هندسة الحروف .. جمال منبثق وقداسة في المعنى

تكمن مستويات الجمال في الخط العربي الكوفي في طريقة صياغة حروفه الهندسية القوام والتناسب الذي ينبثق منها، اضافة الى ايقاعاتها من التكرار واتصالها وتطابق حركتها ودقة وتناسب اشكالها، حيث تتيح التكوينات الشكلية بواسطة تطبيق التماثل كقيمة جمالية، وكذلك التعبير عن مبدأ ديناميكية الاشكال والحروف تظل واسطة لتكوين حالة من التنافر ما بين عالمين مؤثرين في الاشكال الفنية الخطية والزخرفية.. عالم الابعاد بين ساكن ومتحرك من الاشكال او الحروف وعالم الكيان المادي المختص بالخطوط والأشكال الهندسية المربعة والمثلثة وغيرها، فهذه الجماليات برمتها تساهم بما ينجم عن القراءة الاعتيادية للمدونة الى قراءة روحية لامادية .

ويعتبر الخط الكوفي المضفور والمزين بالعناصر النباتية احد الاشتغالات الفنية الابداعية التي تنطق بقيمتها الجمالية من خلال حروفها  المتشابكة والتنوع الشكلي السائد عليها، مما يحقق التوازن بين مساحات العمل الواحد او حتى الكلمة الواحدة، والمخطوطة اعلاه احدى النماذج الخطية الرائعة التي تتجسد فيها اعلى حيثيات ومستويات جمال الخط الكوفي.

المخطوطة اعلاه تحمل بين حدودها المستطيلة الشكل  عبارة   ( وبشر المؤمنين) التي وردت  وتكررت في القرآن الكريم ، وهي موقعة باسم الخطاط العراقي ( حسن بن قاسم حبش البياتي البجدلي ) المولود في مدينة الموصل سنة 1944، والذي اختص بكتابة الخط الكوفي متيمناً بنهج الخطاط يوسف أحمد يوسف المصري  ومتأثراً  بمخطوطات محمد عبد القادر المصري، حتى  أوجد لنفسه طريقة خاصة سار عليها وذلك ما جسده في كتابه “الخط العربي الكوفي" بنسختيه الملونة والعادية، وقد وزعت كلمات  نص المخطوطة وفقا للأساس الخطي للشكل المستطيل، اذ اعتمد الخطاط  فيها على تقسيمات محسوبة بحذر لمساحة التكوين التي يمكن تحديدها بثلاثة اقسام كما هو واضح للمشاهد ، محققاً  التماثل في بعض اجزاء التكوين وبالخصوص في الجزء العلوي منها وبشكل متناظر ومتطابق ، وبشكل غير متماثل في الجزء السفلي للتكوين الذي يحتوي على عبارة (وبشر المؤمنين) ، وايضا نجد انه قد حقق التوازن الشكلي والمساحي ما بين الجزء العلوي والسفلي للتكوين الخطي، حيث حقق التوازن ما بينهما وبين الهيئة الشكلية والعامة للتكوين بين المساحات فيما بينها .

وقد استثمر الخطاط تقنية تغيير البنية الشكلية للحروف  من خلال  توظيف البنية الشكلية للحروف وتغيير اتجاه بعض من حروف النص كما في حرف (ش) كلمة (بشر) مكوناً من خلاله تنوعاً وحركة لهذه العناصر الحروفية فيما بينها كما يظهر في حرف (ن) و (ي) كلمة (المؤمنين) ، اضافة الى تقنية المضافة في تكوين شكل ايقوني من ابتكاره من خلال مد الحروف العمودية لكلا الكلمتين المصاغتين في اللوحة، و من ثم تحقيق التوازن من خلال اضافة عناصر تشبه من حيث الهيئة الشكلية للحروف داخل مساحة التكوين .

