ إذا بــعثتُ على هويّا

رأيـــــــتُ اللّهَ خالقَ كلَّ شيءٍ     هداهمْ واجتبـــــى منهم نبيا

ولم يخصصْ بها أحداً سواهمْ     هنيئاً ما اصطفــاهُ لهم مريا (18)

فلما وصل إلى قوله:

فإن يكُ حبّهم رشــــداً أصــبه      وفيهم أُسوةٌ إن كــــان غيّا  

قالوا له: شككت يا أبا الأسود بقولك هذا

فقال: أما سمعتم قول الله تعالى: "وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ" (19)

وكان لا يفتأ يدعو قومه إلى السراط المستقيم صراط علي وولده فيقول من رائيته التي قدمناها:

أبني (قُشــــــيرٍ) إنني أدعوكمو     للحقِّ قبلَ ضــــــلالةٍ وخسارِ

كونوا لــهم جُنناً وذودوا عنهمو     أشـــــــــــياعَ كلِّ منافقٍ جبارِ

وتقدّمـــوا في سهمِكم مِن هاشمٍ     خــيرِ البريةِ في كتابِ الباري

بهمو اهتديتمْ فاكفروا إن شئتمو     وهمو الخيارُ وهم بنو الأخيارُ

وكان أبو الأسود من كتّاب علي (عليه السلام)، وعندما اضطر (عليه السلام) إلى التحكيم همَّ أن يقدم أبا الأسود فأبى الناس عليه، ويؤيّد هذه الرواية ما رواه الشريف المرتضى: (أن أبا الأسود دخل يوماً على معاوية في النخيلة فقال له معاوية: أكنت ذُكرت للحكومة؟ قال: نعم، قال: فماذا كنت صانعاً؟ قال: كنت أجمع ألفاً من المهاجرين وأبنائهم وألفاً من الأنصار وأبنائهم ثم أقول: يا معشر من حضر، أرجلٌ من المهاجرين أحق أم رجلٌ من الطلقاء؟ فضحك معاوية ثم قال: إذن والله ما اختلف عليك اثنان). (20)

وعندما خرج عبد الله بن عباس عامل علي (عليه السلام) من البصرة استخلف أبا الأسود عليها فأقر أمير المؤمنين (عليه السلام) هذا الإستخلاف وبقي أبو الأسود والياً على البصرة حتى استشهاد أمير المؤمنين (عليه السلام) ولما بلغه خبر استشهاده قال:  

