صراع الرؤى والصورة التخيلية في الفن التشكيلي المعاصر..

تعبر الصورة التخيلية في مجال الفنون عن نتاج الخيال الابداعي.. القادر على استنفار كينونة الاشياء وتحويل الفوضى الى انسجام، فالصورة التخيلية ماهي الا صياغة فكرية ما يجري بواسطتها تمثيل المعاني تمثيلا مبتكرا جديدا بما يجعلها معبرة امام المشاهد، وتلك الصياغة الفكرية المتميزة و المتفردة، هي عدول عن صيغ احالية من السياق الخارجي الى صيغ ايحائية تأخذ مدياتها التعبيرية المؤثرة في المتلقي حين تعرضه للصورة الفنية، وان ما تثيره هذه الصورة يتصل بكيفيات التعبير.. فالصورة تهدف الى تحويل الغير مرئي من المعني الى المحسوس وتحويل الغياب الشكلي الى نوع مميزمن الحضور.

لقد استأثرت الصورة الفنية - قبل أن تندرج مفاهيميا في ميدان الفكر الفلسفي والنظرية النقدية- باهتمام كثير من الفلاسفة من الغرب والشرق، فمنهم من ميزها بين الصورة المطلقة والنسبية أو بين الصورة المثالية والحسية أو بين الصورة التجريدية والواقعية حتى ان البعض منهم قد عد الشكل تفسير مرئي لفكرة سائدة، ومنهم من نادى بثنائية الصورة والماهية وان المرء لا يمكن ان يقوم بأي نشاط ذهني بدون مشاركة الصورة الذهنية، والبحث في هذه القضية أدى الى ظهور مبدأ الفاعلية الذي أصبح في القرون الوسطى موضوعا اشتغلت فيه وعليه الفلسفة، لتفضي بالمحصلة الى مزيد من البحث والاستقصاء في المستويات النظرية لموضوع الصورة و تجلياتها في الخطاب الفني.. ليزداد الاهتمام في هذا المجال ليشمل اغلب العلوم المحضة والمنطق وعلم الجمال وعلم النفس اضافة الى الفلسفة والفن التي انطلق منها.

 وفي مجال الدراسات النقدية الحديثة للصورة الفنية نجد مناهج متباينة ظلت تمثل سعيا حثيثاً ومحاولات جادة لتفسير الابداع.. طموحا وتطلعا الى احتوائه وتمييز ما هو ميسور على التحديد من ملامحه الفنية، حيث حاول نقد الفن الحديث منذ الربع الاول من القرن العشرين أن يوطد صلته بتركيبة الاشكال الفنية والنفاذ في نسيجها المتفرد، على نحو يطل منه على السمات الفنية التي منحت الابداع شكله الخاص من جانب، وكشفت عن المحتوى الفكري المتفاعل في البناء الفني بمنظومة من الصلات التي تحكم الصياغة المتكاملة للتجربة والنسق من جانب آخر، فقد أدرك عدد كبير من النقاد والباحثين ان وسيلتهم لتحقيق هذا الضرب من الدراسة الفنية المتكاملة هي الصورة التخيلية، إذ إنها تعد أداة لها طريقتها الخاصة في عرض المضامين، وهي مقترنة بأشكالها فيكتسب حينذاك العمل الفني مناخاً مفعماً بالتلاحم بين الشكل والمضمون بإطار موحد ينهض بسير المنجز الفني التخيلي وتحديده ويلفت الانتباه الى طبيعة المضمون في عرضه وأسلوبه، منسجماً مع سلسلة الاشكال المشيرة الى المعاني.. وغير منفصل عنها في أي حال من الاحوال، إذ تتبين الملامح المميزة لأسلوب الفنان الذي يتحقق فيه الاعتماد الكبير على انعكاسات الخبرة الفنية لديه، ويكون ذلك من خلال صياغة نظام التفكير القائم على وعي التجربة بأبعادها المختلفة وما يرصده من خبرات متميزة التي استقاها في الاصل من الحياة والمعرفة الثقافية المرتبطة بمرجعياته الفكرية والحضارية.

