بقي الجدل ومازال حتى اليوم قائماً حول نشأة وأصالة الفن الإسلامي في الجزيرة العربية بين مفكري ومؤرخي تاريخ الحضارات الإنسانية، وقد طرحت تساؤلات كثيرة حول نشأة الفن الإسلامي بما يثير الجدل في الأوساط الثقافية والفنية، فبعضهم لا يصنف كل ما أنتج في البلاد الإسلامية هو فن اسلامي محض، فقد يكون المنتج الفني من ممارسة افراد من غير المسلمين او ممن خضعت بلادهم للإسلام عبر الفتوحات الاسلامية، ويؤكد ذلك بعض مؤرخي الفن من خلال الاعمال الفنية المنجزة في القرون الأولى، حيث انها كانت تحمل بين طياتها الهوية البيزنطية من حيث جماليتها او قد تكون منجزة بأيادي يونانية او مسيحية سورية مثل الجداريات المنفذة بتقنية الفسيفساء التي زينت مساجد سوريا وقصورها في القرن الثامن الميلادي، ومن المحتمل ان تكون جمالية الرسم الإسلامي تكونت على يد فنانين مسيحيين او حديثي العهد بالإسلام من سوريا وبلاد ما بين النهرين او مصر ممن كانوا يرغبون بالالتزام بشريعة وقوانين الدولة الاسلامية، وخاصة ما يحرم تمثيل الكائنات الحية وذلك عند انجاز اعمال لحساب أشخاص مسلمين، فألواح الفسيفساء في قبة الصخرة بالقدس والمسجد الأموي بدمشق.. هي من انجاز فنانين بيزنطيين من القرنين السابع والثامن والتي تتميز بجماليات صرفة، كما في المصورة اعلاه والتي تمثل مزهرية مصممة بطريقة فسيفسائية تزين الجزء العلوي من الاعمدة الحاملة لقبة الصخرة في فلسطين وتشير الدلائل التاريخية انها انجزت خلال فترة الحكم الاموي وبالتحديد عام 691م – 72هـ .
تمثل المصورة عملاً فنياً مميزاً لمزهرية فسيفسائية مزينة بأشكال نباتية زينت احدى اعمدة قبة الصخرة من الداخل، وقد مثل الفنان المصمم هذه المزهرية وهي تحمل أوراق نبات الاكانتس، وقد أحيطت من الأسفل والجانبين بشريط زخرفي احتوى على اشكال تحاكي شكل الازهار، وقد وضعها الفنان بشكل متقابل ومختلف ما بين الزهرة المنحنية الخطوط والمستقيمة الخطوط ، ثم حاول ان يخلق نوعاً من التباين النوعي ما بين اللون الأزرق والذهبي ، فقد وضع لأرضية المزهرية اللون الذهبي ولأرضية الازهار في الشريط الزخرفي اللون الأزرق .
وهذا الشكل على الرغم من كونه يحتوي على اشكال بالإمكان احالتها الى الواقع لشدة مطابقتها له الا انه نفذ بطريقة مختزلة فهو بالتالي يحسب على الاشكال المجردة، وهذا ما تؤكده بنية الشكل الهندسي للآنية او المزهرية وبنية الاشكال الهندسية للشريط الزخرفي، يتكون الشريط الزخرفي من خطوط منحنية يحيطها تكوينات متباعدة لأوراق نباتية متقابلة تتوسطها ازهار هندسية تمركزت فيها بنية شكل هندسي غير منتظم يشبه المربع . ثم يلي هذا الشريط شريطاً آخر يتكون من خطوط بيضاء وزرقاء ، ثم بعد ذلك تأتي المساحة الذهبية لتشكل أرضية للآنية والتي وضع فيها نبات الاكانتس بشكل هندسي متقابل مزيناً اياه بأشكال هندسية توسطها شكل الهلال المقلوب بنقطتين متجاورتين ، ثم وضع على أوراق النبات اكليلاً يصعب تفسيره عدا انه يمثل غرضاً جمالياً .
ويشكل المنجز الفني اعلاه مزاوجة معمارية هندسية مع الغرض الوظيفي والجمالي اذ وضع هذا العمل على الزوايا الأربع التي تحمل القبة، وهذا يعني ان الفنان نفذ هذا العمل بطريقة مباشرة على الجدار المرتفع ، وهو على الرغم من شدة وضوح التماثل والتقابل الا انه بقي شكلا يفتقر الى التناظر الدقيق ، وربما كان هذا مقصوداً من قبل الفنان ليحقق مفهوم الدوران في الآنية ليحرك عين الناظر تجاه متقابلات تبدو متناظرة الا انها ليست كذلك ،ويمكننا تبرير ذلك في وجود الوحدات الزخرفية ذات العدد الفردي ، فمثلاً الاشكال الهندسية المربعة في هلال الاكليل العلوي نجدها تسعة ، وفي هلال الاكليل السفلي نجدها سبعة وكذلك بقية التفاصيل .
