عقيدةُ الرّجعةِ حقيقةٌ إسلاميّةٌ أم بدعةٌ شيعيّةٌ؟

معتصم السيد احمد

الرّجعةُ في مدلولِها العقائديّ، تعني رجعةَ بعضِ الأمواتِ إلى الدّنيا قبلَ يومِ الحسابِ، وهيَ بالتّالي تحملُ مضموناً إستثنائيّاً غريباً، مخالِفاً لطبيعةِ الواقعِ الإنسانيّ، الذي إعتادَ على نمطٍ تكونُ فيهِ علاقةُ الإنسانِ بالدّنيا علاقةً محدودةً برابطِ الحياةِ، لا يمكنُ لها أن تُستأنفَ مِن جديدٍ بعدَ الموت.

فهذهِ الغرابةُ الفكريّةُ التي تحملُها عقيدةُ الرّجعةِ، تجعلُها موضوعاً لجدلٍ خاصٍّ يتجاوزُ المألوفَ ويصوّرُ البعيدَ بصورةِ القريبِ، فتصبحُ بذلكَ إستفزازاً فكريّاً، يثيرُ فضولَ الباحثِ على مُستوى الفردِ، وتحدّياً للمعرفةِ الإنسانيّة على مُستوى الأُمّةِ الإسلاميّةِ، التي ورثَت وعياً تاريخيّاً لخارطةٍ عقائديّةٍ إستُبعدَت فيها الرّجعةُ.

وبكِلا الجهتينِ، يكتسبُ بحثُ الرّجعةِ تميُّزَه، فالفكرةُ المُستبعدَةُ إذا وجدَت لنفسِها واقِعاً ضمنَ تصوّرِ المعرفةِ الإسلاميّةِ، يكونُ منَ الضّروريّ حينئذٍ إجراءُ مُراجعةٍ شاملةٍ للعقليّةِ التّاريخيّةِ للأُمّةِ، لا لكَي يتمَّ تجاوزُها، وإنّما للمُساهمةِ في صياغتِها مِن جديد.

فمِن أكبرِ العُقدِ المعرفيّةِ، التي تكونُ حائِلاً أمامَ صيرورةِ المعرفةِ واستمرارِها، أن يكونَ الأمرُ الغريبُ مُستبعَداً، لا لشيءٍ إلّا لكونِه غريباً، والمجهولُ أمرُه مرفوضاً، مِن غيرِ أن تكونَ هناكَ محاولاتٌ لمعرفتِه، فالنّاسُ في العادةِ أعداءُ ما جهلوا كما يقولُ أميرُ المؤمنينَ عليٌّ بنُ أبي طالبٍ (عليهِ السّلام)، فإذا بدأت المعرفةُ الإنسانيّةُ مِن هذهِ الحقيقةِ القائلةِ، أنَّ ما نعلمُه هوَ نقطةٌ في بحرِ ما نجهلُه، لانفتحَت أمامَها أبوابُ العلمِ، وسعى الإنسانُ لامتلاكِ كلِّ ما هوَ جديدٌ، فالعقليّةُ المُتحجّرةُ ليسَت فقط لا تمضي بالإنسانِ قُدماً وإنّما تجرُّه دائِماً إلى الخلفِ، ومِن هُنا نجدُ أنَّ القُرآنَ أشارَ لهذهِ المُعضلةِ، باعتبارِها عامِلاً لتكذيبِ الحقائقِ بقولِه: ﴿بَل كَذَّبُوا بِما لَم يُحِيطُوا بِعِلمِهِ وَلَمَّا يَأتِهِم تَأوِيلُهُ﴾([1]).

وحتّى لا يكونَ الواحدُ منّا مِصداقاً للذينَ كذّبوا بما لم يُحيطوا بعلمِه، يجبُ علينا دراسةُ عقيدةِ الرّجعةِ بعقليّةٍ مُنفتحةٍ، ترتكزُ على الدّليلِ والبُرهانِ، وتستبعدُ التعميماتِ القاطعةَ، التي تتجاهلُ الحقائقَ الواضحةَ.

