التقنيات الفنية وادوارها الجمالية في فن الخزف..

تؤدي تقنية صناعة الاشياء دوراً مهماً في تحقيق مختلف الإنجازات الابداعية، وتختلف التقنيات باختلاف التخصصات والاتجاهات الفكرية والوسائط المادية التي يمتلكها البشر كما تختلف التقنيات أيضاً تبعاً إلى ظهور النتائج في المنجز او التكوين النهائي.. انطلاقاً من كون التقنية في تطبيقاتها الأولية ما هي الا تجارب تخضع للنجاح او الإخفاق تحت عوامل مهارية وقصدية، وجميعها تحدد مدى الانتفاع الذي تحققه التقنية من خلال ظهور الإنجاز النهائي، فالتقنية هي المهارات والعمليات المستنبطة والمكتسبة التي تنتقل عن طريق الثقافة من مكان لأخر ومن جيل الى اخر ايضا.

ومن هذا المنطلق سعى الإنسان دائماً وفق طبيعته الفطرية الاستكشافية للبحث عن كل ما هو جديد من التقنيات التي عدت الرافد الرئيس في تحقيق المنجزات، وبدورها امنت له اشباع المزيد من الحاجات ليثبت اقدامه بشكل مستقر في الحياة، فلم تشبع غريزة الإنسان في حب البحث من اجل البقاء بل امتدت الى التواصل في ترويض الحياة ومعطياتها بفعل آلية الفكر التي من الله بها على بني البشر التي عملت بشكل تدريجي لتسخير المحيط المادي لخدمته بغية تحقيق المزيد من المنجزات التي جعلته أكثر ثباتاً واستقراراً ضمن مجتمعه.

ان صناعة الفخار من الصناعات التي جاءت متزامنة مع بدء ثبات الانسان في القرى الزراعية الأولى، إذ أصبحت من الإنجازات المكملة للإنتاج الزراعي على الرغم من بساطة تقنيات صناعة الأواني الفخارية الاولى من حيث اختيار المواد وتقنيات التشكيل والطلاء والحرق، وهذه السمة البدائية في التقنيات الفنية الوظيفية للأدوار الأولى من صناعة الفخار بدأت تتطور مع تزايد الحاجات اللازمة لهذه الصناعة بدأ من استخدام الاواني الفخارية في حفظ السوائل وصولا الى الحاجة الجمالية المنضوية تحت غطاء الأشكال التصويرية ذات المضامين الدينية والتي تنتشر على السطوح الفخارية، حيث ان هذا الطابع الفني الجمالي تطلب تطوير واستحداث تقنيات جديدة ترتقي بصناعة الفخار الذي اصبح منذ ذلك الوقت وحتى وقتنا الحاضر من الفنون التقنية المهارية .

 لذلك لا يمكن مطلقاً فصل التقنية عن أي منجز فني منذ نشأة الفن بأشكاله البسيطة ولحد الان، حتى ان التقنيات البدائية في صناعة الفخار في أول الأمر بصيغته النفعية أصبحت ملازمة له فيما بعد، اذ لم يتخل عنها فنان الفخار في الأدوار اللاحقة لان التقنية هي عملية استنباط واكتساب مع إضافة المعارف الجديدة للخروج بمنجزات فخارية فنية، إذ تم تطبيق بعض العمليات التقنية على تحضير الطينة التي لم تعد تخدم الأشكال الفخارية الجديدة ذات الطابع الجمالي مع الاستمرار في تطبيق تقنية التشكيل باليد ومن ثم اكتشاف الدولاب الفخاري إلى جانبه، وصولا لتطبيق تقنيات طلاء السطح الخارجي بالرائب الطيني وتقنيات الحرق التي تطورت بمرور الوقت، فقد أصبحت طرق صناعة الفخار نظاماً تقنياً ثابتاً قابلاً للاكتشاف والإضافة لإنتاج مختلف المنجزات الخزفية على مر العصور وحتى الوقت الحاضر.

ولو اطلعنا على فن الخزف المعاصر عن كثب لوجدنا انه يمتاز عن سابقيه بتجاوزه للأشكال التقليدية في بنيته الفنية والتحول إلى مداخل جديدة متطورة ومبتكرة جاءت نتيجة لاستحداث تقنيات مختلفة أثرت وبشكل واضح في المنجز الخزفي  ودفعت بالمادة إلى صياغات جمالية جديدة، فكان لها بعداً فكرياً ورمزياً وتعبيرياً بفعل الدور الكبير الذي تؤديه التقنيات في إظهار واستنطاق المديات الجمالية والتعبيرية للمادة، إذ ترتبط عملية الإنجاز في المنجز التشكيلي بالقصدية الواعية، فطرائق التشكيل وأساليب التكوين ينبغي ان ترتبط بقصدية الفنان في أحداث تحول في ملمس أو لون أو شكل المنجز التشكيلي،  كما ان قصدية الفنان في استخدام التقنية الفنية ينبغي ان تنشأ على أساس الخبرة الجمالية، فبدونها سيؤدي الفعل التقني إلى نتائج عبثية، فاكتشاف التقنية او اكتسابها وتطبيقها يجب ان يقترن بالخبرة بنتائج الفعل التقني وان ذلك لن يأتي إلا بالممارسة والمعرفة المسبقة لطبيعة التقنية المستخدمة، اذ ان قصدية الفنان في استخدام تقنية معينة وتوقع نتيجة معينة لا ينشأ الا بعد خبرة ودربة يدوية مركزة، فالتقنيات الفنية المؤسسة للقيم الشكلية في اغلب الفنون التشكيلية وبالخصوص في فن الخزف تتوقف بشكل كبير على المهارة اليدوية للفنان، اذ لا يمكن له ان يقطع شوطاً كبيراً من الممارسة القصدية من دون الاعتماد على المهارة اليدوية.

