ألفةُ الذات الفنية وضمنية المرجع الحضاري..

محفز بصري تزدحم فيه كتل الالوان وبعض الرموز والخطوط المتنوعة بأسلوب تجريدي و بلمسات تصميمية فنية رائعة، وهو قائم على علاقة واضحة للمشاهد تنطلق من التنافر و المزاوجة بين الألوان والخطوط، إذ يؤشر التكوين بمجمله علاقة الفنان مع بنية العمل نفسه، وهي علاقة لا شك انها ممتدة إلى احدى مراحل الحضارة الرافدينية القديمة، حيث العلاقة الصميمية والعذرية بين الإنسان ونتاجه الفني التي تكون عادة تحت وطأة سلطة ما، فتكون فيها ذات الفنان ممزوجة بإرادته الحرة في انتاج العمل الفني الإبداعي وبحالة من التلقائية  القريبة إلى حدٍ بعيد من حالة الرسوم الاولى واللعب الحر.

اللوحة من ابداع الفنان والناقد التشكيلي الاستاذ سعد القصاب، وهي منفذة بتقنية الزيت على القماش بأبعاد 60 × 60 سم وهي تحمل عنوان ( تكوين)، ويلمس المتأمل للوحات القصاب وتكويناته الفنية المختلفة وبالخصوص هذه اللوحة، بان الاشكال لدى الفنان قد تحولت إلى مساحات لونية وفق تجاورات من التجانس والتضاد ووحدة الايقاع المتنقلة في أقسام اللوحة بغياب مركزية الموضوع، حيث أن البحث عن نقاء الحس الموسيقي الذي نجده في أعمال بعض مبدعي الغرب امثال الفنان موندريان واشكاله الهندسية على سبيل المثال، فأننا نجده يحاول بثها عبر مجموعة من البقع اللونية المتناثرة و المتداخلة مع المساحات شبه الهندسية، وهذا ما عمد اليه القصاب .. فأننا نجد ان قيمة الموضوع ترتكز حول عنصر اللون في المقام الأول.. ثم يليها عنصر الموازنة وطريقة توزيع المساحات اللونية وايقاع التناظر اللوني بالمقام الثاني، ولكل مساحة لونية لها ما يقابلها من قيمة اللون والمساحة، وأحياناً يعمل شكل المساحة على حسم التناظر رغم صغر إحدى المساحتين عن الأخرى في المكان أو في قيمة اللون مثال ذلك المساحتان الفاتحة اللون إلى جانبي الضلع السفلي، فبالرغم من صغر المساحة التي في اليمين عن تناظر الجانب الأيسر إلا أن تكافؤاً ما ينشأ بينهما، وذلك راجع إلى الشكل المغاير الذي تتمتع به المساحة التي في اليمين من خلال التعرجات وتداخل قيم لونية من الرصاصي والبنفسجي إلى المساحة الفاتحة كذلك الحال مع البقع الهلامية ذات اللون البنفسجي واللون الخضراء، وبذلك تعمل هذه التداخلات اللونية على تعزيز قيمة سيادة اللون في المكان.. وأن كل الأشياء والكتل داخل التكوين لا يمكن عزلها عن قيمها اللونية، فاللون هنا لا يمكن أن يكون إلا في العدم.

 وهنا لابد من الاشارة الى أن المتلقي العربي والعراقي على وجه التحديد، يعيش عادة في حالة من القطيعة بينه وبين الاشكال الفنية الحداثوية.. وذلك حينما تتعدى الأشكال لديه قدرة التعبير عن وجودها داخل معجمية مشاهداته القبلية، وهذا حال نسبة كبيرة من جمهور التلقي العراقي، ويبدو ان ذلك ليس بسبب قصور في قدرة المتلقي على فك غوالق الاعمال الفنية الجمالية.. بل بسبب إن فضاء النصوص الفنية لا تتواءم مع وجهة التحليل وضمنية المرجع، فالقطيعة حاضرة قبل أن تبدأ القراءة، فلو دققنا في النص الفني اعلاه لوجدنا إن منطق إحالة الأشكال والتخوم إلى ذاتها وعمليات إضاءة النص من الداخل هي خارج اهتمام المتلقي الذي يقف وراء كدس وترسانة معلوماتية ليواجه منظومة مغايرة عن ثوابته الثقافية المرتبطة بالموروث الشعبي عادة، وهذا الاختلاف بين ثـقافتين مختلفتين ( اصيلة ودخيلة)، هو وريث الشرخ الذي سببته اولى بوادر فنون القرن العشرين التي وقفت امام  الجمهور، ليدخل ضمن هذا الصراع  وسطاء من جمهور النقاد.. والذين عملوا على ردم الهوة وتقريب المسافات بين جمهور التلقي رغم اختلاف تطلعاتهم وثقافاتهم، ونحن اليوم ازاء ذات الاغتراب ان وقفنا امام مجريات الحداثة الفنية، لاسيما الأعمال التجريدية التي قد تفتقر للأصالة المادية - عند البعض - في ثـقافة المرجع التي لا تتعاضد ومتطلبات مرحلة ما.. ولا هي كذلك بدافع استقراء المستقبل، فالماضي لدى المتلقي العراقي بالتحديد يعيش معه في الحاضر ويتخطاه باتجاه أحشاء المستقبل، ويبدو ان هذه هي الأرضية التي تتحرك فيها مفاهيم التلقي في العراق لاسيما في الحقبة الأولى من التجريد وحداثة الفن.

وعلى ضوء ذلك فأننا نجد اثناء تأملنا للوحة اعلاه ولإسلوب الفنان سعد القصاب، إن المساحات اللونية لديه تتداخل  فيما بينها دون وجود سيادة لمساحة على أخرى، وهذا الغياب لعنصر السيادة يضفي على اللوحة طابع مميز من فن الديكور، وعندها يتحول الموضوع إلى بنية متماسكة من علاقة اللوحة مع المكان، إذ أن العنصر المؤثث لعالمنا الحديث جمالياً قائم في اقسام كبيرة منه على تذوق جمالية المكان، والعمل الفني عند ذاك يصبح جزءاً من هذه الرؤية، وبالتالي فهو يثير في المتلقي تلك العلاقة التي ينشئها مع الجدار أو العناصر المؤثثة داخل صالة العرض او المتحف.

سامر قحطان القيسي

الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة

المرفقات