تصرف الفنان المسلم بجرأة خبرته الفنية وانامله الفريدة بإشارة من ذاته وسطوة عقيدته الدينية، فكانت الوحدات الزخرفية تنحدر من قمم الفكر الثابتة لكي تظفر بالجوهر، مبتدئة بمظاهر الدنيا عن طريق ولوج الفنان في عالم التجريد وسبر اغواره للوصول الى المطلق المتمثل بالرحاب الالهية اللامتناهية.. فالمطلق هو منطلق الفن الاسلامي ومبتغاه لذا حاول الفنان المسلم ان يوقظ المادة من سباتها متخذا اياها قاعدة للانطلاق في بحثه عن رائده ومبدعه الاوحد (الله) جل ذكره.
لقد كره الفنان من خلال اسلوبه الاسلامي ان يجعل المادة هي الهدف الاسمى لفنه، فالمتلقي لفن الزخرفة الاسلامية على سبيل المثال يستطيع ان يميز ذلك في تعبير النظم الزخرفية عن الاول والاخر، وهذا وان دل على شيء فهو يدل على ان الفنان المسلم في توليفاته الابداعية يبحث عن لا نهاية الملاذ الاجل، ولذلك لمح ببهاء زخارفه الاسلامية على مر العصور ولا تزال اثاره الشاخصة تلقى ما يماثلها في الساحة الفنية وحتى يومنا الحاضر، فالفنان المسلم حين قدم وجهة نظره عن مفهوم الاول والاخر، كان ذلك متلائما مع الضمير الجمالي الاسلامي، فالفنان المسلم الذي اختار الدخول الى المعنى الاعمق المتمثل بعالم التجريد، انما اختار ذلك لتأكيد ذلك المفهوم عن الواحد الاحد الفرد الصمد، محققا مبدا ان يكون فنا روحيا يسعى الى الارتقاء بالإنسان عبر معراج روحي نحو المطلق والى دفع المتامل الى التأمل الدائم بعظمة الحق المبدع الكامل ومقدرته.. وجعله تواقا الى رؤية الجمال الالهي المطلق، اذ ادرك الفنان المسلم ان الله كرم الانسان وفضله على بقيه المخلوقات كما جاء في قوله : (( ما اصابك من حسنه فمن الله )) وقوله تعالى (( ولقد كرمنا بني ادم وحملناهم في البر والبحر )) وقوله عز وجل (( فاما الانسان اذا ما ابتلاه ربه فاكرمه ))، فالإنسان لم يكرم بقوته بل بقوة خالقه، فخلق الانسان ضعيفا وعليه ان يجاهد في الله حق جهاده، ويكافح هوى النفس وملذاتها.. ليبدا بالعروج الروحي الذي يمده بقوة خالقه، وبذلك تجاوز الفنان حدود الاشكال الملموسة الى الاشكال المجردة التي تدرك بنور البصيرة لا البصر، وبهذا تحرر الفن الزخرفي الاسلامي من نطاق الرمزية ليكون اكثر شمولية وعمومية وامتلك عن طريق ذلك خصوصيته وسر نجاحه الكامن في تمثله سر القران الكريم وسر الاعجاز الالهي .
لقد صاغ الفنان المسلم وحدانية عقيدته انطلاقاً من مبدأ وحدانية الله ومرجع كل الكائنات اليه سبحانه وتعالى والمتمثلة بقول لا اله الا الله، وقد شغلت مسألة الفضاء والسعي الدائم للبحث عن حلول ناجعة له تفكير الفنان ايضا، فاذا كان الفن عامة يسكن عالم الخيال.. فأن الزخرفة تبقى اكثر قربا وانجذابا نحو الفكر لما تتصف به من امكانية التفاعل مع الفكر الانساني وتحقيق الجمال ، وقد اوجد الفنان المسلم حلولا مثالية لمسألة الفضاء من خلال تبنيه مناهج مختلفة في اخراج تحفه الفنية الروحية، ومنها منهج الامتلاء في الزخرفة الذي طبع بدوره التكوينات الزخرفية بطابع جمالي يمتلك خصوصية وتفرداً عن فنون الحضارات الاخرى السابقة واللاحقة له، اذ تعكس التجريدات الاسلامية مرحلة ناضجة من مراحل تطور الزخرفة الاسلامية التي تمثل الدرجة القصوى في مجال التصميم و التنفيذ في هذا النوع من الزخارف.. التي اعتمدت على عناصر ومفردات محددة وظفت فنيا و جماليا بصيغ تؤشر قدرا كبيرا من الحساسية الفنية و الرفاهة وانسجام عناصرها المختلفة وتوافقها، حيث عمد المزخرف المسلم الى مراعاة عدم اهمال اية مساحات يراد اشغالها زخرفيا، وفي ذلك احتار الجماليون في معرفة الهدف الذي دفع المزخرف المسلم الى ملء الفضاءات الموجودة في العمل الفني، الى حد كادت تختفي فيه ارضية وفضاء العمل الفني.
