حقوق الأجير في التشريع الإسلامي

   لقد ضمن الدين الإسلامي الحنيف للبشرية كافة مستلزمات التقدم والنهوض والرفاه الاقتصادي، لتكوين المجتمع الفاضل الذي أخذت تنشده اليوم بعض المذاهب السياسية المعاصرة، وحين قرر لكل فرد في الحياة حق الحرية وحق العلم قرر له كذلك حق العمل, ففي جو الحياة الحرة العاملة يندفع الناس إلى العمل كي ينالوا ما به قوام حياتهم ومعيشتهم, فلا يوصد باب العمل بوجه احد منهم ولا تستأثر بخيرات الدنيا فئة منهم ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ ولكل إنسان فيها بحسب طاقاته وجهده وكفائتة ﴿ وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ﴾، فإذا حاز شيئا منها كانت هذه الحيازة حقا له لا ينازعه فيها احد .

   فالسبب الذي يضمن للمرء الحصول على قوته هو "العمل" ولما كانت كلمة العمل واسعة الدلالة, وكان العمل متعدد الأنواع ومختلف الإشكال فان التشريع الديني نص على العمل الحلال المشروع فقط, ومن هنا جاءت في التشريع الاسلامي المقدس مجموعة من القوانين الخاصة في العمل لتنظيم حق العيش في الحياة، كما شرع عدد من العقوبات المتنوعة على من يخالف تلك النصوص المقدسة، فضمن بذلك للعمال حقوقهم وحددّ واجباتهم وكفل مستقبلهم.

   وليس المقصود بالعمال في الشرع المقدس طبقة معينة من الناس، فالناس كلهم في هذا الكون بنظره عمال سخر الله لهم ما في السموات وما في الأرض وجعلهم متساوين من الاستفادة في خيراتها، وبذلها لهم من غير ثمن وذللها لهم من دون تمييز بين فئة وفئة أو بين أمة وأخرى﴿ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ﴾.

   وليس في الكون شيء يصعب على الإنسان الاستفادة منه إذا وظف عقله وعلمه معا ووّجه لذلك همته وإرادته، فما على الإنسان بعد أن ذلل الله له الكون إلا أن يجتهد من الانتفاع منه واستثمار خيراته  ﴿ فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَىٰ طَعَامِهِ؛ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا؛ مَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا؛ فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا ﴾ ، وكذلك في قوله تعالى ﴿ وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ ﴾ وكذلك اشار في اية اخرى﴿ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ  ﴾، فبين الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات البينات وما شابهها بأنه خلق الرزق لينتفع الناس منه بجهودهم وعلمهم .

   ولما كانت خيرات الأرض والسماء في متناول الناس جميعاً، فان كل إنسان قدر له من خيرات هذا الكون رزقاً ونصيباً بقدر ﴿وَمَا مِن دَآبَّةٍۢ فِى ٱلْأَرْضِ إِلَّا عَلَى ٱللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا﴾، وكان المال وسيلة إلى الخير وتيسير للمنافع، ولذا كان من الواجب على الإنسان إن يسعى ليكتسب ويحصل على المال، وقد أمرنا القرآن الكريم بالسعي في الأرض لنأكل رزقه حلالاً طيباً ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ ﴾، وبذلك كان العمل في الإسلام واجباً اجتماعيا شريطة أن يكون شريفاً بعيداً عن المحرمات كالغش و الخداع والسرقة والاحتكار والغصب والربا و القمار والخمر والكذب والبغي والفسق و المخاتلة و الضرر بمصلحة الآخرين و كيان الدولة العام.

    فالله قد جعل العمل وسيلة للخير وكسب الرزق الحلال، وقد وردت في كتابه الكريم (360 ) أية تتحدث عن العمل وتتضمن كلها إحكاما شاملة له، وتحدد مسؤولية العامل وعقوبته ومثوبته، وكذلك تعنى واجبات رب العمل ومسؤوليته، بالإضافة إلى عدد غير قليل من الأحاديث النبوية الشريفة بهذا الصدد، ومن جملة هذه الأحاديث ما قاله النبي الاكرم محمد (صلى الله عليه وآله) :" ما أكل أحد طعامًا قط خير من أن يأكل من عمل يديه، وإن نبي الله داود (عليه السلام) كان يأكل من عمل يده"، قد أعتبر الله العمل نعمة يقتضي حفظها والمداولة عليها ﴿لِيَأْكُلُوا مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ ۖ أَفَلَا يَشْكُرُونَ﴾ و ﴿ وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ ﴾، فهذه الآيات و الأحاديث تدل دلالة واضحة على أن الإحكام المتعلقة بالعمل تهدف إلى كسب المال والتمتع بالطيبات منه.

