الذائقة الجمالية بين ادراك الفرد وموضوعية الاشكال ..

تشكل مجموعة الممارسات الفنية للإنسان وبدءاً من محاكاته للمظاهر المكانية والظواهر الكونية إلى نقل الأشياء من حيزها المتداخل المتغير المضطرب إلى شكلها الفني التعبيري والرمزي الدال، أساساً مهماً في تذوق الجمال ونقده، وذلك ينطبق على أكثر المفاهيم والظواهر التي تشكل عاملاً مشتركاً بين الإنسان وبيئته ، وذلك على النحو الذي يجعل دور البيئة في الفن مؤشراً على تفاعل البيئات الفيزيائية والاجتماعية، بما يمكن أن نعده الانتخاب الثقافي الذي يماثل إلى حدٍ ما الانتخاب الطبيعي في العالم العضوي .

ويتضمن هذا الرأي تسليماً بأن الثقافة والفنون وما في حكمهما من تذوق ونقد الفنون وليدة تفاعل الإنسان والبيئة معاً، وأنها تتكيف وفقاً للظروف الاجتماعية لكل جيل أو لكل حقبة زمنية، ويؤكد منظر الدراسات الجمالية الاجتماعية هيبوليت تين هذه الحقيقة بمقولته الشهيرة التي تنص على انه لكي نفهم أثراً فنياً أو فناناً أو مجموعة فنانين ، يجب أن نتمثل بكل دقة الحالة العامة لروح العصر وتقاليده وعاداته، فالفنون تظهر وتختفي في الوقت نفسه مع بعض حالات روح العصر والتقاليد التي تعود هذه الفنون إليها .

وهنا تبرز حالة مهمة تكشف جانباً من ضرورة الإشارة إلى طبيعة العامل الاجتماعي للفرد ، من الناحية المكانية الجغرافية من دون أن يجد من يشاركه من أفراد أو جماعات يكون لهم تأثيراتهم والتي يستجيب لها الفنان ، وقد لا تخرج عن إطار التفاعل الاجتماعي ونظم عاداته وتقاليده وتفاعله معها .

وحيال هذه التفاعلية بين الانسان ووسطه الاجتماعي يكون هناك جملة من المخرجات التي تعد انعكاساً لذلك ، ممثلة بالنقد الفني والنتاجات الفنية التشكيلية والموسيقية والأدبية وما إلى ذلك ، حيث أن لهذه التفاعلية إسهاماتها في بلورة أغلب نتاج سلوك الفرد، فالأسرة الاجتماعية في واقع الحال تعد المؤسسة الأولى التي تسهم في تشكيل شخصية الفنان ونموه النفسي والاجتماعي والعقلي، فهي البيئة الاجتماعية والثقافية له ، وبيئة تفرض خبرات تكون لها دلالاتها الخاصة وآثارها النوعية عند كل فنان على نحو يختلف عما يكون عند الآخرين .

ليبدأ بعدها دور المدرسة الذي يمثل نقلة نوعية مهمة في حياة الفرد الشخصية والاجتماعية ، فالبيئة المدرسية تختلف اختلافاً جذرياً عن الأجواء الأسرية وأجواء الجوار التي يتفاعل معها معظم الأطفال قبل دخولهم المدرسة ، فيتوسع اتصاله ليشمل أفراد أسرته ، ثم بيئته ومجتمعه ، فيكتسب الطفل خلال هذه السنوات الكثير من الخبرات والمهارات فيكيف نفسه لبيئته الجديدة ، إلاّ أن ثمة اتجاهاً طبيعياً يفرض تدريجياً على الأنسان بضرورة مواجهة العالم الخارجي ، أي في ضوء الحاجة التي يمرون بخبرتها والمتعلقة بتحويل عالمه المدرك حسياً إلى عالم موضوعي ، يتسنى له قياسه وتقديره والتعامل معه.

