أثارت شخصية (ذي القرنين) وقصّته وهويّته كثيراً من الجدل والاختلاف بين المفسّرين والمؤرّخين والباحثين والفلاسفة وعلماء الانثروبولوجيا قديماً وحديثاً، وكثر بينهم التناقض والاختلاف حولها، ورغم الدراسات والبحوث الكثيرة التي كُتبت حول هذا الموضوع، إلا أنها لم تصل إلى مرحلة اليقين في كشف هوية هذه الشخصية والجزم بإحدى الشخصيات التاريخية العديدة التي رُشحت لتكون شخصية ذي القرنين.
وسنستعرض هذه الآراء بصورة محايدة وما أدلت به من أدلة ومؤشرات وقرائن تاريخية ومنطقية على شخصيته دون التحيُّز لأحدها, ونتجنّب الآراء التي بُنيت على منطلق قومي دون الرجوع إلى دليل، فرغم الضباب الذي يحيط بهذه الشخصية، إلا أن هناك بعض الآثار والمعلومات التاريخية التي ربّما ترجّح كفّة إحدى الشخصيات التي رُشّحت على غيرها.
في القرآن الكريم
جاء ذكر ذي القرنين وقصته في ست عشرة آية من سورة الكهف من الآية (83) إلى الآية (98) وهي:
(وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآَتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) آَتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آَتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96) فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97) قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98)
سبب نزولها ؟
اتفقت التفاسير على أن سبب نزول هذه الآيات الشريفة وما قبلها والتي تروي قصة أصحاب الكهف وقصة النبي موسى مع العبد الصالح الخضر (عليهما السلام)، هو أن زعماء قريش اجتمعوا للتداول في نبوّة رسول الله (ص)، فانتهى اجتماعهم بقرار إرسال اثنين منهم إلى أحبار اليهود في يثرب، وهما: النضر بن الحرث بن كلدة، وعقبة بن أبي معيط، للسؤال عن نبوته (ص) وهل هي حقاً أم لا ؟ وكانت قريش تلجأ في هذه المسألة وغيرها من المسائل المشابهة إلى اليهود كونهم أصحاب كتاب ولهم علم واطلاع على الأمم الغابرة وأخبار الأنبياء (ع) حيث قالت قريش للمبعوثَين: (سلوا أحبار اليهود عن محمّد وصِفا له صفته، وخبراهم بقوله فإِنّهم أهل الكتاب الأوّل وعندهم مِن علم الأنبياء ما ليسَ عندنا).
ولما التقى المبعوثان بأحبار اليهود ونقلا لهما حديث قريش، قال لهما أحبار اليهود: (إسألوه عن ثلاث فإن أخبركم بهنّ فهو نبي مُرسل، وإِن لم يفعل فهو رجل مُتقوّل، فانظروا فيه رأيكم: سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأوّل ما كانَ مِن أمرهم، فإِنَّهُ قد كان لهم حديث عجيب ؟ وسلوه عن رجل طوّاف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه ؟ وسلوه عن الروح ما هو ؟)
رجع الرجلان إلى قريش وقالا لهم: (قد جئناكم بفصلِ ما بينكم وبين محمّد). وأخبروهم بما قال اليهود فجاؤوا إِلى النبي (ص) وسألوه هذه الأسئلة، فنزلت الآيات التي تتحدث عن أصحاب الكهف وقصتهم، وسيقتصر الحديث في هذا الموضع على السؤال الثاني وهو موضوع البحث الذي يدور حول ذي القرنين، حيث أجابهم (ص) بما جاء في الآيات الشريفة التي نزلت عليه من ربه.
وقد احتوت هذه الآيات الست عشرة على دروس كبيرة وعبر مفيدة للناس، حيث تروي سيرة رجل مؤمن بالله (عز وجل) عاملاً بطاعته، محباً للخير، قدّم خدمة للناس بإقامته سداً عظيماً منع به من اعتداء يأجوج ومأجوج على الناس. واستلزاماً للإحاطة بموارد البحث فسنورد تفسيراً مختصراً لهذه الآيات الشريفة كما ورد في تفاسير: (مجمع البيان في تفسير القرآن للطبرسي)، و(الميزان في تفسير القرآن للسيد محمد حسين الطباطبائي)، و(الأمثل في كتاب الله المنزل للشيخ ناصر مكارم الشيرازي).
