قبل أن يخلق البشر ما هو عمل الخالق ؟

عندما نلاحظ كلمة القبلَ والبعدَ فاللازم لهاتين الكلمتين هوعلاقةٌ بالزّمانِ، ومنَ المعلومِ أنَّ الزّمنَ بدأ معَ الخلقِ، لكونِ الزّمانِ مُقترناً بالمكانِ وبالحركةِ، وعليهِ لا يقعُ الزّمانُ والمكانُ على اللهِ حتّى يُقالَ في حقّهِ قبل وبعد ومتى وأين وكيف؛ لأنّهُ هوَ الذي أيّنَ الأينَ وكيّفَ الكيفَ.

وعليهِ فإنَّ الأسئلةِ التي يدور محورها حول القبلية والبعدية ونسبتها الى الله تعالى مبنية على معرفةٍ خاطئةٍ باللهِ تعالى، بمعنى أنَّها تنتمي إلى المعرفةِ التّصوّريّةِ القائمةِ على مشابهةِ الخالقِ بالمخلوقِ، ولا تنسجمُ مُطلقاً معَ طبيعةِ المعرفةِ القائمةِ على تنزيهِ اللهِ عَن مُشابهةِ خلقِه بأيّ شكلٍ منَ الأشكال، ومنَ المعلومِ أنَّ السّؤالَ بطبعِه يمتلكُ مُبرّرَهُ الوجوديَّ مِن خلالِ السّياقِ المعرفيّ الذي يتحرّكُ فيه، والتّشكيكُ أو نفيُ ذلكَ السّياقِ المعرفيّ هوَ نفيٌ للمُبرّرِ الموضوعيّ للسّؤالِ نفسِه، فتارةً تكونُ معرفتُنا باللهِ شبيهةً بمعرفتِنا بالأشياءِ، وتارةً تكونُ معرفتُنا بهِ قائمةً على مُباينتِه عنِ الأشياءِ، ومنَ الطّبيعيّ أنَّ معرفةَ الأشياءِ قائمةٌ على مجموعةٍ منَ التّصوّراتِ التي تتضمّنُ كلَّ أبعادِه وحالاتِه، مثلَ زمانِه ومكانِه وحجمِه وكيفيّتِه وغيرِ ذلكَ منَ التّصوّراتِ التي تفرضُها طبيعةُ المعرفةِ بالأشياءِ، وعندَها يصبحُ السّؤالُ عَن مكانِ اللهِ وكيفَ هوَ وماذا يعملُ وكيفَ يعملُ وغيرُ ذلكَ منَ الأسئلةِ لها مُبرّرُها الموضوعيّ، أمّا إذا كانَت معرفتُنا باللهِ قائمةً على كونِه مُبايناً لخلقِه بينونةً حقيقيةً بمعنى أنَّ كلَّ ما يقعُ على المخلوقِ لا يقعُ على الخالقِ، حينَها تصبحُ هذهِ الأسئلةُ أجنبيّةً ولا تنتمي لهذا النّوعِ منَ المعرفةِ، وعليه يمكنُنا أن نقولَ إنَّ السّؤالَ يرتكزُ على تشبيهِ اللهِ بالإنسانِ الذي يختلفُ فعلُه مِن وقتٍ إلى وقتٍ آخر، ويتبدّلُ تبعاً لذلكَ وضعُه وحالُه ما قبلَ الفعلِ وما بعدَه؛ فالمُحتاجُ بطبعِه والفقيرُ بذاتِه في حالةٍ دائمةٍ للفعلِ والإنفعالِ، فلا يُعرفُ إلّا بمقدارِ تعلّقِه بما يُكملُ ذاتَه، أمّا الغنيُّ بذاتِه المُستغني عَن غيرِه لا يُعرَف بنسبتِه إلى ما عداه، فلا يقالُ كيفَ حالُه قبلَ الخلقِ وبعدَ الخلقِ؟ لأنَّ الذي يقعُ عليه التّغييرُ هو الفقيرُ والمُحتاج.

وعليهِ إنَّ أساسَ توحيدِ اللهِ تعالى هوَ تمييزُه عَن خلقِه، بحيثُ يكونُ بايناً عنهُم بينونةً في الصّفةِ لا في العُزلةِ، فلا شيءَ يجمعُ بينَ اللهِ وبينَ خلقِه، فهوَ المُتفرّدُ في وحدانيّتِه، لا يشبهُه شيءٌ مِن خلقِه بأيّ وجهٍ منَ الوجوهِ، فهوَ ممتازٌ عَن خلقِه وباينٌ عنهُم بينونةً حقيقيّةً في جميعِ شؤونِه، يقولُ الإمامُ عليّ (عليه السّلام): دليلُه آياتُه.. ووجودُه إثباتُه.. ومعرفتُه توحيدُه.. وتوحيدُه تميّزُه مِن خلقِه.. وحكمُ التمييزِ بينونة صفة لا بينونة عزلةٍ.. إنّه ربٌّ خالقٌ غيرُ مربوبٍ مخلوقٌ، كلُّ ما تُصُوِّرَ فهوَ بخلافِه. ويقولُ الإمامُ الرّضا (عليه السّلام): مباينتُه إيّاهم مفارقتُه إنيّتَهم.. كنهُه تفريقُ بينه وبينَ خلقِه.. مباينٌ لا بمسافةٍ، فكلُّ ما في الخلقِ لا يوجدُ في خالقِه، وكلُّ ما يمكنُ فيه يمتنعُ عن صانعِه). وعنِ الإمامِ الصّادقِ (عليه السّلام): إنَّ اللهَ تباركَ وتعالى خلوٌّ مِن خَلقِه، وخَلقُه خلوٌّ منه.

وإذا إتّضحَ ذلكَ يتّضحُ أنَّ السّؤالَ ينطلقُ مِن معرفةٍ باللهِ تتصوّرُ أنَّ اللهَ بعدَ خلقِه للخلقِ يحدثُ ذلكَ تغيّراً في ذاتِه، ولِذا يسألُ عَن حالِه قبلَ خلقِه للخلقِ، فالسّائلُ يتصوّرُ أنَّ اللهَ بعدَ خلقِه للعالمِ أصبحَ مشغولاً بهِ ولِذا يسألُ عَن عملِه قبلَ خلقِه للخلقِ، ومنَ الواضحِ أنَّ السّؤالَ ينطلقُ مِن إنزالِ اللهِ منزلةَ الإنسانِ الذي يختلفُ حالُه ما بينَ الفراغِ وبينَ الإنشغالِ، وقَد غفلَ السّائلُ عَن كونِ الذي يتغيّرُ وضعُه ويتبدّلُ حالُه بينَ الفعلِ وعدمِه هوَ المخلوقُ المُحتاجُ، أمّا الغنيُّ بذاتِه المُستغني عَن غيرِه فهوَ نفسُه ونفسُه هوَ قبلَ الخلقِ وبعدَ الخلقِ أو كما يُعبُّر الإمامُ الرّضا (عليه السّلام) بقولِه: (فكانَ اللهُ ولا خلق، وقبلَ أن يخلقَ اللهُ الخلقَ، كانَ غنيّاً بذاتِه عارِفاً بنفسِه، فنفسُه هوَ وهوَ نفسُه، فلا يحتاجُ إلى إسمٍ ونعت).

المرفقات