فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ

الحَمْدُ لِلَّه وإِنْ أَتَى الدَّهْرُ بِالخَطْبِ الفَادِحِ والحَدَثِ الجَلِيلِ - وأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَه إِلَّا اللَّه لَا شَرِيكَ لَه لَيْسَ مَعَه إِلَه غَيْرُه - وأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُه ورَسُولُه (صلى الله عليه وآله).

أما بعد: فلا تخلو الأرض من حجَّة، وقد أكَّد ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله) كثيرًا ومنه : (( إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله عزَّ وجل ، حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي وإن اللطيف أخبرني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض ، فانظروني بم تخلفوني فيهما )) وأحداث الغدير تعدُّ نقطةَ مفصل تاريخي تؤكد التصريحات السابقة في إمامة علي (عليه السلام) والأئمة من ولده(عليهم السلام )، وتؤسس لاستلام الإمام (عليه السلام) مهام الخلافة، 

والإمام في اللغة من قولهم: (أمم)، ومنه ((أَمَّ القومَ وأَمَّ بِهِمْ: تقدَّمهم، وَهِيَ الإِمامةُ. والإِمامُ: كُلُّ مَنِ ائتَمَّ بِهِ قومٌ كَانُوا عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ أَو كَانُوا ضالِّين... وسيدُنا رسولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، إِمامُ أُمَّتِه، وَعَلَيْهِمْ جَمِيعًا الائتمامُ بسُنَّته الَّتِي مَضى عَلَيْهَا)).

وخير من تَمثَل سُنته (صلى الله عليه وآله وسلم) هم وَرثته من أهل بيته (عليهم السلام) الذين عاشوا مصداقًا لتجليات النبوة، ومعدن الرسالة، فهم أئمة يهدون بالحق وبه يعدلون، ومن ثم كان جديرًا بالأنام أن يقتدوا بهم، ويقدموهم، ولا يتقدموهم؛ لأنّ الإمام هو من يقصده الناس في التوجه والعمل، أي الالتزام بأوامرهم والكفّ عن نواهيهم، وما يدور في هذا المطاف ما جاء من قول الإمام الحسين (عليه السلام) عندما وفد إليه نفر من المسلمين يستفهمون عن مقام حبِّهم أهل البيت (عليهم السلام)، فأجابهم:

((مَنْ أَحَبَّنَا لَمْ يُحِبَّنَا لِقَرَابَةٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ وَلَا لِمَعْرُوفٍ أَسْدَيْنَاهُ إِلَيهِ، إِنَّمَاْ أَحَبَّنَا للهِ وَرَسُوْلِهِ، جَاءَ مَعَنَا يَومَ القِيَامَةِ كَهَاْتَينِ))

وقرن بين سبَّابتيه ، فالحُبّ المندوب المبتغى عند أهل البيت (عليهم السلام) هو الذي يحتل مكانةً إلهيةً ونبويةً عظيمةً بعد أن قيّده بأداة الحصر (إِنَّمَا) التي جعلته مشروطًا (للهِ وَرَسُوْلِهِ) وسببًا في نيل الجزاء المكتوب، ومن ثَمَّ أصبح غرضًا رئيسًا للكلام، لذا نلحظ الإمام(عليه السلام) قد أقام علاقة القرب بين مَنْ يتحقّق فيه هذا الحبّ وبين مقامهم (عليهم السلام) عن طريق كاف التشبيه والإشارة المقاميَّة إلى سبَّابتيه المباركتين (كَهَاْتَينِ)، وهذه المنزلة العظيمة لمحبي أهل البيت (عليهم السلام) لا تتحقق بمجرد الحبِّ الذي تحركه العاطفة، أو الحب الذي تحركه المنفعة، وإنّما الحب المتمثل باتخاذهم (عليهم السلام) قدوة في أفعالهم وأقوالهم، وتأدية طقوس الطاعة والولاء لهم، وبذلك يضمر قول لعله يكشف شيئًا من قصد الإمام(عليه السلام )، وهو : ينبغي أن نتخذهم منارًا نقتدي بهم في أقوالنا وأفعالنا ونسير بسيرتهم ونتبع خُطاهم، فإنَّ ثمرة هذا الاقتفاء هو الفوز بالجنَّة، أمَّا إذا كان حبًّا تحرِّكه القرابة، أو حبًّا يقوم على المنفعة المادية فلا وزن له يومئذٍ، ويمكن استنتاج قراءة مضمرة أخرى في قول الإمام (عليه السلام) تبينها متلازمة (لله ورسوله) فشرط مجيء المسلم معهم يوم القيامة بأن يكون حبُّه مشروطًا لله ورسوله، وبذلك يفقد هذه المكانة إذا أغضب الله و رسوله، وتفتح لنا هذه القراءة بابًا آخرًا وهو: أنّ الذي يُرضي الله – سبحانه - يُرضي الرسول (صلى الله عليه وآله) والعكس صحيح. 

ويكشف الكلام عن مضمر غاية في الأهمية لما يهدف إلى تكريم المسلم الملتزم بهذه القيود، يمكن أن نفهمه من قول الإمام (عليه السلام ): (جَاءَ مَعَنَا يَومَ القِيَامَةِ كَهَاْتَينِ) فقال (عليه السلام): يوم القيامة ولم يقل إلى الجنّة، ولو قال: (إلى الجنّة ) لكان القول المضمر أنَّ المحبَّ لهم يمرُّ بأهوال يوم القيامة وحده ويعيشها بمفرده، تلك التي وصفها القران بقوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ)) وبذلك يكشف تعبير الإمام (عليه السلام)عن عظيم التكريم للمؤمن، فهم (عليهم السلام) معه في كلِّ مشاهد القيامة وأهوالها يهدِّئون من روعه، ويسدِّدون خطواته، بدلالة الإشارة الخارجية (كهاتين) التي تدل على القرب المكاني أو المساواة بحسب العرف الاستعمالي السائد لهذه الاشارة، وفي ذلك غاية التطمين لمحبيهم (عليهم السلام) على وفق القيد المذكور.

ولو تأملنا في أصل القيد الذي ذكره الإمام (عليه السلام ) لمحبتهم، نجده يحمل قولًا مضمرًا أيضا وهو: أنَّ أهل البيت (عليهم السلام) ليسوا حكرًا لقرابة، ولا لمن يسدون له معروفًا ويحبهم عليه، بل أنَّهم مشروع نجاة من أهوال القيامة، والفوز بالجنان الواسعة، لعامة البشر، وهذه قراءة مضمرة تعد نتيجة هذه المحبة؛ لأن نهاية المجيء يكون إلى الجنّة، وإذا تبين ذلك فالمتكلم – الإمام الحسين (عليه السلام )- هو امتداد لأهل البيت (عليهم السلام ) فيكشف خطابه عن بُنيةٍ إضمارية تدعو إلى محبَّة الإمام (عليه السلام ) الخالصة لوجه الله ورسوله؛ لأنَّها – المحبة- دليل على الطاعة، وأنَّ الطاعة دليل على رضا الله ورسوله، فنحصل على نتيجة نهائية: أنَّ الإمام الحسين( عليه السلام ) حبل الله الممدود إلى الأرض.

فاتباع نهجهم (عليهم السلام) والتحلي بسيرتهم يُنجي من النَّار، مثل قوم نوح فمن ركب معه السفينة نجا من الهلكة ومن تخلف عنه هلك.

جعلنا الله من السائرين بنهج محمد وآل بيته الأطهار(عليهم السلام)، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين.

: م. م عماد طالب موسى