ألا يا عينُ ويـــــــحِكِ فاسعدينا     ألا فــــــابكِ أميرَ المؤمـنينا

رُزئنا خيرَ من ركبَ الـــمطايا     وخيّسها ومَن ركبَ السـفينا

ومَن لبسَ النعالَ ومَـــن حذاها     ومَن قرأ الـــمثاني والـمئينا

فكلُّ مناقبِ الخيـــــــــراتِ فيه     وحبُّ رسولِ ربِّ الــعالمينا

وكنّا قبلَ مـــــــــــــــقتلِه بخيرٍ     نرى مولى رسـول الله فـينا

يُقيمُ الدينَ لا يــــــــــرتابُ فيه     ويقضي بالفرائـضِ مُستـبينا

ويدعو للجمـــــاعةِ من عصاهُ     وينهكُ قطعَ أيدي السارقـينا

وليسَ بــــــــــــكاتمٍ علماً لديه     ولم يُــــخلقْ مِن المُتجبريـنا

ومِــــــِن بعدِ النبيِّ فخيرُ نفسٍ     أبو حسنٍ وخـيرُ الصالحيـنا

ألا أبلغ معـــــــاويةَ بن حربٍ     فلا قـــرّتْ عيونُ الشامتيـنا

أفي شهرِ الصيــــامِ فجعتمونا     بخيرِ الخــلقِ طرّاً أجـمعيـنا

قتلتمْ خيرَ من ركـــبِ المطايا     وخيَّسها ومن ركبِ الـسفيـنا

ومن لبسَ النعالَ ومـن حذاها     ومن قرأ المثــــانيَ والـمئينا

إذا استقبلتَ وجهَ أبــي حسينٍ     رأيتَ البدرَ راقَ النــاظرينا

لقد علمتْ قريشٌ حيـث كانت     بأنّكَ خيــــــرهم حسباً ودينا  

كـــــــأنّ الناسَ إذ فقدوا علياً     وحسنَ صلاتِه في الراكعينا

فلا واللهِ لا أنــــــــــسى علياً     نعامٌ جالَ فــــــــي بلدٍ سنينا

تبكِّي أُمَّ كلثوم علــــــــــــــيه     بعبرتِها وقد رأتِ الـــــيقينا

ولو إنا سُئلنا الـــــــــمالَ فيه     بذلنا المــــــــالَ فيه والبنينا (21)

وفيها يعلن تمسكه بولائه للإمام الحسن (عليه السلام)

فلا تشـمتْ معاوية بن حربٍ     فانّ بقيــــــــــةَ الخلفاءِ فينا

وأجمعنا الإمارةَ عن تراضٍ     إلى ابــــنِ نبيّنـا وإلى أخينا

وإنَّ ســــراتَنا وذوي حجانا     تواصوا أن نجيبَ إذا دُعينا

بكلِّ مـــــهنّدٍ عضبٍ وجردٍ     عــــــــليهنَّ الكماةُ مسوَّمينا

وله من قصيدة بليغة في رثاء أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول فيها:  

يا مَن بمقــــــــتلِه دهى الدهرُ     قد كان منـــــــكَ ومنهمُ أمرُ

زعــــموا قُتلتَ وعندهمْ عذرٌ     كذبوا وقــــبرُكَ ما لهم عذرُ

يا قبرَ ســـيِّدِنا المجنّ سماحةً     صــــــــــلّى عليكَ اللهُ يا قبرُ

ماضرَّ قبراً أنتَ ســـــــــاكنه     أن لا يمرَّ بأرضــــــه القطرُ

فليعدلــــــنَّ سماحَ كفِّكَ قطرَه     وليورقــــــنَّ بقربِكَ الصخرُ

وإذا رقــــــــــدتَ فأنتَ منتبهٌ     وإذا انتبهــــتَ فوجهُكَ البدرُ

وإذا غضبــتَ تصّدعتْ فَرقَاً     منكَ الجبـــــالُ وخافكَ الذعرُ

يا ســـاكنَ القبرَ السلامُ على     من حــــــــالَ دون لقائهِ القبرُ (22)  

وكان لأبي الأسود كثير من المحاججات مع إعداء أمير المؤمنين (عليه السلام)، فكان في كل محاججة يزداد إيماناً بحبه وولائه وكان أشد هؤلاء الناصبين هو زياد بن أبيه الذي قال له مرة: كيف حبك لعلي؟ قال: حبي يزداد له شدة كما يزداد بغضك له شدة، وتزداد لمعاوية حباً وإيم الله إني لأُريد بما أنا فيه الآخرة وما عند الله وإنك لتريد بما أنت فيه الدنيا وزخرفها وذلك بزائل بعد قليل) (23)

وكان يعلن حبه في وجه زياد وأمثاله:

أمفنّـــدي في حبِّ آلِ محمدٍ     حجرٌ بفيكَ فدع ملامكَ أو زدِ

من لمْ يـكن بحبالِهم متمسّكاً     فليعــترفْ بولاءِ من لم يرشدِ (24)

وقد تحدثت المراجع اللغوية والأدبية والتاريخية كثيراً عن أبي الأسود وروت من أخباره المأثورة الشيء الكثير، وقد أفصحت هذه الأخبار المتناثرة في بطون الكتب عن المزايا والسجايا التي امتاز بها أبو الأسود وما تمتع من صفات وملكات، أبرزت أهم الجوانب الذاتية في شخصيته، ولإبراز هذه الجوانب ننقل نتفة من أقوال الأعلام:

قال أبو الفرج الأصفهاني: (وكان أبو الأسود الدؤلي من وجوه التابعين وفقهائهم ومحدثيهم) (25)

وقال السيوطي: (وكان من سادات التابعين) (26)

وقال ابن البطريق الحلي: (من بعض الفضلاء الفصحاء من الطبقة الأولى من شعراء الإسلام وشيعة أمير المؤمنين (عليه السلام) (27)

