جُسدت احداث يوم الولاية وعيد الغدير عبر العصور المختلفة والاجيال المتعاقبة وبأساليب شتى، فمنهم من اتخذ من القوافي والكلمات سبيلا لتمثيل هذا الحدث لمن ونقله لمن بعده، في حين ذهب اخرون الى تدوين ونشره عبر الرقاع والكتب لتنال نصيبها مع مهمات الوثائق والكتب التاريخية، في حين عمد البعض لإيجاد أسلوب النقل الروحي الصادق لأحداثها وروايتها بمفردات فنية مسرحية كانت او تشكيلية تحسبا منهم لردود أفعال بعض الافراد واعوانهم الذي لطالما ظل بعض التاريخ متأثرا بخصائصهم الفردية ونزعاتهم المناهضة لهذا الحدث العظيم، ليقف التأريخ صامدا طائعا لمبادئ الحقيقة التي لا تقبل التحريف والتي تنبثق من الايمان بالله والتلاصق الروحي بالأحداث الدينية الاسلامية المهمة، واللوحة الشاخصة امامكم هي احدى تلك الوثائق التي لخصت غدير خم واحداث ذلك اليوم المهم في حياة المسلمين كافة .
يعد عيد الغدير يوم عظيم بما أظهر الله تعالى من حجته، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه واله نسكه واتم حجة الوداع عائدا الى المدينة ، حط رحال قافلته في غدير خم و أمر بتنصيب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام خليفة في الأمة من بعده ، وكان قد تقدم الوحي اليه بقوله البارئ جل وعلا " يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ " ، فنزل صلى الله عليه وآله ومن معه في الموضع المنشود في اليوم الثامن عشر من شهر ذي الحجة الحرام من السنة العاشرة للهجرة ، ليجمع الناس ويخطب بهم لينعى لهم نفسه اولا و يقررهم على فرض طاعته حسب ما نزل به القرآن ، ويعقد صلى الله عليه وآله لمولانا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب علي السلام العهدَ بالإمامة في رقاب الاُمة كافة ليقول ارواحنا له الفداء ( يا أيها الناس من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، وانصر من نصره واخذل من خذله وأحب من أحبه وأبغض من أبغضه ) ، فنزل رسول الله من موقعه ممسكا بيد علي عليهما السلام وأمر المسلمين بالتسليم عليه بإمرة المؤمنين تهنئةً له بهذا المقام العظيم فالإمامة وكما هو معروف لدينا تالية للنبوة من حيث كونها وظيفة إلهية ومنصب رباني خص الله بها عليا وذريته عليهم السلام دون غيرهم من الخلق .
اللوحة من انجاز الفنان الايراني الاستاذ رضا بدر السماء، وهو كما يتضح من اغلب اعماله الفنية مولع بأسلوب فن المنمنمات القديمة في الرسم، فهو كغيره من مبدعي الرسوم المصغرة اكدوا بمواضيعهم التي تعتبر كنوع من التعبيرية في الرسم على المواضيع التاريخية والأدبية والعلمية والتي يعود الفضل فيها الى عكس صورة المجتمع الإسلامي وثقافته، بما يوحي بالكثير من القراءات ومن ضمنها الأحداث الدينية وطرز العمارة والخط والزخرفة وغيرها من المعالجات الفنية السائدة ، وقد دأب بدر السماء الى تصوير وتزويق المواضع والمناسبات الدينية بأسلوب والوان مميزة مستثمرا ما وصل اليه من موروث في هذا الفن ، مازجا اياه مع خبراته ودربته الفنية المتأثرة بالأساليب الفنية الحديثة ومنها الكلاسيكية في الفن ، لينتج فنا تطوريا من المنمنمات الاسلامية تحمل هيئة التسامح الديني ، بما يسمح لحالة التجسيد والتشبيه " تجسيد اجسام واشكال المقدس " التي أظهرها فنانوا المينياتور اليوم بجرأة في رسومهم واستخدمها من قبلهم " رواد المنمنمات " كأداة مساعدة ووسيلة إيضاح لفهم النصوص في الكتب ، كما هي السير والمقامات كمقامات الحريري وبعض الكتب الطبية والشعرية .
وقد بادر الفنان في هذه اللوحة و كما هو متبع في فن المنمنمات الى ترجمة دقيقة لأحداث يوم الغدير وتنصيب علي بن ابي طالب عليه السلام اميرا للمؤمنين، وكان ذلك من خلال دقته المتناهية في رسم عناصر اللوحة وبالخصوص رسمه لليد المباركة للرسول الاكرم صلى الله عليه واله وهو ممسك بيد اخيه وابن عمه الامام علي عليه السلام، وهي تتوسط اطار مزخرف من الآيات القرآنية التي نزلت على النبي صلى الله عليه واله المكتوبة بالخط العربي، فضلا عن ، اسلوبه المميز في استخدام الالوان التي نميزها من انسيابيتها وتمازجها فيما بينها بتدرجات مختلفة ومتناسقة في نفس الوقت، فقد استخدم مجموعة من الالوان الحارة والباردة مؤكدا على اللون الاخضر وتدرجاته كسمة للمقدس، مع الاخذ بنظر الاعتبار ان بدر السماء عمد على استخدام ثلاث طرق يمكن الرجوع إليها في تنفيذ اللوحة، ومنها اسلوب مدرسة أصفهان الصفوية للرسم ، ومدرسة قاجار للرسم ، اضافة الى أسلوب الرسم المعاصر، كما اضيف الخط العربي لهذا العمل ليكون مكملاً لعناصر اللوحة الجمالية، مما جعل اللوحة تنطق بما فيها ليستحضر قارئها المتأمل مدى اهمية يوم عيد الله الاكبر وما كان فيه من احداث واوامر الهية بدأ من نزول الوحي على رسولنا الاكرم صلى الله عليه واله حتى مباركة المسلمين لعلي بهذا المقام العظيم، وكيف لا يكون ذلك وهو عيد الاعياد ويوم العهد المعهود والميثاق المأخوذ والجمع المشهود.. الذي شيد الله به دين الاسلام وأظهر به مناره القويم الذي سطعت به أنوار القيم والتعاليم السامية التي يحملها.. وكيف لا.. وهو يوم اتمام نعمة الاسلام بولاية أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام وتتويجه بتاج الخلافة العظمى والإمامة الكبرى .
نسأل الله لنا ولكم الثبات على ولاية امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام بحق محمد وآله الطيبين.
اترك تعليق