في التفاسير
جاء جواب اليهود من الله (عز وجل) على سؤالهم: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ) عن طريق رسول الله (ص) بقوله: (قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا).
والسين في (سَأَتْلُو) تعني أنه (ص) أوحِيَ إليه من الله هذا الجواب، وهي تستخدم للمستقبل القريب، كما تدل الآيات على أن قصة (ذي القرنين) كانت معروفة بين الناس ومنهم العرب، كما دلّ على ذلك السؤال عن حاله والجواب عن السؤال بذكر شأنه لا تعريف شخصه وهويته، حتى اكتفى بلقبه فلم يتعدّ منه إلى ذكر اسمه، كما دلت على شهرته أشعار العرب التي سنذكرها في هذا الموضوع، ولكن قصته كان يحيطها الغموض والاختلاف لذلك طلب اليهود من قريش سؤال رسول الله (ص) عنها. وجاء في أقوال المفسرين حول بقية الآيات ما يلي:
(إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ): أي بسطنا يده في الأرض وملكناه عليها ومنحناه سُبل القوة والقدرة والحكم، وسخّرنا له هذه الإمكانيات في طاعة الله فحقق الغاية منها.
(وَآَتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا): أي منحناه أسباب الوصول لكل الوسائل التي تؤدى بها الأعمال، إضافة إلى الأمور المهمة كالعقل، والعلم الواسع الذي يكفل الإدارة السليمة، والقوّة والقدرة على تخطي المصاعب وقيادة الجيوش، وبالملخص فقد آتاه الله (عز وجل) جميع الإمكانيات المادية والمعنوية التي تهيئ له تحقيق الأهداف التي سعى لأجلها.
(فَأَتْبَعَ سَبَبًا): الاتباع: اللحوق أي لحق سبباً
(حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ): رآها تغرب في بحر عميق داكن أو عين ذات ماء آجن وقيل: (ينطبق هذا الوصف على خط الاستواء من المحيط الغربي المجاور لإفريقية، ولعل ذا القرنين في رحلته الغربية بلغ سواحل إفريقية). وقيل: (إن هذه العين هي المحيط الغربي)، وقيل: (بحيرة بلستون في أمريكا الشمالية).
(وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا): هم مختلفون في الصفات والمزايا فمنهم المؤمن ومنهم الفاسق.
(قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا): أي إن جزاء الظالمين سيكون لهم العذاب في الدنيا والآخرة.
(وَأَمَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا): أي ستُطبق العدالة الإلهية بحذافيرها، فمثلما سينال الظالم عذاباً في الدنيا، فسيُجازى المؤمن على إيمانه بالحسنى وتيسير أموره في الدنيا، ويتضح من هذه الآيات إلى أن الناس انقسموا أمام دعوته لله كعادتهم في كل زمان إلى مستجيب له ومؤمن به، وكافر بدعوته وجاحد بها.
(ثمّ أتَبَع سَبَاً): أي توجه إلى الشرق بواسطة ما منحه الله من إمكانيات.
(حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا): أي (وجدهم شبه عراة لا يمتلكون من الملابس ما يسترون أجسادهم به من حرارة الشمس)، وقيل: (لم يكن لديهم المنازل التي يأوون إليها لتحميهم من الشمس)، وقيل: (إنهم كانوا يعيشون في صحراء لا تتوفر فيها مستلزمات المعيشة كما تتوفر في المناطق الجبلية والغابات وغيرها)، ولا يوجد تعارض في كل هذه الأقوال فهي متشابهة من حيث المضمون الذي يدل على أنهم لم يكونوا يعيشون حياة طبيعية آمنة.
(كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا): أي نحن أعلم بما يمتلك من مؤهلات ونحن من هديناه إلى الطريق المستقيم
(ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا): أي مضى ذو القرنين في سفره
(حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا): وصل إلى موضع بين جبلين فوجد أقواماً ــ غير الذين رآهم في الشرق ــ وكانوا متخلفين لا يعرفون لغة يتخاطبون بها، أما السد فقيل: (إنه وراء بحر الروم بين جبلين هناك يلي مؤخرهما البحر المحيط)، وقيل: (إنه وراء دربند وخزران من ناحية أرمنية وآذربيجان).
(قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا): شكا هؤلاء القوم من يأجوج ومأجوج المفسدين الذين كانوا يغيرون عليهم ويقتلونهم، وطلبوا المساعدة منه في إنقاذهم منهم، وعرضوا عليه أن يعطوه مالاً على أن يجعل بينهم وبين يأجوج ومأجوج سداً يمنع من تجاوزهم وتعديهم عليهم. وقيل: (إن طريقة كلامهم مع ذي القرنين كان بواسطة الإشارة أو بعبارات موحية لذلك)، أو (عن طريق الإلهام الإلهي كحديث الطيور مع النبي سليمان (ع)، كما احتمل بعض المفسرين: (أن يكون طريقة نقل كلامهم كان بواسطة المترجمين)، وقد عرضوا على ذي القرنين تقديم المكافأة على عمله هذا.
(قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ): كان هذا جواب ذي القرنين، وفحواه إن ما وهبني ربي فيه الخير والكفاية التي تغنيني عن مساعدتكم المادية وهو خُلق الإنسان المؤمن الشاكر نعم الله عليه ..
(فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا): والرَّدم تعني ملء الشق بالأحجار، والمراد أعينوني بما أتقوى به على بنائه كالرجال والمواد وغيرها من الأمور التي يحتاجها البناء، وكان بناء السد بإشراف ذي القرنين.
(آَتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آَتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا): الزُبر جمع زُبرة وهي القطعة الكبيرة مِن الحديد، والصدف تعني حافة الجبل، وكان بين حافتي الجبل شقاً يدخل منه يأجوج ومأجوج فسدَّ ذو القرنين هذا الشق بوضع الزبر فوق بعضها حتى سد ما بين الجبلين تماماً، ثم أمر بتغطية هذا السد الحديدي بطبقة من النحاس المذاب للحفاظ عليه من التآكل ومنع نفوذ الهواء منه، ويظهر من خلال هذه العملية أن الله (عز وجل) قد وهبه علماً جماً حيث أثبت العلم الحديث إن تغطية الحديد بالنحاس يحفظه من التآكل ويزيد من مقاومته، وكان ذو القرنين قد ألهمه الله هذا العلم في ذلك الوقت.
(فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا): أصبح السد عظيماً وسميكاً وقوياً بحيث لا يستطيع يأجوج ومأجوج اختراقه.
(قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا): لم ينسب ذو القرنين صنع هذا السد إلى نفسه، ولم تأخذه العزة كعادة الملوك الجبابرة والمستكبرين، ويمنّ على خلق الله بما وهبه الله، بل أقر بفضل الله عليه ورحمته، فلولاه (عز وجل) لما استطاع أن يصنع هذا السد، وهذا يدل على إيمانه العميق وعقيدته الخالصة بالله.
(فإِذا جاء وعد ربّي جعلهُ دكاء): أي إن هذا السد ليس أبدياً، وهو موكّل بأمر ربي ومشيئته، فإذا جاء وعد ربي نسفه وجعله دكاء، وذكر المفسرون إن ذلك في يوم البعث.
عنصر الجمال والترابط في القصص الأربع
وقد ضمّت هذه السورة المباركة ثلاث قصص أخرى إضافة إلى قصة ذي القرنين، وهي: قصة أصحاب الكهف، وقصة صاحب الجنتين، وقصة موسى والعالم، ورغم أن كل قصة من هذه القصص الأربع قد حددت استقلاليتها عن الأخرى في الأحداث والتفاصيل والشخصيات إلا أنها تمحورت حول ما جاء في بداية السورة وتحديداً في الآيتين السابعة والثامنة: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا)، فالآيتان تضعان الإنسان أمام اختبار في إداء وظيفته على الأرض وما جعل الله عليها من زينة، ثم ترسمان نموذجاً لمن اجتاز هذا الامتحان بنجاح وهم: أصحاب الكهف الذين تخلوا عن زينة الحياة الدنيا واتجهوا إلى الكهف الذي عزلهم تماماً عن هذه الحياة واستأنسوا بدلاً عنها بمرضاة الله كما وصفهم تعالى: (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَٰهًا لَّقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا)، وفي المقابل يرسم القرآن الكريم نموذجا للجانب الآخر وهم الذين سقطوا في الاختبار وهو صاحب الجنتين كما جاء في قوله تعالى: (وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلًا رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَٰذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىٰ رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا (36) قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) لَّٰكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38) وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِن تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالًا وَوَلَدًا (39) فَعَسَىٰ رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِّنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَىٰ مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42) وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا (43).