وقال عنه ابن خلكان: (من أكمل الرجال رأياً وأسدّهم عقلاً، سريع الجواب) (28)

وقال اليافعي: (من أكمل الرجال رأياً وأرجحهم عقلا) (29)

وقال ابن حجر العسقلاني: (وكان ذا دين وعقل ولسان وبيان وفهم وذكاء وحزم) (30)

وقال ابن العماد: (وكان عاقلاً حازماً) (31)

وقال الجاحظ: (معدود في طبقات من الناس وهو في كلها مقدّم مأثور عنه الفضل في جميعها كان معدوداً في التابعين والفقهاء والشعراء والمحدثين والأشراف والفرسان والأمراء والدهاة والنحويين والحاضري الجواب والشيعة). (32)

ومن أشهر ما أُثِر عن أبي الأسود إنه أول من نقّط المصحف، ويروي المؤرخون أنه أُحضِر إليه ثلاثون رجلاً لمعاونته على هذه المهمة فاختار منهم عشرة ثم لم يزل يختار منهم حتى اختار رجلاً من عبد القيس، فقال: خذ المصحف وصبغاً يخالف لون المداد فإذا فتحت شفتيَّ فانقط واحدة فوق الحرف وإذا ضممتهما فاجعل النقطة إلى جانب الحرف وإذا كسرتهما فاجعل النقطة في أسفله فإن اتبعت شيئاً من هذه الحركات غُنّة فانقط نقطتين فابتدأ بالمصحف حتى أتى على آخره ثم وضع المختصر المنسوب إليه بعد ذلك. (33)

كما أُثِر عنه أنه أول من أسس العربية ونهج سبلها ووضع قياسها وأول من عمل كتاباً في النحو، وقد فعل ذلك كله بإشارة من سيده علي بن أبي طالب (عليه السلام) لأن الروايات كلها تسند إلى أبي الأسود، وأبو الأسود يسند إلى علي وقد روي عنه أنه قيل له: من أين لك هذا العلم؟ فقال: لقّنت حدوده من علي بن أبي طالب وفي حديث آخر قال: ألقى إليّ عليٌّ أصولاً احتذيتُ بها.   

وقد نقلت كثير من المصادر المهمة تفاصيل تلك الأصول التي أملاها أمير المؤمنين علي أبي الأسود، منها معجم الأدباء، وطبقات فحول الشعراء، وطبقات النحويين، وإنباه الرواة، وأمالي الزجاجي، ونزهة الألبّاء وغيرها من المصادر المعتبرة، والروايات التي نسبت النحو إلى أبي الأسود قاربت الاجماع وبعض هذه الروايات لمؤرخين كانوا قريبي العهد بعصر وضع النحو فنقلت طبقة عن أخرى. حتى اشتهر عن أبي الأسود قوله لما سئل: (مِن أين لك هذا العلم ؟ يعنون به النحوَ، فقال: أخذتُ حدودَهُ عن عليِ بن أبي طالب) (34)

أما الناقلون عنه فكانوا من أوثق الثقات كالخليل بن أحمد الفراهيدي، وأبي عمرو بن العلاء اللذَين درسا على رجال الطبقة النحوية الثانية وعلى رأسهم عيسى بن عمرو بن أبي إسحاق وقد أخذ هؤلاء الثلاثة من تلامذة أبي الأسود يحيى بن يعمر، ونصر بن عاصم، والأخفش الأكبر، وعنبسة، وميمون الأقرن وغيرهم من الذين نقلوا رواياتهم عن أبي الأسود مشافهة، ودونوا ذلك في رسائلهم وكتبهم.   

ويدلنا كتاب سيبويه الذي لا يزال يُتداول، فإنه عندما يروي عن بعضهم فإنه يصل بالسند إلى أبي الأسود وينتهي عنده، وهذا يدل على أنه كان الواضع الأول لعلم النحو وقد تعلمه من علي بن أبي طالب (عليه السلام) كما صرح هو، وإن البحث المفصّل في ذلك يحتاج إلى تفاصيل كثيرة لا يمكن سردها في مجال محدود كهذا المقال، ومن أراد أن يسبر غور هذا البحث فليراجع المصادر اللغوية والتاريخية والأدبية التي تشير إلى أن علي بن أبي طالب (عليه السلام) هو أول من وضع النحو وسنّ العربية وعلّم ذلك تلميذه أبا الأسود الدؤلي.  

