الفن الاسلامي.. ريادة لا تعرف الجموح

علاقة الفن الإسلامي بالمسجد علاقة لا انفكاك لها لأنه يحتضن هذه الفنون في حنو حيث العمارة وشكلها الهندسي المتميز  والخطوط  وعالمها والزخارف المنسابة عبر جدران المسجد وقبابه وهو ما جعل  البعض يستنتج أن العامل المحرك للفن الإسلامي هو المسجد وفن عمارته، مثلما ذكر فيلسوف الجمال روجيه جارودى  في احد كتاباته في هذا الشأن ''إن الفنون في الإسلام تفضي إلى المسجد، والمسجد يفضي إلى الصلاة ''، وهذا يعني أن الفن الإسلامي يجذب الإنسان جذبا إلى الله تعالى، فيتوق إلى عبادته ويستلذ بمناجاته والتقرب اليه، رغبة منه في التخلص من كل عبودية لسواه. من هذا المنطلق نستطيع القول إن الفنان المسلم بما يحمله من موهبة واستعداد للأبداع لا يكون فنه أصيلا إلا إذا عاش في رحاب دور العبادة، ووقف بين يدي الله في خشوع وتفكر متأملا أسرار الوجود، وحقيقة الحياة والموت، ويتلقى إيقاعات لا حد لها، تخاطب العقل والسمع، وتحاكي القلب والوجدان، ففي الصلاة يتساوق جمال الاستقامة مع جلال الخشوع لله، ويتلازم انتظام أجسام المصلين مع قوة وحدة قلوبهم وصفاء أرواحهم حينما تسمو في معارجها إلى الله تعالى بكل ركوع وسجود رغبة أو رهبة أو محبة وتذللا،  فالصلاة في المشاهد المقدسة والمساجد جديرة بأن تمد الفنان المسلم بطاقة متجددة، تدفعه للإبداع والابتكار في عمله الفن.  من هنا نستطيع ان نلمس أن النزعة إلى استخدام التجريد في اغلب مفاصل الفن الإسلامي انطلقت من مبدأ النهي الشرعي عن تصوير ذوات الارواح، خاصة في المساجد و المباني الدينية و المساكن، اذ ان لغياب الصور في المساجد غرضين، الغرض الاول هو غرض سلبي ويعني استقصاء حضوراً قد يضع نفسه مقابل حضور الله، والذي يمكن اضافة الي ذلك ان يكون مصدر اثم بسبب عدم كمال الرموز جميعها، اما الغرض الثاني الايجابي فهو الذي يؤكد تعالي الله لكون الجوهر الالهي الذي لا يمكن مقارنته بأي شيء آخر مهما كان،  والتجريد واقعا إنما هو لغة الروح وريشة الوجدان كما يعبر عنه البعض، حيث يقول فيلسوف الجمال الفرنسي إتيان سوريو: " الحقيقة التي لا بد من التنويه بها كذلك، هي أن الروحية الإسلامية تحترس على الأخص من مخاطر الفن التجسيمي، وتجد لها ضمانات كبرى في استعمال الفن التجريدي. من هنا، ومن هذه الوجهة خصوصا، يجب تفسير الوضع الجمالي للفن الإسلامي من الناحية التجريدية. أضف إلى ذلك أن الفن التجريدي هو بالضبط الفن الذي يستجيب في العالم العربي لما تقتضيه الحاجة الجمالية اقتضاء شديدا ودقيقا".     ومما لا شك فيه إن لغة التجريد في الفن الإسلامي هي التي تصنع حركة الحياة الفعلية في المجتمع، فمن جماليتُها المتجددة ينبثق سلوكا حضاريا راقيا، وعلاقات اجتماعية مفعمة بالود والمحبة والسلام، تتظافر جميعها في نسيج عمراني يرقى إلى درجة المثال، وذلك بما يفيض من وجدان الإنسان المسلم من تباريح الإيمان وأشواق الروح، فالفن الاسلامي هو معين لعباد الله على تحقيق ما أراده الله لهم من ايمان ونقاء للنفس، اذ ان الفن على اختلاف صوره ادبا او نقشا يقوم بدور رئيسي في تذكير الفرد المسلم بعقيدته ومسؤولياته ، وهو دائمًا معه في كل مفاصل حياته اليومية، يحيطه بتلك المناظر الخلابة والكلمات والأصوات التي تقربه من دينه. وهنا تجدر الاشارة الى ان الفن الإسلامي قد انتهل من كل فنون الحضارات السابقة مثل الحضارة سومرية والأكادية والبابلية وحتى الفارسية واستعار منها كل الحلول التشكيلية التي تتوافق معه، ووظفها وسخرها في قوالبه الفنية الرائعة، وأعطاها وجها جديدا يصعب على المتلقي العادي التعرف على أصولها، وهكذا انفتح الفن على صيغته الإسلامية المتطورة آفاقا لا حدود لها، فالفن الاسلامي هو فن لا نهائي ولا يدرك الا بالحدس، وكلاهما يقدمان على الدوام إمكانات هائلة من أجل تلبية حاجاتنا الجمالية حين التعرض الى اي عمل فني منها، وكيف لا.. وهو نابع من قلب اسمى رسالة عالمية و من أمة عرفت بالريادة العقائدية والفكرية والإنسانية للبشرية جمعاء، وهي بالتأكيد ريادة لا تعرف الجموح أو التطرف. تلك هي فنوننا الاسلامية...

سامر قحطان القيسي

الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة

المرفقات