الابتكار وبنية الايهام في الاعمال التشكيلية..

ان مجمل التأثيرات الخارجية أياً كانت، لا تنمو في النفس الا بمقدار ما تخصها ردود الفعل الذاتية التي تختلف من شخص لأخر، ومن آن لآن عند الشخص الواحد، ثم ان هذه الردود الذاتية نفسها ليست الا تراكما حيويا من تفاعل الذات مع المؤثرات الموضوعية الخارجية، وعليه فأننا سنكون مع كل شخص.. امام نموذج مستقل بعالمه وابعاده عمن سواه.. فهو وليد التزاوج والتفاعل بين مختلف المؤثرات من الداخل والخارج، فالحياة الخاصة للمرء في فرديتها وابعادها النفسية والاجتماعية تخضع للرقابة وبأشكال مختلفة، اذ يشعر الفرد دائما انه امام سلطة يخاف منها ورقابة شديدة هو بحاجة الى ان يهرب منها، ومن خلال الانتقالات من بنية اجتماعية الى اخرى، ومجريات الحياة اليومية التي اصبحت اكثر كثافة بفعل انها لم تعد مستهلكة في احترام النماذج ، يجد الانسان نفسه محكوما بالحرية ، مقذوفا الى ابعد من نفسه في صورة يمكن ان تأخذ شكلا سلبيا هو ليس اقل من رمز لتكامل مستقبلي مطلوب تحقيقه، وهذه الحياة النفسية الفردية او الجماعية التي لا يمكن ان تجد تعبيرها او تفتحها في اطر مجتمع قد يكون متجها نحو المجهول، تجد طريقها نحو الخيالي وابتكار الاشكال .

لقد اصبحت فلسفة الفرد الجديد هي ان لا تصبح مذهبا عاما يأخذه عن غيره او يفرضه على غيره، فهي عملية اختراع مستمرة في كل لحظة لذاته وبواسطة ذاته نفسها لتزول بها ثنائية الواحد والاخر، فالواحد يستطيع ان يكون الاخر بالنسبة لذاته، وبهذه الطريقة تتم مواجهة الفراغ ومواجهة الاشكال المعهودة وانهيار الاشكال المألوفة، ويأخذ اللون مكان الشكل وتزول ملامحه، وبما ان عيوننا واذاننا وحواسنا المختلفة في الشم والذوق تخلق من الحقائق قدر ما يوجد على البسيطة من بشر، فكل منا يخلق رؤيته للعالم، وليس للفنان من رسالة غير ان يعيد في اخلاص تقديم هذه الرؤية بجميع الوسائل الفنية التي تعلمها ويستطيع استخدامها، وقد عمد كبار الفنانين على رؤاهم الخاصة على البشرية ، حيث تجد ذات الفنان حاجة مباشرة لنزع الاشكال وجعلها اكثر تعبيرا عما يختفي خلف العالم الظاهر، والتي – الاشكال- تعد الاكثر قلقا للفنان نفسه.. لما تكونه من انطباع لدينا عنه، فنتاجه لم يعد يواكب المسيرة الفنية.

فالفنان يجنح الى نسق من الاشياء يخالف ما نرى وما نعرف من اجل الوصول الى حقائق مستقرة باقية ومن اجل ارتياد دفائن واسرار الاشياء او الاشكال، لكن الطابع الاصلي لهذا الارتياد هو انه عالم متكامل مكتف بذاته وبثرائه ، بفضل تعقده وتركيبه.. ومن ثم فالمنظور على اختلاف هيئاته، اصبح غير مؤهلا وحده لإيجاد الدلالة او لكشف النسق المركب الذي يسيطر عليه مبدآن متآزران .

وبمعنى اخر يتعلق بعلم النفس، اصبح من الممكن القول ان العمل الفني ذو صلات بكل منطقة من مناطق العقل يستمد منه فاعليته او طاقته الحيوية، وان النتاج الفني هو مجهود يحاول تجاوز عقبة سلبية معينة امام تلقي رسالة غير متوقعة او رسالة قد يساء فهمها، وهي عقبة تغير معاني الاشارات او عقبة كل ما يؤمن التواصل الكلي الذي لا يستطيع الفنان مهما كانت الطريقة التي يتبعها في انشاء طروحاته الفنية، الا ان يحاول تحقيقها .