عقيدةُ الرّجعةِ مِن مُختصّاتِ الفكرِ الشّيعيّ، التي تميّزوا بها عَن جميعِ الفرقِ والمذاهبِ، ممّا جعلَها عُرضةً للهجومِ والإستهجانِ مِن قِبلِ المُخالفينَ، والمُتصفّحُ لكتبِ العقائدِ والنّحلِ يجدُ سيلاً منَ الإستخفافِ والإستهزاءِ بهذهِ العقيدةِ، وقد عدَّ بعضُ علماءِ الجرحِ والتّعديلِ مُجرّدَ القولِ بالرّجعةِ كافياً للطّعنِ في روايةِ القائلِ، وقد ساعدَ الأمويّونَ والعبّاسيّونَ، الأعداءُ التّقليديّونَ للشّيعةِ، على نشرِ هذهِ التّهمِ وترويجِها، ممّا أخرجَها مِن إطارِ البحثِ إلى إطارِ التّهكّمِ، وهوَ أوّلُ إنحرافٍ للمسارِ الطّبيعيّ لدراسةِ الرّجعة.

فقد رويَ عَن أبي حنيفةَ النّعمانِ، أنّهُ قالَ يوماً لمؤمنِ الطّاق على سبيلِ الإستهزاءٓ: أقرضني دينارينِ وإنّي رادُّهما إليكَ بعد مماتي إذا أرجعَني اللهُ إلى دارِ الدّنيا، فردَّ عليهِ مؤمنُ الطّاق على سبيلِ التّهكمِ والسّخريةِ: وما أدراني أن يُرجعكَ اللهُ خنزيراً أو قرداً بدلاً مِن إنسان.

ولمناقشةِ هذهِ الفكرةِ، وهيَ رجوعُ بعضِ الموتى للحياةِ الدّنيا قبلَ الآخرةِ، لا بدَّ أن نُناقشَها على مُستوى الإمكانِ أوّلاً؛ لأنَّ الطّبيعةَ المنهجيّةَ للجدلِ العلميّ، قائمةٌ على ما يمكنُ أن يكونَ قابِلاً للتّحقّقِ؛ ولِذا فإنَّ إثباتَ أيّ حقيقةٍ أو نفيها يقتضي أن تكونَ في ذاتِها قابلةً للتّحقّقِ، أمّا إذا كانَت بذاتِها مُمتنعةً، فلا يمكنُ حينئذٍ أن تكونَ مداراً للحوارِ أو الجدلِ؛ لأنَّ إثباتَ شيءٍ لشيءٍ فرعُ تحقُّقِه، ومِن هُنا كانَ الإمكانُ العقليُّ لأيّ (فرضٍ)، شرطاً لإمكانِه العمليّ، ونقصدُ بالإمكانِ العقليّ، أن لا يجدَ العقلُ مُحالاً في تحقّقِ الفرضِ، فهُناكَ بونٌ شاسعٌ يفصلُ بينَ الإمكانِ العقليّ والتّحقّقِ العمليّ؛ فكثيرٌ منَ القضايا يمكنُ أن تكونَ مُمكنةً عقلاً ولكنَّها لم تتحقَّق على أرضِ الواقعِ، فمثلاً: هناكَ إمكانٌ عقليٌّ بصعودِ الإنسانِ إلى كوكبِ المرّيخِ - لأنَّ العقلَ لا يرى في هذا الفعلِ مُحالاً عقليّاً -، وبرغمِ ذلكَ لم يتحقَّق هذا الأمرُ عمليّاً، أمّا في حالِ حُكمِ العقلِ باستحالةِ حدوثِ أمرٍ ما فحينَها لا يمكنُ أن نبحثَ عَن تحقُّقِه على أرضِ الواقعِ.

وبناءً على ذلكَ لا بُدَّ مِن إختبارِ عقيدةِ الرّجعةِ على مُستوى الإمكانِ العقليّ أوّلاً قبلَ الحديثِ عَن أيّ إمكانٍ عمليٍّ وتحقُّقٍ خارجيّ، ولمعرفةِ ذلكَ لا بُدَّ أن نطرحَ على العقلِ سؤالاً يتضمَّنُ المُحتوى الدّاخليّ لهذهِ العقيدةِ.