وهذا النموذج الذي يرسمه القرآن الكريم هو على العكس من أصحاب الكهف، فهو قد غرته الحياة الدنيا، وتفاخر بشيء بسيط من زينتها، ونسي ذكر ربه، وهنا تأتي قصة ذي القرنين لتمثل جانباً جديداً من التعامل مع زينة الحياة الدنيا وبُعداً آخر من أبعاد التعامل مع الحياة.
يقول الدكتور محمود البستاني: (إذا كان صاحب الجنتين قد بهرته جنتاه واختل توازنه من التملك لتينك الجنتين بحيث دفعتاه إلى أن يدلّ ويتباهى ويتعالى على صاحبه الذي لا يملك مزرعة ومجداً اجتماعياً، أقول: إذا كان تملك مجرّد مزرعتين يدفع صاحبهما إلى تناسي نعم الله والتشكيك باليوم الآخر والانغماس في ملذات الحياة الدنيا، إذا كان مجرد تملك ذينك البستانين يفقد صاحبهما وعيه بحقيقة السماء والحياة ووظيفته، فإن ذي القرنين على العكس من ذلك تماماً، إنه يتملك ليس مزرعتين تحتلان مساحة صغيرة من أرض الله، (ليس مجرّد نفر هو: عشيرته التي يتباهى بها)، إنه يمتلك كل الأرض مشرقها ومغربها، ويمتلك كل الرقاب، كل الآدميين الذين بسط نفوذه عليهم، وأخضعوا لسلطانه.
إذن كم هو الفارق بين صاحب جنتين ومجموعة أفراد ..؟ وبين صاحب دنيا كلها مشرقاً ومغرباً والآدميين بأكملهم، ..؟ كم هو الفارق بينهما من حيث ضآلة التملك لدى الأول وضخامة التملك لدى الآخر..؟
ومع ذلك فإن صاحب الجنتين يلفه الطغيان في حين يتواضع ذو القرنين للسماء، ويدرك تماماً وظيفته التي أوكلتها السماء إليه، فيتعامل مع السماء ومع الآخرين على النحو الذي تطلبه السماء منه بحيث يجتاز الاختبار الذي مهدت له مقدمة السورة بنجاح بينما يسقط صاحب الجنتين في الاختبار المذكور ..)
أما عن التسلسل القصصي بين ذي القرنين وأصحاب الكهف فيقول البستاني: (ينبغي أن لا نغفل عن صلة قصة ذي القرنين بقصة أهل الكهف والجمالية التي ينطوي البناء الهندسي عليها، من خلال العلاقة القائمة على التوازن والتقابل بينهما، فأهل الكهف قد هربوا من زينة الحياة الدنيا واتجهوا إلى كهف منزوٍ، أما ذو القرنين فلم يهرب من الحياة بل تغلغل إلى آفاقها أجمع، إنه تملك كل معالم الزينة وأخضعها لسلطانه، إنه على العكس تماماً من الذين لم يتملكوا من زينة الحياة حتى مجرد الحياة الاعتيادية، إنهم لم يتملكوا أبسط حقوق التملك وهو العيش في دار بسيطة مثل الآخرين، بل لجأوا إلى كهف بعيد عن العمران، عن الناس، عن العيش ولو ببساطة، بيد أن هذا الفارق بين أصحاب الكهف وذي القرنين هو مجرد فارق بين نمطين من التعامل الإيجابي مع السماء، وليس بمثل الفارق بين صاحب الجنتين وذي القرنين، إذ أن الفارق هنا هو فارق بين تعامل سلبي خاطئ غلف صاحب الجنتين، وبين تعامل إيجابي صائب غلف ذا القرنين، في حين أن الفارق بين أصحاب الكهف وذي القرنين قائم على طرفين إيجابيين يخضع كلاهما للتعامل الصائب مع السماء، كل ما في الأمر أن الظروف الاجتماعية هي التي جعلت أصحاب الكهف يختارون العزلة وهم محقون في ذلك، وجعلت ذا القرنين يختار النشاط وهو محق في ذلك، هذا النحو من التقابل بين العزلة والنشاط يمثل وجهاً فنياً آخر من وجوه التقابل الهندسي في قصص سورة الكهف مما يضخم لدينا عنصر الاحساس الجمالي ...) (1)
هل كان نبياً أم ملكاً ؟
لم يرد في القرآن الكريم ما يدل على نبوّة ذي القرنين كما لم يرد نفيها، يقول الشيخ مكارم الشيرازي: (ولا يمكن الإِستفادة بشيء مِن صريح القرآن للدلالة على أنَّهُ كان نبيّاً، بالرغم مِن وجود تعابير تُشعِر بهذا المعنى). (2)
وهو يورد احتمالاً على نبوّته فيقول: (وليسَ بالإِمكان إنكار أنَّ التعبير الآنف الذكر يشير بالفعل إِلى معنى النّبوة).