ويرى بعض الدارسين في هذا المجال الفني الرحب ان المزخرف المسلم اراد تجسيد مبادئ الدين الحنيف من خلال زخرفته، انطلاقا من مبدأ ان على المؤمن ان يتوجه بكيانه الى الله، فالله مصدر جذبه وغاية سعيه في ان واحد ( ولله المشرق والمغرب ، فأينما تولوا فثم وجه الله) والله عز وجل قائم بنفسه في تنزيه مطلق يفوق المدى الملموس والمحسوس، ومن هنا جاءت معالجه الفنان المسلم للفضاء الفني المشغول بعوالم لا حصر لها، وهي كلها اثار من الخالق عز وجل تدل على انه المدبر وان له وجوداً في كل وجود ، والتي حاول الفنان المسلم ان يظهرها من خلال تجريداته، اعتمادا على ان الله جل جلاله هو مصدر الاشياء وعليه لم يعر الفنان المسلم اهمية لأي جزء من اجزاء زخارفه لتلافي فرض سيادته على الاجزاء الاخرى.. ودأب الى البحث عن فكرة ان الكون تحكمه قوة لا متناهية ابديه لا تفنى ولا تزول( ويبقى وجه ربك ذو الجلال والاكرام) وبالتالي تجسيدها في ابداعاته الزخرفة الخلابة.
لذلك نجد هذا المبدأ قد تجلى في الفنون الزخرفية الإسلامية، فالمنظومة الزخرفية بوحداتها وعناصرها تتصل بانسجام لكي تقود المتلقي بما تتمتع به من صفة الامتلاء الى المطلق بالكون غير المحدود، لتفترش الوحدات والعناصر الزخرفية اغلب مساحة المنظومة الزخرفية لتوحي للمتلقي بأن لا موجود سوى الله سبحانه .
ونستطيع ان نستشف مما تقدم بان الفن الاسلامي قائم على نظام معين التشفير، والشفرة ما هي ال الخصوصية التعبيرية لما يبثه الفنان الى المتلقي، ولابد من ان تكون متعارفة بين العمل الفني والمتلقي وهذا ما تحقق في الفنون الاسلامية ، كونها قائمة على فكر التوحيد الذي يجمع كل المسلمين .. وللشفرة خاصيه ابداعيه فريدة، فهي قابله للتجدد والتغير والتحول، وان تحرك الشفرة بشكل معين يسهم اسهاما فاعلا في بناء السياق الداخلي ونموه وازدهاره وهي قابلة للتغيير من جيل لأخر مع التوالد والتطور المستمرين لسياقاتها ، وهذا ما حدث في الفن الاسلامي، اذ اوجد لنفسه سياقا جديدا من الشفرات ليصبح بالمحصلة سياقا متبعا في اغلب انواعه ومفاصله، وصولاً الى الثبات هويته الخاصة بواسطة شفراته وترميزاته التي اصبحت هي اللغة الناطقة باسمه، والتي من الممكن ان نشخص ونلخص بعضاً منها كونها تمثل شفرات كامنة تنطق بها زخارفنا الاسلامية الرائعة.. ونذكر منها :
1. التكرار :
يؤكد تكرار العناصر الزخرفية سمة الثراء الحقيقي الكامن بالاهتمام بالجوهر والمضمون والذي نجده في الفن الاسلامي ( انما الغنى غنى النفس)، فعلى الرغم من خطورة التكرار في العمل الفني بشكل عام.. فاننا نجد ان الفن الاسلامي قد اقدم عليه بشجاعة وثقه ودراية، دون ان يرتبط ذلك بالرتابة والملل ، وذلك نتيجة لطريقه واسلوب توظيفه، فهو ليس تكرارا ميكانيكيا لما يحمله من معاني التأكيد على الحب والايمان، بل هو التجسيد المثالي لفكرة العود الابدي، ولا ننسى ان التكرار اصيل ومتجدد في الدين الاسلامي بحد ذاته ففي القران الكريم تتكرر الكثير من المعاني والآيات في مواضع مختلفة واحيانا في الموضع نفسه.