ان للنقد الفني معايير صحيحة للاستمتاع بقيم الأشياء التي تمر تحت بصر المشاهد، قد تمكنه من أن يستجيب لها استجابة المستمع الذي نال حظه من التدريب الفني، وليتسنى للمتتبع لموضوع النقد والذائقة الجمالية الاطلاع على حيثياته والتفاعل معه والتعبير عنه من خلال النتاجات الفنية، لا بدَّ من التعرف والاطلاع على المرجعيات التاريخية والفكرية لهذا الموضوع وما يعكسه الفرد من احساساته وانطباعاته ومدركاته إزاء عوالمه الذاتية والموضوعية ، فكل نتاج جمالي لا ينفصل عن هذين العالمين ودرجة تفاعلهما إحساساً وإدراكاً ورؤية وأسلوباً ، وبرغم ما للنقد الفني من مواصفات فيزيقية حسية إلاّ أنها لا تأخذ تأثيراتها التعبيرية الجمالية إلاّ من خلال فعل ذات الفرد الخلاقة وقدراته الادراكية الحسية ممثلة بالفنان وعالمه الخارجي، فالأفراد الذين يعيشون في بيئة ثقافية معينة تُتاح لهم الفرصة لمعرفة واسعة بعالمهم ، إذ يبدأ الفنان منذ ولادته الإحساس بالأشياء أو التعامل معها ، وتبدأ الأشياء باكتساب خصائص وصفات تميزها عن سواها بما تمتلكه من أشكال وأحجام تتنوع في كثافتها وملامسها وتبايناتها اللونية ، فالأنهار والجبال وسطح الأرض وتضاريسها ومناخها أنما يؤثر في نوع الرؤية الفنية وإدراك الأشكال والأحجام الموجودة في هذه البيئة ، كما يوجد أيضاً المكان المشيد ممثلاً بكل ما أنتجه الإنسان من نماذج وأشكال كالمنازل والمصانع والطرقات والمركبات وغيرها ، وهذا يجعلهم قادرين على أن يدركوا ما في محيطهم ويحافظوا عليه والعمل على تنميته عن وعي وإدراك بأن ما يناسب بيئة بذاتها قد لا يصلح أو لا يفيد بيئة أخرى .ومن ذلك نستطيع القول ان للبيئة العراقية لها خصوصيتها وهذا ينعكس بصورة مباشرة على تذوق ونقد العمل الفني .

فخيال الأفراد وتصوراتهم ومداركهم الحسية لا يمكن أن تكون إلا صدى لبيئة الفرد ووسطه الاجتماعي ومرجعياته الفكرية والتاريخية ، ولا يمكن أن تصدر هذه العمليات النفسية عن فردية خالصة مجردة عن واقعها الاجتماعي، فخيال المثقف العراقي مثلا يختلف عن خيال المثقف الغربي ، فالمتأمل في النتاجات الفنية من رسم او نحت يلمس الفارق بين مخيلات هؤلاء الفنانين وتصوراتهم وتشعباتهم ، ويخرج بحقيقة مفادها أن هناك أثراً واضحاً لطبيعة المجتمعات التي عاشوا فيه .

وبالنظر لاختلاف مستويات النقد والتذوق الفني، يمكن القول ان لكل مجتمع أسلوبه وخصائصه وطبيعة تكيفه مع العمل الفني، إذ يصبح للمجتمع إطاره الجغرافي الذي يميزه في طرز البناء وأنماط التفكير ودرجة الإحساس بالعمل الفني وطريقة تنظيمه وتذوقه ونقده.

كما ان الجانب الذاتي هو الذي يمثل إدراك الفرد ، ومشاعره واحساساته وانفعالاته ، والجانب الموضوعي الذي يمثل الطبيعة بما فيها من كائنات مختلفة ، فعلى درجة الصلة بين الجانب الذاتي والموضوعي تتوقف النسبة التي تسجل بها الطبيعة في الأعمال الفنية ، فكلما تغلبت الذات والانفعالات اتجهنا تدريجياً من الناحية الطبيعية الموضوعية إلى الناحية الرمزية التجريدية ، وكلما أكد الموضوع وابتعد التعبير عن الناحية الذاتية كلما برزت مدلولات الطبيعة بمعناها الوصفي واقتربت من الواقعية.  

كاتب : سامر قحطان القيسي