وقد استدل بعض المفسرين بكلمة (قلنا) في قوله تعالى: (قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا)، على نبوّة ذي القرنين، وقال آخرون: (إن من المحتمل أن يكون المقصود بهذا التعبير هو الإِلهام القلبي والابلاغ الذي يمنحهُ الخالق (عز وجل) لغير الأنبياء أيضاً، ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى: (وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَٰذِهِ الْقَرْيَةَ)، وقوله تعالى: (وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ). (3)
ويؤكد هذا المعنى الأحاديث والروايات الكثيرة عن النبي (ص) والأئمة المعصومين (ع) بأنه: (لم يكن نبيّاً بل عبداً صالحاً). (4) قال الصدوق: (والصحيح الذي أعتقده في ذي القرنين أنه لم يكن نبياً، وإنما كان عبداً صالحاً أحب الله فأحبه الله، ونصح لله فنصحه الله). (5)
ويقول الطباطبائي: (وذو القرنين ملك مبعوث، وليس برسول ولا نبي، كما كان طالوت، قال الله عز وجل: (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا)، وقد يجوز أن يذكر في جملة الأنبياء من ليس بنبي، كما يجوز أن يذكر في جملة الملائكة من ليس بملك، قال الله جل ثناؤه: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ).
واحتمل بعض المفسرين أن يكون كلام الله (عز وجل) قد نُقل إلى ذي القرنين بواسطة نبي كان يعيش في زمانه، كما نقل كلامه (عز وجل) لطالوت بواسطة النبي داود (ع)، يقول الطباطبائي: (يظهر أن قوله تعالى: (قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ) لا يدل على كونه نبياً يُوحى إليه لكون قوله تعالى أعم من الوحي المختص بالنبوة ولا يخلو قوله (ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ) حيث أورد في سياق الغيبة بالنسبة إليه تعالى من إشعار بأن مكالمته كانت بتوسّط نبي كان معه فملكه نظير ملك طالوت في بني إسرائيل بإشارة من نبيهم وهدايته).
وورد في الخصال للصدوق عن الإمام الصادق (ع) قوله: (ملك الأرض كلها أربعة: مؤمنان، وكافران، فأما المؤمنان فسليمان ابن داود وذو القرنين، والكافران نمرود وبخت نصر).
وجاء في تفسير الطبري: (ملك الأرض مشرقها ومغربها أربعة نفر: مؤمنان وكافران، فالمؤمنان: سليمان بن داود وذو القرنين، والكافران: بختنصر ونمرود بن كنعان، لم يملكها غيرهم). (6)
أما ما جاء عن أمير المؤمنين (ع) في كثير من المصادر لمّا سُئل عن ذي القرنين أنبياً كان أم ملكاً ؟ فقال: (لم يكن نبياً ولا ملكاً، ولم يكن قرناه من ذهب ولا فضة، ولكن كان عبداً أحب الله فأحبه الله ونصح الله فنصحه الله، وإنَّما سُمِّي ذا القرنين لأنه دعا قومه إلى الله عز وجل فضربوه على قرنه فغاب عنهم حيناً ثم عاد إليهم فضرب على قرنه الآخر، وفيكم مثله).