   فالإسلام فرض على المسلمين الكسب الحلال الطيّب، وألزمهم بالاستفادة من الثروة التي يكسبونها من عملهم ، وذلك لتحقيق التقدم الاقتصادي في المجتمع و إشباع الحاجات الأساسية لكل فرد، ومن أجل مراعاة حصول المسلم على العيش عن طريق العمل الشريف حددّ الدين الإسلامي مسؤولية العامل واوجب عليه إتقان عمله ﴿وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ .

    فالدين الإسلامي الحنيف شرع العمل وبين أحكامه وترك للإنسان الحرية في اختيار المهنة لنفسه، فأوجب أن يكون لقاء كل عمل أجر، ولكنه حددّ الأجر على قدر العمل، إذ قال تعالى ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ﴾ وكذلك ﴿وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ﴾، كما أجاز الإسلام للفرد أن يستأجر لعمله أجراء (عمالاً) يعملون له ﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ۚ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا ۗ وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ﴾ ، فالإجازة هي تحليل من الأجر للمستأجر منفعة وتحليل من المستأجر للأجير مالاً، فهي عقد على المنفعة بعوض، فإذا رضي العامل مضطراً بأجر دون ما يستحقه وجب أن يدفع له رب العمل ما أستحقه ولا عبرة برضاه من الأجر المنخفض، قال النبي الاكرم محمد (صلى الله عليه وآله):" ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِه أَجْرَهُ  " ، وحذرت الشريعة الاسلامية من ان ترافق أجر العامل مّنة، فالأجر عنده حق وليس مّنة فيه ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾، وقال النبي الاكرم (صلى الله عليه وآله):" أَعْطُوا الْأَجِيرَ أَجْرَهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ".

    ومن هنا يتبين أن الاسلام يحمي العامل من العدوان عليه في ماله، وأن أجره المستحق أصبح ملكاً له تجب حمايته ﴿أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى﴾ ويذهب الاسلام أيضا الى أبعد من ذلك، فأنه لا يحمل الناس أكثر من طاقاتهم ﴿ا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾، وأن أعطاء الاجر على العمل الاضافي يعتبر أمانة بلا ريب، وعلى هذا فأن الشرّع حين أباح استخدام العامل أحتاط في تحديد عمله مدةً ونوعاً واجرةً وجهداً، وأن هذا الاجر الذي يأخذه الاجير قد جاء عوضا عن  قيامهِ بالعمل الاضافي، وهو ملك له بالجهد الذي بذله لقاء ذلك.

   وأضافة لما تقدم فأن الاسلام يمنح العامل حق تأمين نفقاته العائلية عند العجز والشيخوخة والمرض، وهذا تقدير لحق العامل في كفاءته كما ضمن له حق حماية أسرته ، ومنحه حقاً من الراحة حين قال الامام السجاد (عليه السلام) :"  أَمّا حَقّ بَطْنِكَ فَأَنْ لَا تَجْعَلَهُ وِعَاءً لِقَلِيلٍ مِنَ الْحَرَامِ وَ لَا لِكَثِيرٍ وَ أَنْ تَقْتَصِدَ لَهُ فِي الْحَلَالِ وَ لَا تُخْرِجَهُ مِنْ حَدّ التّقْوِيَةِ إِلَى حَدّ التّهْوِينِ وَ ذَهَابِ الْمُرُوّةِ وَ ضَبْطُهُ إِذَا هَمّ بِالْجُوعِ وَ الظمأ فَإِنّ الشّبَعَ الْمُنْتَهِيَ بِصَاحِبِهِ إِلَى التّخَمِ مَكْسَلَةٌ وَ مَثْبَطَةٌ وَ مَقْطَعَةٌ عَنْ كُلّ بِرٍّ وَ كَرَمٍ وَ إِنّ الرّيّ الْمُنْتَهِيَ بِصَاحِبِهِ إِلَى السّكْرِ مَسْخَفَةٌ وَ مَجْهَلَةٌ وَ مَذْهَبَةٌ لِلْمُرُوّةِ" .

جعفر رمضان

المرفقات