لم يعرف الفنان المسلم من خلال ابداعاته الفنية المختلفة- وبالخصوص في مجال الزخرفة الاسلامية - التفرقة بين الفنون الجمالية و التطبيقية بصورة عامة، فقد كانت كل الفنون الاسلامية تراد لمنفعة الحضارة الإسلامية مثلما تراد لتحقيق غايات جمالية تساعد على تحقيق متعة الانسان في مختلف مفاصل حياته، حيث دخلت الزخارف في مجالات الفنون الاسلامية المتعددة.. وأصبحت تمثل أصولاً جوهرية يعد الأثر الفني بدونها مفتقرا للتكامل، اذ نجد أن حضوراً واضحاً للوحدات الزخرفية قد سجلّه الفنان المسلم في نتاجاتهِ الفنية التي حملت طابع التعبير عن الواقع الاجتماعي ، وذلك بالرغم من تضارب الآراء حول مسألة التحريم.. فلم يمنع الفنان المصور من مزاولة التصوير على الورق والمنسوجات والسجاد والخشب والزجاج والتحف والحلي العاجية، فلم ينتج عنها تخلف التصوير في الحضارة الإسلامية أو سقوطه في الهامشية ، كما يُظن عادةً بل على العكس مما ساعد على إيجاد فن إسلامي بالغ الخصوصية ، قائم بذاتهِ ، لا يتعارض مع مسألة النهي عن التصوير او الوقوع في ظلمة المحظور.
ولو تأملنا التصوير الإسلامي مهما كان نوعه ، ومن أي عصر كان لتبين لنا أن هذا الفن لم يعتمد في تأليفه على أي عنصر من عناصر المنظور الخطي، فلا وجود لخط أفق معين ولا تحديدا لزاوية رؤية معينة، بل أن كل عنصر من عناصر صورة ما.. يقع على خط أفق خاص اعتمده الفنان، وان ما اعتمد عليه الفنان المسلم في فنه هو المنظور الروحي، وهو قائم على مبادئ روحية متصاعدة.. يلقى الضوء من خلاله على جماليات فنية إسلامية كانت مجال الشك والاستغراب، بسبب عدم فهم قوانينها الفنية المعتمدة على التسطيح او غياب البعد الثالث في اللوحة وعدم ترك فراغ فيها، بعيدا عن خضوع الظل الى مصدر ضوئي واحد، والتي تعبر بمجملها كما اكدت اغلب الدراسات في هذا المجال عن توق الإنسان إلى الخالق المصور جل شأنه، وهذا ما نلمسه في اسلوب ( يحيى بن محمود الواسطي ) وطريقته في رسم المنمنمات التي كانت ولا زالت تمثل أبرز روائع التصوير الإسلامي، فهي تعد بمثابة وثائق مهمة تكشف طبيعة عصر وملامح الحياة التي عاشها الواسطي، من خلال اهتمامه بتصوير وقائع حية من الحياة العامة للمجتمع الاسلامي، فضلا عن رسمه للعمائر الاسلامية والعامة كالمساجد والمدارس والقصور، ورسم الأشخاص واساليب معيشتهم مميزاً بين اعمارهم واجناسهم وهيئاتهم، و رأى ايضا في مناظر الطبيعة اضافة الى ما تقدم وسيلة تمكّنه من عرض نماذج زخرفية كادت ان تصرفه عن الواقع، فبرع في رسمها بأشكالها الهندسية و النباتية والحيوانية والكتابية ودمج فيما بينها بروح فنية اسلامية عالية .
وهنا يتبين ان النزعة الزخرفية كانت تسهم إلى حدٍ كبير في المزج بين التجريد والتعبير عن ملامح معينة، قد تمثّل أشخاصاً أو حيوانات أو نباتات، وذلك لأن فن الزخرفة الاسلامية يعد تمثيلاً حقيقياً للجوهر أو ما إعتاد منظرو وفاحصوا الفن الإسلامي على تسميته باللامرئي ، وهذا ما انتهت إليه نماذج التصوير الإسلامي الذي يتسم بالتكثيف الشكلي من خلال هيمنة الطابع الزخرفي على مساحات المنجز الفني ، اذ ان عدم ترك فراغ في اللوحة هو في الاساس سمة تعبيرية يعالج من خلالها الفنان طبيعة بنائية جديدة، اعتمد فيها تكرار الوحدات الزخرفية في مساحة المنجز الفني، أو عمد الى دمج تلك الوحدات مع الأشكال التصويرية الأُخرى، بغية إشغال المساحة التصويرية للوحة وهذا ما يتضح في رسومات الواسطي التي تعج بتوظيفات الزخرفة الإسلامية نتيجة البحث عن فرضيات جمالية جديدة ، وهي بحق تواكب عملية التعبير عن الجوهر، فالإيحاء الزخرفي عند الواسطي وغيره من مبدعي الفنون الاسلامية هو ترسيخ لفكرة الانتقال من التناول الشكلي للمحسوسات إلى حالة مثالية أخرى .