فإنه لم يقصد أمير المؤمنين (ع) بأنه لم يكن (مَلِكَا) ــ بكسر اللام ــ من المُلك، بل إنه لم يكن (مَلَكَاً) ــ بفتح اللام ــ من الملائكة بعد أن عُرف ذلك في اعتقاد عمر بن الخطاب، كما قال بذلك الطباطبائي: (الظاهر أن (الملَك) في الرواية بفتح اللام لا بكسرها لاستفاضة الروايات عنه وعن غيره (ع) بملك ذي القرنين فنفيه (ع) أن يكون ذو القرنين نبياً أو ملكاً بفتح اللام إنكاراً منه لصحة ما ورد عن النبي (ص) في بعض الروايات أنه كان نبياً، وفى بعضها الآخر أنه كان مَلكاً من الملائكة، وبه كان يقول عمر بن الخطاب كما تقدمت الإشارة إليه).
ويستطرد الطباطبائي في حديثه فيقول: (أما قوله: (وفيكم مثله): أي مثل ذي القرنين في شجّتيه يشير (ع) إلى نفسه، فإنه أصيب بضربة من عمرو بن عبد ود، وبضربة من عبد الرحمان بن ملجم فاستشهد بها، والرواية مستفيضة عنه (ع) روته عنه الشيعة وأهل السنة بألفاظ مختلفة، وأبسط ألفاظها ما أوردناه، وقد لعبت به يد النقل بالمعنى فأظهرته في صور عجيبة وبلغ بها التحريف غايته).
ومن الصور المحرفة والأقوال الغريبة والشاذة التي رُويت عن هوية ذي القرنين والتي لا يمكن أن يتقبلها العقل، ما رواه القرطبي (7)، وابن كثير (8) وغيرهما وهو أن عمر بن الخطاب سمع رجلاً يقول لآخر: يا ذا القرنين. فقال له عمر: (تسمّيتم بأسماء الأنبياء فلم ترضوا حتى تسمَّيتم بأسماء الملائكة) !
والأغرب أن بعض المؤرخين قد تبنّوا هذا القول ومنهم من خرّجه تخريجاً غير منطقي، يقول الآلوسي: (أنه ــ أي عمر بن الخطاب ــ سمع رجلا ينادي بمنى يا ذا القرنين فقال له عمر: ها أنتم قد سميتم بأسماء الأنبياء فما لكم وأسماء الملائكة، وهذا قول غريب بل لا يكاد يصح، والخبر على فرض صحته ليس نصاً في ذلك إذ يحتمل ولو على بعد أن يكون المراد أن هذا الاسم من أسماء الملائكة عليهم السلام فلا تسمّوا به أنتم وإن تسمى به بعض من قبلكم من الناس) ! (9)
وعلى فرض ما قال الآلوسي فهذا لا يغير من المعنى شيئاً وهو أنه كان يجهل أن ذا القرنين لم يكن من الملائكة، وقد فند هذا القول وردّ عليه للشيخ عبد الحسين الأميني فقال: (حسبانه ــ أي عمر ــ أن ذا القرنين من أسماء الملائكة وقد عزب عنه إنه كان غلاماً رومياً أعطيَ المُلك كما فيما أخرجه الطبري ..)
ثم يقول الأميني: (وفي القرآن الكريم آيات كريمة في ذكر ذي القرنين كأنها عزبت عن الخليفة برمتها، وخفيت عليه تسمية رسول الله (ص) علياً أمير المؤمنين بذي القرنين، فقال على رؤوس الأشهاد: يا أيها الناس أوصيكم بحب ذي قرنيها أخي وابن عمي علي بن أبي طالب فإنه لا يحبه إلا مؤمن، ولا يبغضه إلا منافق، من أحبه فقد أحبني، ومن أبغضه فقد أبغضني. وقال (ص) لعلي (ع): إن لك في الجنة بيتاً وأنت لذو قرنيها. كما ورد عن أمير المؤمنين (ع) قوله عن ذي القرنين إنه: دعا قومه إلى عبادة الله تعالى فضربوه على قرنه ضربتين وفيكم مثله. ــ يعني نفسه ــ وقيل في تفسير ذلك إن الأولى ضربة عمرو بن عبد ود يوم الخندق، وضربة ابن ملجم).