2.الامتداد اللامتناهي:
المتلقي للزخرفة الإسلامية يجد هذه الشفرة متحققة كثيرا في معظم التجريدات الإسلامية فهي تتحقق على سبيل المثال في الايقاع المستمر للوحدات الزخرفية، وما من شك ان بحث الفنان المسلم الفكري والروحي في الامتداد اللانهائي في الزخرفة الإسلامية ما هو ال دلالة حركة الكون اللامتناهية ودلالة المعنى الروحي للعروج الايماني للفرد المسلم للسمو بالنفس و الدنو من ( المطلق ) ( ثم دنا فتدلى ، فكان قاب قوسين او ادنى)، فالامتداد اللامتناهي في التجريدات الزخرفية يكاد بحركته ان يجعل الناظر يتلمس لا نهائية البعد، والذي بدوره يظهر بمسافات مختلفة وابعاد متباينة لتظهر الصلة الوثقى بين المرء المؤمن وخالقه لتي تنتفي مع وجودها قيم الزمان والمكان بانتفاء الاشياء من عوالقها المادية للسمو و الرفعة.
3.الوحدة والتنوع :
وهنا نجد ان الفن الاسلامي قد انتهى الى اختيار ما يناسبه من اشكال الفن، لأن تأثير التراكمات الفكرية، انما كان قد رتب بصوره انتقائية تبدأ بعدها رحلة البحث والاستقصاء عن الاشكال التي خضعت في الغالب الى عمليات تركيبيه، وهي المرحلة الاولى لمراحل متعاقبة من بعدها، وهكذا يبدو الامر كما لو كان يسير ضمن تعاقب زمني ينسجم مع ابقاء الفكر الاسلامي و يتسق مع متطلبات المجتمع الاسلامي،
وهكذا بدأت الزخرف الإسلامية طريق التعبير عن عالمين زمنيين يختلف كل منهما عن الاخر، احدهما هو العالم الحسي والاخرعالمها المتصور .
4. المنظور المطلق :
لقد عد الفن الاسلامي لاسيما التجريد الزخرفي ، عتبه على الطريق لمعرفة المطلق وهكذا جسد مقولات الفكر الاسلامي والتي تنظر الى الموجودات من وجهة نظر الوحدة المطلقة ، ويظهر في فكرة ان الوجود كله صوره واحده محيطه بظاهره وباطنه، وان باطن تلك الصورة محيط بظاهرها وظاهرها مواز لباطنها، وان تلك الصورة المحيطة بالكل مشتملة على كل صورة ومحتوية عليها ، ولا تشذ عنها صورة من صور الوجود ، لا ظاهرها ولا باطنها ، فالوجود كله مشحون بصور، بعضها في جوف بعض وجوار بعض ومتباينة عن بعض، وبعضها يكون محتويا على صورة او اكثر ،فضلاً عن المجاورة والتباعد، وهنا نجد ان الفنان المسلم قد استخد منظورا معينا في اخراج ابداعاته الفنية اطلق عليه تسمية المنظور المطلق، الذي عده شفرة في فنه تأخذ بألباب المتأملين نحو الخالق جل ذكره، لتجسيد مضامين معينة، فالمتلقي لا يستطيع ان يتبين البعد الثالث في الاعمال الفنية الإسلامية، ولكن الفنان المسلم قد وفق في التعبير عن قواعد المنظور الشمسي او الكوني المطلق من خلال اعتماده هذا المنظور، فحينما نتأمل تصميماً زخرفياً اسلامياً نجد ان الفنان المسلم يصور الوحدات الزخرفية وكأنها مرئيه من ابعد النقاط، اذ ينعدم تلاقي الأشعة البصرية في نقطة ما اثر محاولته ملء الفضاء بأكمله .