شعره

يعد شعر أبي الاسود في الطبقة الأولى من الشعر العربي وبالأحرى فهو كنز ثمين من كنوز العربية الأصيلة وقد حَظي باهتمام فحول اللغة على مر العصور فقد جمعه الأصمعي، وابو عمرو، والسكري كما أولاه أبو الفتح ابن جنيّ عناية خاصة فجمعه ونسخ منه نسخة لنفسه وعلق عليها تعليقات نافعة وعنها نسخ عفيف بن أسعد نسخته التي أصبحت الأصل لعدد من النسخ الباقية اليوم.

ومن أشهر قصائد أبي الأسود الدؤلي قصيدته التي مطلعها:

لا تنهَ عن خُلُقٍ وتأتيَ مثلَه     عارٌ عليك إذا فعلتَ عظيمُ (35)

أما السمة البارزة في شعر أبي الأسود فهي مواقفه المبدئية في التزامه الحق وتمسكه بالإسلام والنبي وأهل بيته (عليهم السلام)، أما المواضيع الأخرى التي طرقها في شعره فهي: الحكمة والفخر والحماسة والشجاعة والاعتزاز بلسانه وفي تكريم العلم وتحمل الأذى والصبر عليه والصداقة والمؤاخاة وغيرها من المواضيع الإنسانية والاجتماعية الأخرى، كما تطرّق أبو الأسود إلى حادثة الطف وبكاها بكاء المفجوع. ومن شعره في رثاء الإمام الحسين (عليه السلام) من القصيدة اللامية التي قدمناها قوله:

أقــــــــــــــولُ لعاذلتي مـــرّةً     وكـــــانت على ودّنا قائمه

إذا أنتِ لم تبصري مـــا أرى     فــــبيني وأنتِ لنا صارمه

أ لستِ تريــــــن بنـــي هاشم     قـد افْنَتــــــهُمُ الفئة الظالمة

وأنتِ ترينَـــنْهــــــــم بالهدى     وبـ(الطفِّ) هامُ بني فاطمة

فلو كنتِ راسخةً فــي الكتاب     بالأحــــزابِ خابرةً عالمه

علمــــــــــــتِ بأنــهّم معشرٌ      لهمْ سبقــــــــت لعنةٌ جاثمه

سأجعلُ نفســـــــــي لهم جُنَّةً     فلا تكــثري بيْ من اللائمة

أُرجّي بذلك حوضَ الرّسول     والفوزَ والنّعمـــــــةَ الدّائمه

لتهلكَ إن هـــــــــــلكتْ برّةً     وتـخلصُ إن خلصتْ غانمه

وقال في هجائه لبني أمية وبني زياد:

أقولُ وذاكَ مِن جزعٍ ووجدٍ     أزالَ اللّهُ مــلكَ بني زيادِ

وأبعدهم بما غدروا وخانوا     كما بعدت ثمودٌ قومَّ عادُ

ولا رجــعتْ ركائبُهم إليهم     إلـــى يومِ القيامةِ والتنادِ (36)

توفي أبو الأسود ــ رحمه الله ــ بالطاعون الجارف بالبصرة (37) وله من العمر خمس وثمانون سنة وكان آخر حادث أشار إليه في شعره هو مقتل الحسين (ع) لتأثره العظيم بهذا الحادث وكان له من الأولاد اثنان: عطاء وأبو حرب وابنتان, وقد ألف عنه عدد كبير من علماء اللغة والسير كالأصمعي وأبي عمرو والسكري وجمع أخباره المدائني في كتاب أسماه (كتاب أبي الأسود الدؤلي) كما ألف عنه ــ أيضاً ــ عبد العزيز بن يحيى الجلودي، وأبو عبيدة، والهيثم بن عدي، ومحمد بن سلام، وجمع ديوانه وأولاه عناية خاصة أبو الفتح ابن جنيّ.  

