منَ الثّابتِ تاريخيّاً أنَّ حليمةَ السّعديّةَ أرضعَت الرّسولَ الأكرمَ (صلّى اللهُ عليهِ وآله) والرّواياتُ في هذا الشّأنِ كثيرةٌ ومُتضافرةٌ، وقد تكونُ هناكَ إختلافاتٌ بينَ الرّواياتِ في بعضِ تفاصيلِها، إلّا أنّها مُتّفقةٌ جميعُها على أصلِ وقوعِ الرّضاع، ومَن شكّكَ في هذا الأمرِ لم يرتكِز في تشكيكِه على رواياتٍ تاريخيّةٍ نافيةٍ لهذا الحدثِ، وإنّما تمَّ النّفيُ إعتماداً على كونِ النّبيّ لا يمكنُ أن ترضعُه كافرة.
ومنَ الواضحِ أنَّ نفيَ الأحداثِ التّاريخيّةِ وما جاءَ فيها مِن مرويّاتٍ لا يصحُّ بمُجرّدِ وجودِ شبهةٍ مُترتّبةٍ على هذهِ المرويّاتِ، وإنّما الخيارُ الموضوعيُّ في هذهِ الحالةِ هوَ البحثُ عَن إيجادِ حلولٍ للشّبهةِ بعيداً عَن نفي أصلِ الحادثةِ، وفي حالِ عدمِ توفّرِ الحلِّ المُناسبِ للشّبهةِ تبقى الشّبهةُ وتبقى الأخبارُ قائمةً ولا ينفي أحدُهما الآخرَ. وبالفعلِ عملَ البعضُ على إيجادِ توجيهاتٍ قائمةٍ على عدمِ التّسليمِ بكونِها كافرةً باللهِ تعالى، أو عدمِ التّسليمِ بتأثيرِها على النّبيّ.
فقالوا: مَن يقولُ إنَّ حليمةَ كانَت كافرةً؟ والإفتراضُ أنَّ كلَّ أهلِ الجاهليّةِ كانوا مُنكرينَ للهِ تعالى غيرُ صحيحٍ لوجودِ مَن كانَ على الحنفيّةِ ودينِ إبراهيمَ عليه السّلام، فما المانعُ أن تكونَ حليمةُ مِن بينِهم وبخاصّةٍ لم يذكُر لنا التّاريخُ أنّها كانَت عابدةً للأصنام، فقَد نقلَ إبنُ شهرِآشوبَ في مناقبِه أنَّ عبدَ المُطّلبِ هوَ الذي أرسلَ خلفَ حليمةَ السّعديّةِ فجاءَت إلى مكّةَ مِن أجلِ إرضاعِ النّبيّ، فلا يُعقلُ أن يُكلّفَها بذلكَ وهوَ يعلمُ موقعَ حفيدِه وما سيكونُ عليهِ أمرُه وشأنُه، وعبدُ المُطّلبِ نفسُه لم يعبُد صنماً ولم يُشرِك باللهِ فمنَ الطّبيعيّ أن يبحثَ عَن مُرضعةٍ خاصّةٍ ليسَت كبقيّةِ النّساء.
والتّوجيهُ الآخرُ هوَ قولُهم حتّى لو تنزّلنا وسلّمنا بكونِها كانَت كافرةً لا يمكنُ أن نُسلّمَ بتأثيرِها على النّبيّ (صلّى اللهُ عليهِ وآله) وذلكَ لكونِ التّأثيرِ لا يتحقّقُ إلّا بقوّةِ المُؤثّرِ وضعفِ المُتأثّرِ، وفي حالةِ العلاقةِ بينَ حليمة وبينَ النّبي فإنَّ تأثيرَ النّبيّ هوَ الأقوى وليسَ العكسُ، وقَد ثبتَ ذلكَ فعلاً ففي اللّحظةِ التي أخذَت فيها حليمةُ النّبيَّ بيدِها أثّرَ ذلكَ في بدنِها بالكامل، فتحسّنَت صحّتُها وقويَ بدنُها وكثُرَ لبنُها فالثّديُ الذي كانَ لا يُغذّي طفلاً واحداً أصبحَ يُشبعُ طفلين، ولم يتوقَّف التّأثيرُ عليها وحدَها وإنّما شملَ كلّ ما هوَ مرتبطٌ بها فكثُرَ عندَها الخيرُ ببركةِ النّبيّ الأكرمِ (صلّى اللهُ عليهِ وآله)، وعليهِ حتّى وإن لَم تكُن مؤمنةً تعرفُ اللهَ بحسبِ الفرضِ صارَت تعرفُه بسببِ ما رأتهُ مِن كراماتِ النّبيّ، وحتّى لو لم تكُن مؤمنةً بالغيبِ حسبَ الفرضِ صارَت مؤمنةً بهِ عندَما رأت كيفَ يتجلّى الغيبُ في حياةِ هذا الطّفل، وقد إلتفتَت هيَ بنفسِها إلى أنّهُ لم يكُن طفلاً عاديّاً مثلَ بقيّةِ الأطفالِ ولذا كانَت تقولُ (لقد رُزِقنا نسمةً مباركة).
وسواءٌ كانَت هذهِ التّوجيهاتُ مُقنعةً أو غيرَ مقنعةٍ فإنَّ بابَ البحثِ عَن توجيهاتٍ أخرى مفتوح، ولا يكونُ عجزُنا عنِ التّوجيهِ هوَ المُبرّرُ لمُصادرةِ كلِّ تلكَ الرّواياتِ التي تُثبتُ الإرضاعَ، واللهُ العالم.
اترك تعليق