وقد اتجه الفكر المعاصر إلى آلية استقبال المنجز التشكيلي بعناصره الأخرى للتقنية لكونها من العناصر التقويمية للمنجز التشكيلي، وعند الاستقصاء عن عناصر المنجز التشكيلي لم تتحدد هويتها بشكل واضح من دون التعريف بالتقنية الفنية المستخدمة، فالتقنيات هي المحور الاساسي  الذي يخرج بالشكل والمادة والمضمون إلى الوجود، فمن خلال التقنية تأخذ هذه العناصر شكلها النهائي في الإفصاح عن لغة المنجز التشكيلي، فالتقنية تعد من مقومات العمل وليست إضافة لاحقة، فعند استنطاق اي منجز تشكيلي يرد لنا بأحاسيس المادة وفق خصوصيتها الكبيرة وبإيماءات الشكل عبر لغة المضمون التي تستدعي ذائقية المتلقي، فالمادة كبيرة بقيمتها التعبيرية و لا يمكن حصر إمكانية ظهورها في إطار معين وتحت أساليب معينة، وذلك لأنها غير محدودة في عطائها من خلال اختلاف طبيعتها وأشكالها وألوانها وملامسها فجمال المادة هو الأساس الذي يقوم عليه الجمال الأسمى، ومن المسلمات ان المادة وكيفما يكون شكلها او لونها وملمسها لن تخرج من حيزها المادي قبل ان ينتقيها الفكر الابداعي الواعي بقصدية بعد ان امتدت إليها اليد الفنية الماهرة لتكتسب الخبرة بطبيعتها ويتم ذلك عبر الأساليب والطرق التقنية الملائمة لكل مادة.

وهذا ما نلاحظه في التكوينات الخزفية المعاصرة التي لم يقتصر فيها اظهار الشكل على وضع مادة الطين بشكل معين كآنية او تحفة فنية ما، بل تعدى ذلك من خلال ظهوره بأشكال تصويرية على سطح المنجز الخزفي، وقد يتبع ذلك الفعل التقني لأجواء الحرق المختزل وتأثير في المادة في خلق نظم شكلية جديدة على سطوحه الصقيلة الملونة ، إذ تختلف جوانب إظهار الشكل واظهار نسبته الجمالية باختلاف طبيعة الشكل نفسه وطبيعة المادة وما يفرضه ذلك من التقنيات الفنية، إذ ان نجاح تنفيذ الشكل الخزفي لم يتوقف على صلاحية المادة وتنفيذ الفعل التقني فحسب، بل يجب اختيار الأسلوب التقني المناسب لتشكيل المنجز الخزفي، فلكل من الأشكال الخزفية الهندسية او المدورة وغيرها من الأشكال أساليبها الخاصة في التشكيل، فعلى سبيل المثال يميز أسلوب التشكيل على الدولاب الفخاري بتنفيذ الأعمال الاسطوانية والكروية، في حين تمتلك تقنية التشكيل باليد خصوصية كبيرة من خلال حرية الخزاف في تنفيذ المنجزات الخزفية على اختلاف اشكالها واحجامها، كما يتم تنفيذ الأشكال الخزفية المتماثلة بأسلوب الصب بالقوالب، كما ظهرت المنجزات الخزفية وهي تحمل طابعاً تصويرياً او حروفيا على السطح، اذ يظهر السطح الخزفي وهو يحمل الأشكال التجريدية والرمزية وبتطبيق مختلف تقنيات الطلاء والحفر، اضافة الى تطبيق تقنيات الحرق المختزل لتحقيق رؤية جمالية ولاسيما من خلال نظم أشكال وملامس والوان السطح الخزفي التي تخاطب ذائقية الفرد والمجتمعات المعاصرة.

.اللوحة من منجزات الفنان التشكيلي الراحل ( محمود طه ) وقد لقب ب( ساحر الصلصال ) لمسيرتة الإبداعية الحافلة بالإنجازات الخزفية والتشكيلية على المستويين العربي والعالمي.

سامر قحطان القيسي

الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة

المرفقات