مصنع الجمال..

قد يتصور البعض ان الفن الإسلامي هو فن مقيّد بأغراض التعبير القـرآني وطرائق التعبير عنه.. وهذا الامر ليس بالضرورة، فالفنان المسلم له أن يختار من الموضوعات والأغراض والطرائق الفنية ما يشاء شريطة عدم الاصطدام بما يعترض المفاهيم الإسلامية عن الكون والحياة والإنسان فالمسألة هنا، ليست مسألة دين ولا مسألة عقيدة بمعناها التقليدي، انما هي مسألة التصور الإسلامي المتوافق مع فطرة الكون كله والوجود، والذي تنطق به الفطرة البشرية ذاتها حين تهتدي إلى الناموس الإلهي، الذي يصح أن يقال فيه إن مقاييس الجمال فيه هي مقاييس كونية تستند إلى التناسق الملحوظ في الكون الكبير، وأي تصور آخر يصطدم به أو يعارضه هو تصور يبتعد عن الناموس الأكبر الذي يشمل الوجود.

 ولعل خير وسيلة تقربنا من هذه المفاهيم ومن الفن الاسلامي، هي الوقوف على بعض من مسلماته، والتي من خلالها نتمكن من تكوين صورة واضحة ودقيقة لهذا الفن بعيداً عن التزييف واللبس، ونستطيع اجمال أهم هذه المسلمات او الخصائص ببعض النقاط ، ومنها:

1. يقوم هذا الفن على أساس عقيدة التوحيد ، وعلى تصور كامل للخلق والكون والحياة.

2. ميدان الفن الاسلامي لا يمثل الضروريات ولا الحاجات بل هو مجال للتحسينات أو ما يطلق على اسم التزيين او الكماليات.

3. ان وظيفة الفن هي صنع الجمال وحين يبتعد الفن عن أداء هذه الوظيفة ، فان حيئذ لا يسمى فنا كونه قد تخلى عن عمله الاصيل وقد ويكون تحت مسمى المهارات لا غير. ،فالفن الاسلامي موكل بالجمال.. يتتبعه في كل شيء وكل معنى في هذا الوجود.

    ان الغاية التي يهدف اليها الفن الاسلامي ويسعى الفنان لتحقيقها، هي ايصال الجمال الى المشاهد المتلقي ومداعبة وجدانه، وهي ارتقاء نحو الاسمى والاعلى والاحسن .. اي نحو الاجمل ، فهي الاتجاه نحو السمو في المشاعر والتطبيق والانتاج ، ورفض للهبوط،     كما أن للفن الاسلامي هدفا يسعى اليه ، فان له ايضا باعثا يدفع به، هذا الباعث عادة ما يغذيه جذرين، جذر يمتد في اعماق النفس البشرية واخر يغذيه المنهج الاسلامي الذي يهدف الى الجمال .. وهكذا يلتقي ما تصبو اليه النفس مع ما طلبه المنهج.. فيكون الانسان مدفوع الى تحقيق الجمال بفنه بباعث من رغبه النفس وباعث من امر الشرع بإتقان العمل واحسانه.

ومن جانب اخر فقد استوعب الفن الاسلامي جميع فنون العالم وذلك بلحاظ انفتاح الإسلام على البشرية وثقافاتها، ، فتوزعت الفنون الاسلامية على شكل عناوين وطرز فنية مختلفة وهي موزعة على المدنيات والحضارات والأقوام والشعوب، وتوالدت منها انواعا متعددة للفنون الاسلامية، فالإسلام قد أعطى الحرية لكل إقليم وقوم في أن يغلبوا على فنونهم وعمائرهم بعض رغباتهم التي تتناسب مع مناخهم الطبيعي وإرثهم الحضاري، فأًصبح مجموع هذه الطرز الفنية هوية اسلامية لا غبار عليها وبالخصوص في مجال العمارة الاسلامية، فالفن المعماري كان وما زال واحدا من وسائل التعريف بالإسلام للعالمين الشرقي والغربي، اذ ان الإسلام غزا بفنونه الغرب قبل أن يغزوها بالعقيدة، وذلك لأنها تمتلك مقومات فن الإبداع والجمال من خلال الذوق الذي اسس له المعماريين والفنيين الإٍسلاميين طوال تاريخهم.