ثم يقول الأميني: (وبعد خفاء ما في الكتاب والسنة على الخليفة لا يسعنا أن نؤاخذه بالجهل بشعر رجالات الجاهلية، وقد ذُكر ذو القرنين في شعر امرؤ القيس، وأوس ابن حجر، وطرفة بن العبد، والأعشى بن ثعلبة ...) ثم يذكر الأميني بعض الأشعار قبل الإسلام التي ورد فيها ذكر ذي القرنين وسنذكرها في محلها.
ثم يرد الأميني على الاستنكار في التسمية بأسماء الملائكة فيقول: (ما المانع عن التسمي بأسماء الملائكة ؟ وما أكثر من سُمِّي بأسماء أفضل الملائكة كجبرئيل، وميكائيل، وإسرافيل ؟ فإنها بالعبرانية وترجمتها بالعربية عبد الله، وعبيد الله، وعبد الرحمن، كما فيما أخرجه ابن حجر، وفي صحيح البخاري عن عكرمة إن: (جبر، وميك، وسراف) تعني: عبد، وإيل الله، وقد ورد في الصحيح: إن أحب الأسماء إلى الله تعالى عبد الله وعبد الرحمن ولا وازع إذا وقعت التسمية بتلكم الألفاظ العبرانية أيضاً). (10)
ومن الأقوال الغريبة أيضاً التي تشابه هذا القول في ذي القرنين ما رواه السيوطي في الدر المنثور: (أن ذا القرنين كان ملكاً من الملائكة أنزله الله إلى الأرض وآتاه من كل شيء سببا). (11) ونقل المقريزي عن الجاحظ في كتاب الحيوان: (إن ذا القرنين كانت أمّه آدمية وأبوه من الملائكة) ! (12)
ونحن لا يسعنا أمام هذه الأقوال الكثيرة التي شابه بعضها الخرافة إلا الركون إلى ما جاء في شأن ذي القرنين عن أئمة الهدى (ع) وهم ترجمان القرآن بأنه: كان عبداً صالحاً أحب الله فأحبه الله
مَن هو ذو القرنين ؟
تعددت الشخصيات التاريخية التي قال المؤرخون بأنها شخصية (ذي القرنين) كما ذكرنا في بداية البحث، وقبل أن نستعرض أقوال المفسرين والمؤرخين حول هوية ذي القرنين، نجد من الضروري القول إنه لا يمكن الركون إلى إحدى هذه الشخصيات والجزم بها، للاختلاف الكبير بين المؤرخين فيها، والدسّ الذي وُضع في قصته من قبل اليهود وغيرهم على لسان النبي (ص) والأئمة المعصومين (ع)، إضافة إلى الأقوال الشاذة والغريبة التي أولع بها المؤرخون، وقد نوّه الشيخ القمي (علي بن إبراهيم) في تفسيره إلى ذلك ونقل الطباطبائي قوله في تفسيره حيث قال:
(واعلم أن الروايات المروية من طرق الشيعة وأهل السنة عن النبي (ص)، ومن طرق الشيعة عن أئمة أهل البيت (ع)، وكذا الأقوال المنقولة عن الصحابة والتابعين ويعامل معها أهل السنة معاملة الأحاديث الموقوفة في قصة ذي القرنين مختلفة اختلافاً عجيباً، متعارضة متهافتة في جميع خصوصيات القصة، وكافة أطرافها وهي مع ذلك مشتملة على غرائب يستوحش منها الذوق السليم، أو يحيلها العقل وينكرها الوجود، لا يرتاب الباحث الناقد إذا قاس بعضها إلى بعض وتدبر فيها أنها غير سليمة عن الدسّ والوضع، ومبالغات عجيبة في وصف القصة، وأغربها ما روى عن علماء اليهود الذين أسلموا كوهب بن منبه، وكعب الأحبار، أو ما يشعر القرائن أنه مأخوذ منهم فلا يجدينا والحال هذه نقلها بالاستقصاء على كثرتها وطولها، وإنما نشير بعض الإشارة إلى وجوه اختلافها، ونقتصر على نقل ما يسلم عن الاختلاف في الجملة). ثم يذكر القمي الاختلافات في اسمه ونسبه وعمره وشأنه وتفاصيل قصته.