ومن جانب آخر فقد امتدت الفنون الزخرفية إلى ميدان الخط العربي بشكل ملحوظ و أصبح هناك ارتباط كبير بينهما، وخصوصاً مع الخط الكوفي الذي كان بسيطاً في بادئ الأمر ولا توريق فيه ولا تعقيد، ثم بدأت رؤوس الحروف الطولية تأخذ اشكالا مدببة وتطورت بعد ذلك لتكون على شكل زخارف نباتية، واستمرت عملية الإبداع في استغلال الحرف العربي لأغراض زخرفية حتى صارت بعض الحروف والكتابات شبيهة برسوم آدمية في وضعيات معينة بحيث تظهر للمشاهد وكأنها بعيدة من احتمال أن تكون كتابات لما تحمله من طابع زخرفي ، وامتدت هذه الصيغ الفنية لتشمل فنون الكتابة حتى أخذت أساليب الزخرفة تبرز أيضاً بصورة واضحة و دقيقة ، ولاسيما في تزيين وتذهيب المصاحف الشريفة، فأصبحت فواتح المصاحف تزخرف بأشكال هندسية ونباتية ملونة و مذهبة تحيط بالكتابة ، وتملأ جميع الفراغات الموجودة في حواشي الصفحات، وكانت البداية مُنصّبة على زخرفة وتذهيب القرآن الكريم ثم شمل ذلك أغلب الكتب الأدبية والعلمية ، وغالباً ما كانت هذه الزخارف ليس لها صلة بالموضوع وإنما كانت لأغراض جمالية تزيينية فحسب، وامتدت تلك الابداعات لتشمل منافذ فنية وجمالية اخرى ابدع الفنان بتنفيذ الزخارف المختلفة على سطوحها مثلما فعل في انتاج وتزيين الاواني الخزفية والألواح الخشبية المستخدمة في صناعة الأبواب والشبابيك بأسلوب الحفر على الخشب والذي أتخذ مكانة خاصة في الفن الإسلامي ، وامتدت أيضاً إلى تزيين الصناعات الجلدية والنسيجية والتحف المعدنية والى مواد وخامات أخرى كالزجاج والبلور والعاج والتي عبّرت بمجملها عن خيال إبداعي خصب لا نظير له .
ولا يمكن التغاضي عن ان الزخارف الاسلامية بأنواعها قد شغلت مساحات ضخمة وواسعة في فن العمارة الإسلامية عبر العصور التاريخية ، فقد ظهر ميل واضح نحو الفنون الزخرفية منذ أن بنيت المساجد، حيث أخذ الفن المعماري الإسلامي عموماً وفن الزخرفة الإسلامية خصوصاً طريقهما نحو النمو والازدهار ، فحين تطلبت العقيدة بيوتاً لممارسة العبادة، سرعان ما أصبحت تلك البيوت مجالاً للتفنن والإبداع، إذ أخذ الفنان المسلم ينشر زخارفه النباتية والهندسية والكتابية داخل تلك الأبنية وخارجها لتزيينها من جانب ، و ليعمل على تشتيت البناء وتخفيف ثقلهِ من جانب اخر، لينفتح على وسط آخر أقل مادية وأكثر شفافية وهو ما يرتبط بالخالق المصور جل وعلا، فالتزيين الديني في الإسلام يعبر عن روحانية مؤكدة ، فهو يربط السكون باللانهائية، ويشّكل حلقة وصل بين العالم المادي والعالم المطلق ، من خلال النماذج التزيينية المنسجمة ، والألوان البراقة المشرقة والتي تُظهر تقنية متقدمة للتعبير عن الكمال المركزي ووسيلة للوصول إلى الجمال الالهي السامي، لذا فقد تفنن المسلمون في بناء وتزيين عمائرهم الدينية والمدنية .. واصبحت ذات أشكال متجددة، وزينت بأنواع متعددة من الزخارف التي ظهرت على جدران الأبنية والنوافذ وبعض العناصر المعمارية كوسيلة من وسائل التحلية في العمارة الإسلامية وهي تنطق بروح العقيدة الاسلامية.
سامر قحطان القيسي
الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة
اترك تعليق