و في واقع الحال فان أي بناء يأخذ قيمته من هندسته، والمنشأة الفاخرة في عمارتها هي التي يلاحظ فيها المصمم أو الفنان المعماري الفكرة والغرض وخصوصيات الأرض وخصوصيات الطقس والجمالية والكلفة والآلية وخصوصيات المواد الداخلة في البناء، ولاشك ان انفتاحية الإسلام ساعد المهندسين على التجديد في العمارة الاسلامية، ولهذا اخذ المعماريون بالمضي قدما في استخدام مخيلاتهم للإبداع في الهندسة والطراز بما يناسب استخداماتها، وساعدها على ذلك عطاء الحكام الذين أخذوا يتباهون فيما بينهم بالمنشآت الاسلامية، فكان لهذا التنافس دور كبير في هذا التطور السريع والبروز البديع.

   ويمكن ملاحظة تأثير الطبيعة والتربة والمناخ في الهندسة المعمارية من خلال اختلاف المآذن والمحاريب والأبواب والمشربيات والفضاءات والارتفاعات المباني والاعمدة الحاملة لسقوفها، كما يمكن ملاحظة تباين استخدامات النقوش والزخارف من بناء الى آخر، فالنقوش النباتية استخدمت في المساجد واستخدمت اللوحات الفنية في جدران وسقوف القصور، ولهذا يصح القول ان الفن الاسلامي ذا طابع متميز يتصف بوحدة الروح الاسلامية الكامنة وراء التكوينات المعمارية والتشكيلات الزخرفية التي أصبحت تقليدا معماريا جمالياً مميزاً، ولا ننسى ما لاستخدام الألوان بشكل منسق من جماليات اخاذة في الفن الاسلامي وبالخصوص في فن العمارة كون الالوان تعد عناصر أساسية في تلقين المشاهد ومحاكاة احاسيسه بتقريب فكرة ما أو أبعادها حسب اللون المستخدم على أرضية أخرى، باعتبار ان اللون احد عناصر جمالية النقوش المزينة لسقوف وجدران ومداخل المباني الاسلامية الى جانب ضلعي الوحدات الزخرفية والتراكيب الفنية الاخرى، و فالنقوش والزخارف لا تقتصر على المجال المادي بل تتعداه الى ما وراء المادة، فهي تشمل المعنويات فان الزخرفة الكلامية تكفلها علم البلاغة والأدب والذي في الواقع يخضع للمعايير المادية نفسها، ويمكن تطبيقها في كل المجالات الاخرى.

ونجد مما تقدم ان استعمال تلك الفنون لا يقتصر على تحقيق القيم الجمالية أو لإبراز اللون وتأثيره الحسي والنفسي فحسب، بل تعدى ذلك للوصول الى أداء وظيفي هام من اجل عمارة إنسانية ومن هنا ينشأ التوافق بين الشكل والمضمون في روعة فنون العمارة و الزخارف المزينة لها فهي قاعدة الحقيقة الخفية التي يقصد بها الفنان المصمم او المعماري، بأن توحي للإنسان حين تعرضه لها بتكوين مسرحاً ينقله من الواقع ليرقى بالنفس في عالم من التفكر والروحانية، المعززة بالكتابات بمضامينها من آيات الذكر الحكيم واقوال نبي الرحمة صلوات الله عليه واله وحكم العظماء، فإنها تعبير رائع يجسد قيمة الكلمة وقيادة فكر المؤمن ليتماهى ويتعلق بالخالق المبدع جل وعلا.

كاتب : سامر قحطان القيسي