فهَل منَ المُمكنِ عقلاً أن يرجعَ الإنسانُ إلى الحياةِ في هذهِ الدّنيا قبلَ يومِ القيامةِ بعدَ أن يموتَ ويُقبَر؟

وقبلَ أن نُجيبَ، لا بدَّ أن نعرفَ متى يحكمُ العقلُ باستحالةِ تحقُّقِ شيءٍ ما؟

إنَّ العقلَ لا يحكمُ باستحالةِ تحقُّقِ الشّيءِ، إلّا إذا كانَ في تحقُّقِه إجتماعٌ للنّقيضينِ، فيحكمُ مثلاً باستحالةِ إجتماعِ النّورِ والظّلمةِ، والموتِ والحياةِ، والوجودِ والعدمِ، والخيرِ والشّرِّ ... في موضعٍ وزمنٍ ولحاظٍ واحدٍ؛ لأنّهُ يُفضي إلى إجتماعِ المُتناقضينِ وهوَ مُحالٌ.

وبناءً على ذلكَ لا يرى العقلُ أيَّ مُحالٍ في رجعةِ الإنسانِ إلى دارِ الدّنيا بعدَ مماتِه، فرجوعُ الميّتِ إلى الدّنيا لا يحملُ أيَّ نوعٍ مِن أنواعِ التّناقضِ، ولو كانَ عبرَ عشرينَ واسطةً، لأنّهُ هوَ نفسُه العقلُ الذي صدّقَ بوجودِ الإنسانِ بعدَ أن لَم يكُن شيئاً، وبخروجِه حيّاً مِن قبرِه يومَ القيامةِ، فلَو كانَت رجعتُه في الدّنيا قبلَ الآخرةِ مُحالاً عقلاً، لكانَ رجوعُه يومَ القيامةِ مُحالاً أيضاً، فالعقلُ هُنا هوَ نفسُه هناكَ، ولا فارقَ بينَ الأمرينِ.

وإذا ثبتَ الإمكانُ النّظريّ للرّجعةِ، لا يبقى للإستغرابِ محتوىً إلّا حكمُ العادةِ والأُلفةِ، وهوَ الأمرُ الذي لا يُعوَّلُ عليهِ عندَ الإستدلالِ والبرهنةِ، فقَد يرفضُ الإنسانُ كثيراً منَ الحقائقِ لكونِها غيرَ مألوفةٍ لديه، ولكنَّ هذا الرّفضَ لا يعني أبداً عدمَ وجودِ هذهِ الأشياءِ، فهُناكَ فارقٌ بينَ حُكمِ العقلِ، الذي يرى الأشياءَ كما هيَ، وبينَ حكمِ النّفسِ، التي ترى الحقائقَ مِن خلالِ البُعدِ الشّخصيّ والتّجربةِ الذّاتيّةِ.

والكلامُ عنِ الإمكانِ العقليّ المُجرّدِ لا يُناقشُ ويُردُّ مِن بابِ الإمكانِ العمليّ والتّحقّقِ الخارجيّ، بعكسِ الكلامِ عَن إمكانيّةِ الوقوعِ فِعلاً وخارِجاً لأنَّ لهُ أدواتَه المعرفيّةَ الخاصّةَ القائمةَ على إثباتِ ما هوَ مُتحقّقٌ بالفعلِ في الواقعِ الخارجيّ.

معَ أنَّ الإمكانَ النّظريَّ هُنا كافٍ، إذا كانَت لهُ حكمةٌ موجبةٌ لتحقّقِه، حتّى وإن لم يحدُث على المُستوى الفعليّ، وذلكَ كالإيمانِ بيومِ القيامةِ معَ عدمِ تحقّقِ إمكانٍ فعليٍّ لهُ، وعقيدةُ الرّجعةِ لها حِكمةٌ تقتضي حدوثَها، وهُنا لا بُدَّ أن يتحوّلَ الكلامُ للحِكمةِ، طالما كانَ هُناكَ إمكانٌ عقليٌّ لتحقُّقِها.

إنَّ الخلفيّةَ الأولى للإعتقادِ بالرّجعةِ، ترتكزُ على أنَّ هُناكَ وعداً إلهيّاً، يكتملُ بهِ تصوّرُ الإنسانِ المؤمنِ للغيبِ، فهُناكَ حِكمةٌ أساسيّةٌ لخلقِ الإنسانِ، تنتظمُ حولَها مجموعةٌ منَ الحِكمِ، من دونِها لا يخلقُ الإنسانُ تصوّراً معرفيّاً مُتكامِلاً لفلسفةِ الدّينِ والحياةِ.