فالصورة هي التركيبة الفنية التي تحقق هذا التوازن بين المستوى الطموح والمنجز، وعليه وبعد ان تناولت الدراسات النقدية الحديثة موضوعة الصورة وما تمنحه من وسيلة جوهرية لتلمس التفرد وتحديد ما أمكن من مظاهره، تبوأت الصورة مكانة مهمة في مناهج النقد المختلفة ووضعها النقاد في مقدمة وسائلهم لدراسة جوهر الفن وما يتعلق به من  مؤثرات، وما كان هذا الامر ليكون لولا ان مفهوم الصورة نفسه قد تحول في القرن العشرين لتحول مفهوم الفن ذاته وارتباطها بهذا التحول على انها واسطته الرئيسية وجوهره الدائم الذي يحقق له التفرد، فكان البحث في الصورة يقترب في وجوه كثيرة من البحث في الفن  وخصوصيته الحداثوية فالصورة تمكّن الانسان من تحقيق أفكاره وتحويلها الى محسوسات،  والصورة في تطرقها للموضوع لابد أن تمزج الفكرة بتصورها كي تخرج الاحاسيس المجردة من وهم تصورها، اي ان ما يؤثر بنا ويروقنا او يعجبنا في اي عمل فني.. ما هو الا صورة تخيلية مكتملة تبنتها او اكتست بها احدى اختلاجاتنا النفسية.. وادخلتها ضمن حيز الفعل البصري المشكّل للمادة الاولية الاساسية- التي تؤلف علاقة الموضوع بإمكانات تحققه التعبيرية والفنية - والماهية التي سيتشكل عليها الموضوع بعد خضوعه للمفاهيم السائدة (زمكانيا)، وخضوعه لعلاقات السياق العام المتمثل بالثقافة الشاملة التي تجعل منه مناقضاً لتحققه ومتبايناً مع كل ما يناهض ظهوره على هيأة الحياة بصورة نسق فني متوازن، وهذا ما يؤكد أهمية التخيل في التأثير على الصورة من حيث تحولاتها المستمرة، وان المفهوم التحولي للتخيل الانساني من خلال ذاتية التصارع المؤدي الى ثبات واستقرار نسبي والذي يؤدي وفق المنطق الجدلي الى تحول جديد يتحقق سواء بالتجاذب أو التنافر بين فكرة العمل الفني وامكانات تحققها.

اذ إن الصورة هائمة بين ذاتها كشكل ومضمون ولكل منهما سطوته النابعة من الحيز المعنوي للتخيل الذي يغلّب  طرفا على آخر فالشكل هو الظاهرة التي تحقق ثبات نسبي للموضوع المتخيل، وهذا الجانب من الصورة لا يمكن  تغيير مواصفات تحققه الا باستدعاء مفاهيم مغايرة ومختلفة تؤسس لمتحول صوري جديد، وقد يكون لالتقاء المعاني الناتجة عن الصورة بالسياقات الخارجية المتعارف عليها المتمثلة بالثقافة والدين والأخلاق، ضرورة تضع حد لصراع الانبعاث بين إمكانات تحول الصورة، وهذا الصراع يمكن ان يعد منطلقا للتحولات الذهنية لإنتاج وسائل مثالية لتحول الصورة.. وبالتالي تحيل التخيل اما على الصورة المعبرة عن الرؤية او ان الرؤية تستميل الصورة التخيلية المتحولة او الصورة الفنية الجديدة التي تقدم نفسها كأمر لا ينتهي تحققه لأنها ميدان للتفكير الدائم، فالصورة تخضع لشروط الرؤية من خلال متحولاتها.. لاسيما وأنها مسؤولة عن صراع الرؤية والوعي بها، لتحقيق رؤية شاملة لحقيقة تائهة حتى لحظة انبثاقها من حواس الفنان لتصبح صورة فنية تحمل فعل اللحظة ومنطقها واسرار تحققها، وهذا ما نجده في مختلف أوجه الفن ولأي مرحلة زمنية منه، فالحقبة الزمنية تمنح الشكل طابعه ومضمونه لكن الطاقة التي تصهر الشكل والمضمون وترفعهما الى مستوى العبقرية وامتدادها انما تحددها روح الفنان وثقافته فحسب.

سامر قحطان القيسي

الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة

المرفقات