ومن جانب اخر فقد عمد حبش على ترتيب الكلمات في البنية النصية للمخطوطة وفق نظام توزيع سطري غير متراكب مريح للقارئ ،وباتجاه افقي متسلسل ومتتابع بدءاً من الجهة اليمنى للنص من كلمة (وبشر) وتتابع وصولاً الى الجهة اليسرى التي تحتوي على كلمة (المؤمنين)، محققاً من خلال ذلك المتطلبات القرائية للنص والمتطلبات الجمالية التي تمثلت بالعناصر النباتية الزخرفية المضافة الى نهايات الحروف العمودية محققاً التوازن المتكافئ في اشغال المساحات ، كما في حرف (أ) وحرف (ن) في كلمة (المؤمنين) شغل المساحة مابين هذين الحرفين بمفردة زخرفية نباتية زهرية ،  بحيث تكون هي المركز الادراكي البصري في وسط التكوين ونقطة جذب للمتلقي ، كما اعتمد على التكرار في تحقيق التوازن والانسجام ما بين اجزاء التكوين المتماثلة والمتشابهة في الجزء العلوي من التكوين ، من خلال تقسيم هذه المساحة الى مساحات او اجزاء نصفية.. يكون كل جزء منها مكملا لباقي الاجزاء الاخرى، بحيث يظهر التكوين مترابط ومتناغم وفق ايقاع رتيب وغير رتيب ما بين اجزاء التكوين، معززاً من خلال ذلك التوازن الشكلي لهذه العناصر المتضادة والمتقاطعة اتجاهياً دون ان تشغل كافة المساحة الذي نتج عنها حيزا فضائيا في طرفي التكوين ليكون متنفس جمالي للتكوين والعناصر المنفذة داخل مساحته .

 اما التباين المعزز لجماليات المخطوطة فقد برز واضحا في الهيئة الشكلية بين الجزء العلوي والجزء السفلي من التكوين الكتابي، اضافة الى الاختلافات الشكلية للوحدات الزخرفية المعززة للحروف  فيما بينها وبين الوحدة الزخرفية الي تشغل المساحة الوسطية للتكوين، في حين ميز الفنان من خلال التباين الظاهر للعيان ما بين الارضية ذات القيمة الضوئية البيضاء والبنية النصية ذات القيمة الضوئية السوداء ، كما تمثلت الوحدة والتنوع في التكوين الخطي بعلاقة كل جزء بالجزء الاخر، والتي ظهر النص المكتوب من خلالها كوحدة واحدة مترابطة فيما بينها ومرتبطة ايضاً بالمساحة الكلية للتكوين كالتوزيع المساحي والهيئة الشكلية للكلمات والعناصر الزخرفية النباتية في الجزء العلوي من اللوحة، وقد حاول الخطاط من خلال سيادة الشكل الزخرفي والايقوني للتكوين ان يحقق ترابطاً ما بين مضمون التكوين والهيئة الشكلية العامة له،  بحيث يظهر بهيئة عمارية دينية كالأبواب والاقواس و الاواوين التي قصد من خلالها ايصال فكرة الى المتلقي بأن المؤمنين لهم الجنة ، كما عزز هذه السيادة في الوحدة التي ترتكز في وسط التكوين كمركز بصري وادراكي وحركي للعناصر المنفذة داخل مساحة التكوين.

اما فيما يخص النسبة والتناسب  فقد عززها من خلال العلاقة التناسبية  بين الحروف نفسها ، حيث حقق من خلالها جوانب جمالية ووظيفية ، اذ  يظهر التناسب في التكوين متمثلاً في ارتفاع الحرف وامتداده محدداً مقاييس للجزء السفلي من  التكوين، فالتناسب بين الحروف والكلمات وبين المساحات التي تشغلها مبنية على اساس التناسب وتحقيق التوازن والجمالية لكل عنصر بين عناصر اللوحة وعناصرها الكلية، من خلال علاقة الجزء بالجزء الاخر من حيث النوع والقياس والهيئة ، ومن خلال هذه العلاقة التناسبية ما بين الحروف والتي حقق من خلالها الجانب الوظيفي للنص بتتابعه القرائي ووضوحه داخل مساحة التكوين ، والمرتبط بالأساس بضبط المسافات الفاصلة بين الحروف والكلمات بما يتلاءم مع متطلبات المساحة المنفذة عليها ، محققاً بدوره وبحرفية عالية الجانب الجمالي المتمثل بما اضيف الى البنية النصية من وحدات وعناصر زخرفية معززة لجماليات النص المكتوب.

سامر قحطان القيسي

الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة

المرفقات