ومِن هنا، فإنَّ كلَّ حقيقةٍ موجبةٍ للإعتقادِ والإيمانِ، لا بدَّ أن تنسجمَ بَل تتكاملَ معَ ذلكَ التّصوّرِ المعرفيّ، وبالتّالي فإنَّ السّياقَ الذي نطرحُ فيهِ الرّجعةَ، يرتكزُ على حِكمةٍ مُستبطنَةٍ في ذلكَ الإعتقادِ، وإلّا أصبحَ القولُ بها فضولاً في الكلامِ واعتباطاً في الفكرِ، ولنكتشِف تلكَ الحكمةَ لا بدَّ أن نسألَ لماذا الرّجعةُ؟ وما هيَ العلّةُ الموجبةُ لها؟

وقبلَ أن نُفصّلَ في تلكَ الحكمةِ، لابدَّ أن نُشيرَ إلى بعضِ الآياتِ التي أثبتَت الرّجعةَ على المُستوى العمليّ، حتّى تُحقّقَ نوعاً منَ الأُلفةِ معَ نفسيّةِ الإنسانِ المُسلمِ.

1- قصّةُ عُزيرٍ الذي مرَّت على وفاتِه عشراتُ السّنين، ثمَّ عادَ للحياةِ مِن جديد، لهيَ دليلٌ واضحٌ على تحقُّقِ الرّجعةِ عملاً.

قالَ تعالى: ﴿أَو كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَريَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحيي هذِهِ اللهُ بَعدَ مَوتِها فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَم لَبِثتَ قالَ لَبِثتُ يَوماً أَو بَعضَ يَومٍ قالَ بَل لَبِثتَ مِائَةَ عامٍ فَانظُر إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَم يَتَسَنَّه وَانظُر إِلى حِمارِكَ وَلِنَجعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانظُر إِلَى العِظامِ كَيفَ نُنشِزُها ثُمَّ نَكسُوها لَحماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَي‏ءٍ قَدِيرٌ﴾([2]).

2- رجوعُ السّبعينَ رجُلاً مِن أصحابِ موسى (عليه السّلام):

قالَ تعالى: ﴿وَإِذ قُلتُم يامُوسى لَن نُؤمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهرَةً فَأَخَذَتكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُم تَنظُرُونَ ثُمَّ بَعَثناكُم مِن بَعدِ مَوتِكُم لَعَلَّكُم تَشكُرُونَ﴾([3]).

3- آلافٌ منَ النّاسِ أحياهُم اللهُ مِن بعدِ مماتِهم:

قالَ تعالى: ﴿أَلَم تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيارِهِم وَهُم أُلُوفٌ حَذَرَ المَوتِ فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحياهُم إِنَّ اللهَ لَذُو فَضلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكثَرَ النَّاسِ لا يَشكُرُونَ﴾([4]).

قالَ إبنُ جريرٍ الطّبريّ عندَ تفسيرِه لهذهِ الآيةِ في تفسيرِه جامعُ البيانِ: حدّثنا إبنُ وكيعٍ، قالَ: ثنا أبي، وحدّثنا عمرو بنُ عليٍّ، قالَ: ثنا وكيعٌ، قالَ: ثنا سفيانُ، عَن ميسرةَ النّهدي، عنِ المنهالِ بنِ عمرو، عَن سعيدٍ بنِ جبيرٍ، عَن ابن عبّاسٍ في قولِه: (ألَم ترَ إلى الذينَ خرجُوا مِن ديارِهم وهُم ألوفٌ حذرَ الموتِ)، كانوا أربعةَ آلافٍ، خرجوا فراراً منَ الطّاعونِ، قالوا: نأتي أرضاً ليسَ فيها موتٌ، حتّى إذا كانوا بموضعِ كذا وكذا، قالَ لهُم الله: موتوا!، فمرَّ عليهم نبيٌّ منَ الأنبياءِ، فدعا ربَّه أن يُحييهم، فأحياهُم، فتلا هذهِ الآيةَ: ﴿إِنَّ اللهَ لَذُو فَضلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكثَرَ النَّاسِ لا يَشكُرُونَ﴾)[5]

وقالَ في موضعٍ آخرَ في تاريخِه:

حدّثني موسى بنُ هارون، قال: ثنا عمرو، قالَ: ثنا أسباطٌ، عن السّدّي: (ألم ترَ إلى الذينَ خرجُوا مِن ديارِهم وهُم ألوفٌ)، إلى قولِه (ثمَّ أحياهُم)، قالَ: كانَت قريةً يقالُ لها داوردان (قيلَ واسِط)، وقعَ بها الطّاعونُ، فهربَ عامّةُ أهلِها، فنزلوا ناحيةً منها، فهلكَ أكثرُ مَن بقيَ في القريةِ وسلمَ الآخرونَ، فلَم يمُت منهُم كثيرٌ، فلمّا إرتفعَ الطّاعونُ رجعُوا سالمينَ، فقالَ الذينَ بقوا: أصحابُنا هؤلاءِ كانُوا أحزمَ منّا، لو صنعنا كما صنعُوا بقينا، ولئِن وقعَ الطّاعونُ ثانيةً لنخرجنَّ معهُم! فوقعَ في قابلٍ فهربوا، وهُم بضعةٌ وثلاثونَ ألفاً، حتّى نزلوا ذلكَ المكانَ، وهوَ وادٍ أفيحُ، فناداهُم ملكٌ مِن أسفلِ الوادي، وآخرُ مِن أعلاهُ: أن موتوا! فماتوا، حتّى إذا هلكوا وبليَت أجسادُهم، مرَّ بهم نبيٌّ يُقالُ لهُ حزقيل، فلمّا رآهُم وقفَ عليهم، فجعلَ يتفكّرُ فيهم، ويلوي شدقيهِ وأصابعَهُ، فأوحى اللهُ إليهِ: يا حزقيل، أتريدُ أن أريكَ فيهم كيفَ أحييهم؟ - قالَ: وإنّما كانَ تفكّرهُ أنّهُ تعجّبَ مِن قُدرةِ اللهِ عليهم، - فقالَ: نعَم، فقيلَ لهُ: نادِ فنادى: يا أيّتُها العظامُ إنَّ اللهَ يأمرُكِ أن تجتمعِي!، فجعلَت تطيرُ العظامُ بعضُها إلى بعضٍ حتّى كانَت أجساداً مِن عظامٍ، ثمَّ أوحى اللهُ إليهِ أن نادِ يا أيّتُها العظامُ، إنَّ اللهَ يأمرُكِ أن تكتَسي لحماً! فاكتسَت لحماً ودماً وثيابَها التي ماتَت فيها وهيَ عليها، ثمَّ قيلَ له: نادِ! فنادى: يا أيّتُها الأجسادُ إنَّ اللهَ يأمرُكِ أن تقومي، فقاموا)[6].

وهذهِ الرّوايةُ تحكي بشكلٍ مُفصّلٍ، حدوثَ الرّجعةِ لمجموعةٍ كبيرةٍ منَ النّاسِ، أماتَهُم اللهُ ثمَّ أحياهُم بعدَ أن أصبحُوا عِظاماً نخرةً تذروها الرّياحُ، فأحياهُم اللهُ وأسكنَهُم الدّورَ مِن جديدٍ، كما في بعضِ رواياتِ أهلِ البيتِ عليهم السّلام، كما في تفسيرِ العيّاشيّ عَن حمرانَ بنِ أعينٍ عَن أبي جعفرٍ عليه السّلام قالَ : قلتُ لهُ حدّثنى عَن قولِ اللهِ: (ألَم ترَ إلى الذينَ خرجُوا مِن ديارِهم وهُم ألوفٌ حذرَ الموتِ فقالَ لهُم اللهُ موتوا ثمَّ أحياهُم)، قلتُ: أحياهُم حتّى نظرَ النّاسُ إليهم ثمَّ أماتَهُم مِن يومِهم، أو ردَّهُم إلى الدّنيا حتّى سكنوا الدّورَ وأكلوا الطّعامَ ونكحُوا النّساءَ؟، قالَ: بَل ردَّهُم اللهُ حتّى سكنوا الدّورَ وأكلوا الطّعامَ ونكحوا النّساءَ، ولبثوا بذلكَ ما شاءَ الله ثمَّ ماتُوا بآجالِهم)[7].

فلا يبقى بعدَ ذلكَ غرابةٌ في عمليّةِ، إن كانَت هناكَ حكمةٌ، وأكتفي هُنا بما مضى مِن إشارةٍ، لأنّهُ ليسَ مِن مُهمّتي أن أستدلَّ على هذهِ العقيدةِ، وإنّما أردتُ فقط بيانَ مدى إنسجامِها معَ الحِكمةِ العامّةِ للإسلامِ.