5. التسطيح :
لو تأملنا الفكر الاسلامي ، نجده يلغي مفهومي الزمان والمكان، ثم يأتي ليعطيها ابعادا مفاهيمية جديده تأتي متلائمة مع البعد الروحي للمفهومين، حيث انتهج الفنان المسلم اساليب مميزة لتحقيق مبدا التسطيح، فلم يأخذ الاشكال المجسمة كالكرة والمكعب والهرم ، بل انتقى الصيغ الهندسية المجردة، وهي الدائرة والمربع والمثلث، وهي المسطحات الأساسية في الوجودواكتفى بطبيعتها المسطحة .
6. تعدد البؤر ونقاط الرؤيا:
وهنا نجد ان الفنان المسلم قد اهتم في تجريداته الزخرفية بعدم مضاهاة الله في خلقه ومن هنا ابتعد عن المنظور ذي البعد الثالث والتعبير عنه ، لأنه يعني وعاء المضمون الروحي للأشياء، هذا المضمون المرتبط بمقدرة الله تعالى الذي ينفخ الروح في الاشياء دون مقدرة الانسان على ذلك، وفي ذلك قول الله جل شأنه ( ونفخت فيه من روحي ) ، وقد استعاض الفنان المسلم عن المنظور ذي البعد الثالث بالمنظور الروحي ، فكل الكائنات والكون من صنع وخلق الله سبحانه، وان ديمومة كل شيء مرتبطة بمشيئة الله، وهذه الديمومة المحدودة ليست ثابتة، ولهذا فان كل شيء قابل للتحول بمشيئة الله ، وعلى هذا فليس من شي او شكل او وجه ثابت، فكل شيء زائل وفاني الا وجه الله.
7.شفرة الالوان :
اما اللون فيعد بلا شك شيء مهم في كل فن لاسيما في الفن الاسلامي عموما وفي الفن الزخرفي الاسلامي خصوصا ، وينجذب المتأمل هنا في البلاط المزجج الاسلامي لشيء ربما يعد عند البعض اساسياً في ذلك البلاط وهو اللون الفيروزي، فالمتأمل هنا لا يجد نفسه الا وقد توشح بشذرات روحيه وجمالية تلامس ذاته، فالفنان المسلم استطاع ان يتأقلم مع عمله الفني ومتأمليه بشكل لافت للنظر مما جعل المتلقي المتأمل لأعماله الفنية يتجاوز الرؤية البصرية والحسية وهو متجه نحو الاعماق والماورائيات، حتى يصبح البناء مجالا للتجلي السمعي والبصري والحدسي، وما وجود اللون الفيروزي فيها والمقترب من لون السماء.. الا لإحالة المتأمل للشعور بالأبدية الإلهية بواسطة الانجذاب نحو المطلق ، ولعل افضل التعابير الفنية الاسلامية اللونية هو استخدام الفنان المسلم لسطوح مربعات الخزف الفيروزي( القاشاني المرصوف)، فبه تنتقل عين المتأمل من مربع الى نظيره المرصوف بمحيطه برهافه وتباين، مع الاحساس الناتج عن تغيرات قيمة اللون وزاوية اشعة الشمس، هذا الانتقال الافقي او العمودي ذو الاتجاه الواحد الذي يناظر نظام لحني عربي معين يعتمد على التقاسيم الموسيقية التي تستدعي معنى قراءة الفرد المسلم لأسماء الله الحسنى وتنويعاتها مما يظهر حقيقة مهمة مفادها، ان عين البصر تخطئ دوماً لذا فعلى الفنان المسلم ان يترصد حقيقة اعمق عن طريق عين البصيرة النورانية المرتبطة بأصل الوجود وهو الله الخالق المصور جل شأنه.
وعلى هذا نستطيع القول بان حقيقة الفنان المسلم وفنه النبيل تظهر للمشاهد المتأمل من خلال عمق شفراته المصاغة في عناصر تكوينه الفني، وان العلامة التصميمية في الاعمال الزخرفية الاسلامية تأخذ ابعادها التواصلية بوصفها رسالة مشفره ذات قصد معين يظهر للمشاهد من خلال طاقتها التعبيرية كرمز باث او ايقونة روحية تنطق بالتوحيد وقول لا الله الا الله.
اعداد : سامر قحطان القيسي
الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة
اترك تعليق