..............................................................

1 ــ ديوان أبي الأسود الدؤلي صنعة أبي سعيد الحسن السكري تحقيق الشيخ محمد حسن آل ياسين دار الهلال 1998 / أدب الطف ج 1 ص 102

2 ــ ديوان أبي الأسود الدؤلي ص 156 / أدب الطف ج 1 ص 102

3ــ الإصابة لابن حجر العسقلاني ج 1 ص 15 / أسد الغابة لابن الأثير ج 3 ص 69 / تهذيب التهذيب للعسقلاني ج 12 ص 13 / أخبار النحويين البصريين للسيرافي ص 14 / لسان العرب لابن منظور ج 11 ص 234

4 ــ مقدمة ديوان أبي الأسود الدؤلي بغداد 1954 بتحقيق الدجيلي ص 3

5 ــ تهذيب التهذيب للعسقلاني ج 12 ص 14 / غاية النهاية للجزري الدمشقي ج 1 ص 346 / تاريخ الإسلام للذهبي ج 5 ص 276

6 ــ شذرات الذهب للعماد الحنبلي ج 1 ص 114 / وفيات الأعيان لابن خلكان ج 1 ص 539

7 ــ مرآة الجنان لليافعي ج 1 ص 143 / معجم الأدباء للحموي ج 12 ص 34

8 ــ مقدمة ديوان أبي الأسود ص 12

9 ــ رجال الطوسي ص 46 ، 69 ، 75 ، 95

10 ــ روضات الجنات ج 4 ص 164

11 ــ أنباه الرواة للقفطي ج 1 ص 50

12 ــ تاريخ دمشق لابن عساكر ج 25 ص 196

13 ــ شرح نهج البلاغة لابن أبلي الحديد ج 9 ص 311

14 ــ تاريخ الطبري ج 4 ص 56

15 ــ تاريخ الإسلام للذهبي ج 5 ص 276 / سير أعلام النبلاء ج 3 ص 425 / الوافي بالوفيات للصفدي ج 16 ص 305

16 ــ الكامل ج 3 ص 205 

17 ــ شرح نهج البلاغة ج ١٣ ص ٢٣٢

18 ــ ديوانه بتحقيق الشيخ الشيخ محمد حسن آل ياسين ص 293

19 ــ أمالي المرتضى ج 1 ص 213

20 ــ نفس المصدر والصفحة

21 ــ أدب الطف ج 1 ص 105

22 ــ أعيان الشيعة ج ٧ ص 403 ــ ٤٠٤

23 ــ الجاحظ، البيان والتبيين للجاحظ ج 1 ص 203 / شذرات الذهب لابن العماد ج 1 ص 59

24 ــ قاموس الرجال للتستري ج 5 ص 172

25 ــ الأغاني ج 11 ص 198

26 ــ بغية الوعاة ج 4 ص 22

27 ــ روضات الجنّات للخونساري ج 4 ص 163 عن كتاب عمدة عيون صحاح الآثار لابن البطريق

28 ــ وفيات الأعيان ج 1 ص 535

29 ــ مرآة الجنان ج 1 ص 203

30 ــ تهذيب التهذيب ج 12 ص 13

31 ــ شذرات الذهب ج 1 ص 144

32 ــ البيان والتبيين ج 1 ص 217

33 ــ الإتقان في علوم القرآن للسيوطي ج 2 ص 171 / بغية الوعاة للسيوطيّ ج 2 ص 22 / معجم الأدباء للحموي ج 5 ص 134 / المحرَر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية ج 1 ص 50 / أخبار النحويين البصريين للسيرافي ص 16 ـ 17 / الأغاني لأبي الفرج ج 12 ص 216

34 ــ الأغاني ج 122 ص 216

35 ــ ديوانه تحقيق الشيخ محمد حسن آل ياسين ص 404 ــ 405 وتبلغ (30) بيتاً

36 ــ تاريخ ابن عساكر ج 7 ص216 / أدب الطف ج 1 ص 103

37 ــ معجم الأدباء للحموي ج 12 ص 34

كاتب : محمد طاهر الصفار