أمّا ما يثبتُ حدوثَها في هذهِ الأُمّةِ فأكتفي بقولِه تعالى: ﴿وَيَومَ نَحشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوجاً مِمَّن يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُم يُوزَعُونَ﴾([8])، الحشرُ. في هذهِ الآيةِ ليسَ المقصودُ منها حشرُ يومِ القيامةِ، لأنّهُ حشرٌ مخصوصٌ لبعضِ الطّوائفِ مِن كُلِّ أُمّةٍ، والآيةُ هُنا نصٌّ صريحٌ في ذلكَ، لا تحتاجُ إلى إعمالِ جُهدٍ ونظرٍ، فكيفَ يكونُ المقصودُ حشرَ يومِ القيامةِ والآيةُ صريحةٌ في قولِها: (مِن كلِّ أُمّةٍ فوجاً)، وهذا بخلافِ حشرِ يومِ القيامةِ الذي يقولُ فيه تعالى: ﴿وَحَشَرناهُم فَلَم نُغادِر مِنهُم أَحَداً﴾ ([9]).

أمّا الحِكمةُ منَ الرّجعةِ، فتُفهمُ ضمنَ الإعتراضِ القائلِ: كيفَ تكونُ هُناكَ دولةٌ للإمامِ المهديّ تتحقّقُ فيها العدالةُ لكُلِّ الأرضِ، ثمَّ تكونُ خاصّةً بمَن يشهدُها في عصرِ ظهورِها دونَ غيرِهم منَ الصّالحينَ والطّالحينَ الذينَ مضوا؟

فإذا كانَ اللهُ قَد وعدَ عبادَهُ الصّالحينَ بأن يرثُوا هذهِ الدّنيا بقولِه تعالى: ﴿وَلَقَد كَتَبنا فِي الزَّبُورِ مِن بَعدِ الذِّكرِ أَنَّ الأَرضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ﴾، وإذا كانَت الأرضُ كلّ الأرضِ فحتماً الصّالحونَ جميعُهم لا بدَّ أن يُشاركوا في وراثةِ هذهِ الأرضِ.

ومنَ المعلومِ أنّهُ لَم يكُن للصّالحينَ وراثةٌ في كلِّ الأرضِ، منذُ أن خلقَ اللهُ آدمَ إلى يومِنا هذا، ممّا يعني أنَّ هذا اليومَ هوَ يومٌ موعودٌ لم يتحقَّق بعد، قالَ تعالى: ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُم وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَستَخلِفَنَّهُم فِي الأَرضِ﴾([10])، وهذا الوعدُ هوَ لذلكَ اليومِ الموعودِ الذي يكونُ فيهِ الصّالحونَ مُستخلفينَ في الأرضِ.

فكما أنَّ الأرضَ هيَ كلُّ الأرضِ، فكذلكَ الصّالحونَ كلُّ الصالحينَ موعودونَ بهذهِ الخلافةِ الرّبّانيّةِ، ومنَ المعلومِ أنَّ الصّالحينَ كانوا هُم المُستضعفينَ، ولم يحكُم الدّنيا إلّا المُتجبّرونَ، ولِذا وعدَهم اللهُ بالنّصرِ بعدَ الإستضعافِ، قالَ تعالى: ﴿وَنُرِيدُ أَن نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ استُضعِفُوا فِي الأَرضِ وَنَجعَلَهُم أَئِمَّةً وَنَجعَلَهُمُ الوارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُم فِي الأَرضِ﴾([11]).

وبما أنَّ هذهِ الوراثةَ وهذا الإستخلافَ للصّالحينَ في كلِّ الأرضِ لَم يتحقَّق فيما مضى، وبما أنَّ ذلكَ اليومَ يومٌ ضروريٌّ لا بُدَّ منهُ حتّى يتحقّقَ وعدُ اللهِ، فلا بُدَّ أن يأتي هذا اليوم.

فكيفَ يا تُرى يتحقّقُ وعدُ اللهِ للصّالحينَ، وهُم قَد ماتوا وانقضى عمرُهم؟ واللهُ يتحدّثُ عَن صالحينَ بعينِهم: ﴿وَنُرِيدُ أَن نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ استُضعِفُوا فِي الأَرضِ وَنَجعَلَهُم أَئِمَّةً وَنَجعَلَهُمُ الوارِثِينَ﴾.