ان قداسة المكان الذي يمثل مسجداً تقام فيه الطقوس العبادية شكَل وازعاً لدى الفنان للابتعاد عن الاشكال التشخيصية، خاصة ونحن ندرك انها محط شبهة في الفكر الاسلامي، الا ان الفنان المسلم على الرغم من ذلك حاول اضفاء السمات الطبيعية في مشهده البصري بالإضافة الى اضفائه للسمات العقلية او الهندسية، فقد حاول ان يبين الاشكال الواقعية المرتبطة بنبات الاكانتس بالمستوى الذي حاول فيها ان يبين الاشكال الهندسية المرتبطة بالشريط الزخرفي الذي يحيط بها من الجانبين الأعلى والأسفل، ويبدو من خلال مشاهدة الشكل ان اوراق نبات الاكانتس تمتد الى الأعلى لتلتقي مع اعمال نفذت على الزوايا الاخرى في مركز القبة ، ولهذا فان مطابقة الواقع في هذا العمل على الرغم من كونها متخيلة الا انها مركبة بشكل جمالي ما بين المساحات الكلية والجزئية ، فهو من جهة يعقد صلة مع المظاهر الحسية ، ومن جهة اخرى يعقد صلة مع المفاهيم العقلية ، ومن هنا في هذا المشهد التصويري يزاوج بين المادي والروحي بين ما هو مشخص وما هو مجرد . ويبدو ان ثمة ترميز للأعداد الفردية بالإضافة الى ترميز شكل المزهرية مع أوراق نبات الاكانتس ، فالأعداد تبدأ من الأسفل بتكوين دائري وضع على قاعدة المزهرية وهو محاط بثلاث نقاط بيضاء ، ثم في وسط الآنية وضع الفنان ثلاث دوائر ثم في أعلى الآنية في هلال الاكليل الأسود وضع سبع دوائر، ثم في هلال الاكليل الأعلى وضع تسعة مربعات وكأننا نتدرج من الرقم 1 الى الرقم 3 ثم إلى الرقم 7 انتهاء بالرقم 9 ، غير اننا في هذا الترتيب لهذه الاعداد المفردة لا تبدو انها تشكل شفرة دلالية على الرغم من وجود الاشارات الكثيرة التي تؤكد ارتباط الأرقام الفردية بمفاهيم مجردة او سماوية بحسب منطلقات الفكر الإسلامي ، ويرى الباحث انه ربما أنجز العمل بطريقة عفوية غير مقصودة.
لقد حاول الفنان من خلال تباين المساحات وتفعيل الخطوط ان يقيم علاقات شكلية تفصل كل مفردة من مفردات هذا العمل عن الأخرى ، بمعنى انه كان يوظف الأرضيات لإبراز وحدات العمل، ويوظف الخطوط احياناً لتحقيق الغرض نفسه ، غير ان هذا الاشتغال للمساحات والخطوط لم يكن يحتوي على مضامين واقعية ترتبط بالسياسة او التاريخ او حتى الأسطورة، وانما نجد ان هذه المضامين ترتبط بشكل أو آخر بمفاهيم دينية نستطيع ايجاد مفاتيح لها في بنية شكل الهلال المقلوب مثلا او وفي بنية الأعداد الفردية التي اشير اليها، ليجعل من شكل المزهرية هو المهيمن على مجمل مساحة العمل الفني، لتبدو انها الموضوع الوحيد الذي احتل الحجم الاكبر منه، وهذا يعني بالإضافة للمضامين الدينية انه اختيار جمالي صرف لإيجاد معادل موضوعي ما بين جمالية المزهرية في الواقع وجمالية المزهرية في وجودها داخل العمل الذي لا يشكل الفضاء فيه اثراً مهما .. لشدة تجاوز مفردات العمل واستغلال الفنان لمساحته بشكل كامل، وهذا ما يبدو طبيعياً في الاعمال الهندسية التجريدية، كونها تمثل اداء فنياً يحاول من خلاله الفنان عدم ترك فضاءات بإشغال المساحة بالكامل، والفنان في هذا يحيلنا الى الفكر الفلسفي الإسلامي الذي ينفي وجود الفراغ لان الله تعالى قد ملأ كل شيء في الكون.
سامر قحطان القيسي
الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة
اترك تعليق