من هنا نستطيع القول ان البحث التقني للاتصال ( اللوحة والمتلقي) بوساطة عنصر جزئي يدل على كل لكن لا يشكله، وهذا كله يجعل من العمل الفني نظاما شبه متماسك من النشاطات المثارة او الجلية الموجهة صوب التواصل الحقيقي، وهذا ما يدعم النتاج بقيمة ديناميكية قد يجهلها المبدع نفسه، وهذا التعريف الجدلي يسمح بتعيين موضع الحاجز الحقيقي الذي يصطدم به نشاط الفعل الخيالي، هذا الحاجز الذي نستطيع ان نرده احيانا الى الم ما او مرض فسيولوجي تم التغلب عليه او نقل الى اطار اخر تعويضا عما فقد من الفنان، لكن دون ان يتمثل هذا الحاجز بهذا المرض تمثلا تاما.

وهذا يبين ان الفن بقدر ما تجذر عميقا في الحياة اليومية ، لم يستطع في تعبيره الاكثر بساطة ان يبدو فقط مجرد وهم ، وهذا يعني ان النتاج الخيالي لم يعد يقوم في سذاجته المبتكرة او المجردة ، لكنه يميل الى الاعتماد على القوة المستعارة او المكتسبة من الواقع الذي قد يكون اكثر ابتذالا، والمسألة هنا هي ليست مسألة مرافقة اي المجاورة بين ما هو حقيقي وما هو وهمي، ولكن في الكشف من خلال تجاور عناصر خيالية وواقعية مجمعة بطريقة فوضوية عن مؤدى لقاء بين الرؤيا والواقع والاحساس بالغرابة عند الرسام، وهذه الغرابة دائمة وعنيدة لعالم هو اجتماعي بالأساس بدرجة عالية ، فالموضوع الفني يكون له معنى حين يكون تجسيدا لواقع يتجاوزه ، لكن لا نستطيع ان نعقله خارجا عنه ولا يسمح بتناهيه بالتعبير عنه بصورة مطابقة عن طريق أي منظومة من الاشارات ، فقد يكون هنالك احساس حاد بالواقع على نحو يكفي لان يتفوق على الاحساس الاعتيادي بالواقع، وهو ما يخلق واقعا قائما بذاته عند الفنان او حتى المشاهد.

من جانب اخر فان الاوضاع المحيطة بالفنان تفرض عليه اما ان يسير طائعا في ركاب التراث والتقاليد واما ان يثور عليها مكونا سياقات جديدة، وبصورة اوضح، فهناك مجموعة من التحولات قد تحدث في مفاهيم فكرية محيطة تؤدي به الى الثورة على التقاليد الفنية التي كانت سائدة في ظل المفاهيم القديمة مؤدية من ثم الى انقلاب هائل في نوع انتاجه الفني، فقد يخضع الفنان لضغوط ذاتية عالية تجعله ينفصل بعمله عن العالم الموضوعي المحيط به وعن السياق الفني بمفرداته و اساليبه، ولا يكتسب عمومية المعرفة القائمة في عصره ومجتمعه.. فتجعله هذه غريبا عن المحيط بنتاجاته الفنية، فيصبح بذلك منفردا بأعماله ومعارضا لأقرانه، الا انه يستمد بعض المفردات من السياق الفني والمعرفي الذي وجد فيه، وهذا السلوك اشبه في وقته بسلوك مغاير عن عصره وناتج عن صراع بين رغبات وطموحات ودوافع الفرد الفنان من جهة ووسائل الضبط الاجتماعي والسلوكي من جهة اخرى .

. اللوحة تحمل توقيع الفنان الكبير عبد الحميد قديريان.. وقد جسد فيها وقوف الامام الحسين عليه السلام والملائكة من فوقه امام جيش اللعين ابن زياد، في مساء اليوم التاسع من محرم الحرام، وهذه اللوحة جزء من سلسلة لوحات عقائدية اختص بها الفنان وتم عرضها في احد معارضه الشخصية تحت عنوان ( سماء كربلاء).

اعداد

سامر قحطان القيسي

الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة

المرفقات