فقولُ الشّيعةِ بالرّجعةِ، يُحقّقُ للصّالحينَ الذينَ إستُضعفوا في الأرضِ إستخلافاً في هذهِ الدّنيا قبلَ الآخرةِ، الأمرُ الذي يقودُنا إلى القولِ بأنَّ عقيدةَ الرّجعةِ فهمٌ مُتقدّمٌ للإسلامِ، فإن كانَت هذهِ العقيدةُ تضمنُ ذلكَ الأمرَ الذي فيهِ حكومةُ الصّالحينَ، فما العيبُ في هذا الإعتقادِ حتّى يكونَ محلّاً للسُّخريةِ والإستهزاءِ؟ وليسَ فيها ما يُخالفُ ضروراتِ العقلِ والدّينِ، بلِ العكسُ إذ بها يكتملُ وعيُنا بالدّينِ، ونتحسّسُ قُدرةَ اللهِ وعظمتَهُ وعدلَه.

وهذهِ الوراثةُ ليسَت ضمنَ فترةٍ محدودةٍ، وإنّما يطولُ عهدُها إلى درجةٍ تُصبحُ معها خلافةُ الظّالمينَ والمُفسدينَ الذينَ حكموا كأنّها لَم تكُن، حتّى يقولَ القائلُ أكانَ في الأرضِ ظُلمٌ؟!

قالَ اللهُ تعالى: ﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَياةِ الدُّنيا وَيَومَ يَقُومُ الأَشهادُ﴾([12]).

إنَّ اللهَ تعالى قد وعدَ رُسلَه والمؤمنينَ الخُلّصَ بكمالِ النُّصرةِ، فكما ينصرُهم في الآخرةِ لابُدَّ أن ينصرَهم في الدّنيا، وإنَّ هذا النّصرَ مِن جنسٍ واحدٍ، لا يُفرّقُ بينَ النّصرينِ إلّا طبيعةُ الدّنيا والآخرةِ، فالآخرةُ لامُتناهيةٌ في الزّمنِ، والدّنيا قائمةٌ ما دامَت السّماواتُ والأرضُ، فبما أنَّ النّصرَ في الآخرةِ لا مُتناهٍ في طولِ الزّمنِ، يدومُ ما دامَت الآخرةُ، فعليهِ النّصرُ في الدّنيا سيكونُ لا مُتناهياً بحسبِ عُمرِها...ستدومُ النّصرةُ و الحاكميّةُ ما دامَت السّماواتُ والأرضُ، فالنّصرةُ التي وعدَ اللهُ بها الصّالحينَ في الدّنيا، مُمتدّةٌ إمتداداً زمنيّاً إلى ما شاءَ اللهُ منَ السّنين.

فلابدَّ أن يحكُمَ الحقُّ أضعافاً مُضاعفةً على زمنِ حكومةِ الباطلِ، حتّى إذا سألَ سائلٌ: مَن حكمَ الأرضَ ومَن ورثَها؟، قيلَ لهُ: الصّالحونَ غيرَ آبهينَ بمُدّةِ حُكمِ أهلِ الباطلِ، نظراً إلى أنَّ حُكمَهُم نُقطةٌ في بحرِ حُكمِ الصّالحينَ، فـ (للباطلِ جولةٌ وللحقِّ دولةٌ).

وهناكَ رواياتٌ كثيرةٌ عَن أهلِ البيتِ تُؤكّدُ على الرّجعةِ وعلى طولِ حكومةِ الصّالحينَ صرفنا النّظرَ عَن ذكرِها، ولمَن أرادَ التّفصيلَ عليهِ الرّجوعُ إلى الكُتبِ المُختصّةِ، وتكفينا هُنا هذهِ الإشارةُ، التي تجعلُ الرّجعةَ ضمنَ النّسقِ العامِّ للمعرفةِ القُرآنيّةِ، كما تجعلُها مُكمّلةً للفهمِ الشّموليّ للحِكمةِ الإلهيّةِ.

 

 

[1] - سورة يونس/39.

[2] -سورة البقرة/259.

[3] - سورة البقرة/55-56.

[4] - سورة البقرة/243.

[5] - جامع البيان عن تأويل آي القرآن – محمد بن جرير الطبري ج2 ص 793

[6] - تاريخ الطبري – محمد بن جرير الطبري ج1 ص 323

[7] - تفسير العياشي – محمد بن مسعود العياشي ج1 ص 130

[8] - سورة النمل/83.

[9] - سورة الكهف/47.

[10] - سورة النور/55.

[11] - سورة القصص/ 5-6.

[12] - سورة غافر/51.

المرفقات