ورغم أنه لا يُنكر أن قصة ذي القرنين قد وقع فيها الدس والتلاعب، إلا أنه يجدر الإشارة أيضاً إلى أن القمي توفي سنة (329هـ) أي قبل أكثر من عشرة قرون، وخلال هذه الفترة تطوّرت الدراسات والبحوث القرآنية وواكبت التطورات الإنسانية، وأثبت القرآن الكريم إعجازه الإلهي ليس في الجانب البلاغي والتشريعي فقط، بل بما جاء فيه من الكثير من الحقائق الكونية والعلمية في مجالات العلوم المختلفة التي لم تكتشف في زمن نزول القرآن وأثبتها العلم الحديث في مراحل ما بعد النزول، ومن هذه المجالات علم دراسة البشر وسلوك الإنسان والمجتمعات الماضية والحاضرة وهو ما يسمى باليونانية بـ (الأنثروبولوجيا)، وتعني علم الإنسان في الماضي والحاضر، فحث القرآن الكريم على التدبّر في السنن الماضية والأمم السالفة وأخذ العبَر والمواعظ منها، وإن حياتنا الآن ما هي إلا مرحلة من هذه المراحل لكي لا يتكبر الإنسان على أخيه الإنسان، ولا يتفاضل الناس بينهم إلا بالتقوى، ويسود المجتمع التواضع والأخلاق الكريمة.
والآيات الشريفة التي أكدت على هذا المعنى كثيرة منها قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ).
وقوله: (قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ).
وقوله: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ)
وهي آيات كثيرة تحثنا على البحث والتأمل والتدبر في الأمم الماضية، وقد ذكرنا منها هذه الآيات كأمثلة بقدر ما يتعلق بالبحث الأصلي، ولنعد إلى موضوع البحث حول هوية ذي القرنين والشخصيات التي ذكرت في التواريخ والمصادر على أنها هو:
الإسكندر المقدوني:
وسمَّاه من قال بهذا الرأي: الإسكندر (ذو القرنين)، وسُمِّي كذلك بالإسكندر الأكبر، والإسكندر الكبير، ولد حوالي سنة (356) قبل الميلاد، وقد حكم بعد اغتيال والده فيليپ الثاني المقدوني الملقب بـ (الأعور)، سنة (336) قبل الميلاد، أما أمّه فهي أوليمپياس ابنة نيوبطليموس الأول ملك إقليم إيپيروس، وهي الزوجة الرابعة لفيليپ.
ويُعد الاسكندر من أشهر قادة التاريخ، خاض حروباً كثيرة ولم يهزم في معركة قط، وقد عُرف بشجاعته منذ صغره حتى أن أباه تفرّس فيه هذه الشجاعة فقال له: (يا بنيّ، عليك أن تجد مملكة تسع طموحك، إن مقدونيا لصغيرة جدًا عليك)
وكان الاسكندر يسعى للوصول إلى (نهاية العالم والبحر الخارجي الكبير)، بعد أن استولى على كل البلاد تقريباً، فضمّ إلى نفوذه: دول الروم، والمغرب، ومصر، وبلاد الشام، وبيت المقدس، ثمّ سيطر على أرمينيا، وفتح العراق وبلاد فارس، ثمّ توجّه إلى الهند والصين، ومنها إلى خراسان، وبنى مدناً كثيرة ومنها مدينة الإسكندرية التي سُمِّيت باسمه، وتوفي الاسكندر في بابل بالعراق سنة (323) قبل الميلاد وله من العمر اثنان وثلاثون سنة، وقيل ست وثلاثون سنة، واختلف في موضع دفنه فقيل دفن في بابل وقيل حمل جثمانه إلى الاسكندرية فدفن فيها، وقد جاء ذكر اسمه صريحاً في الإنجيل باسم الاسكندر بن فيلبس المكدوني (13)
وقد استدل المؤرخون على كونه ذي القرنين: (أن القرآن دل على أن الرجل المسمّى بذي القرنين بلغ ملكه إلى أقصى المغرب بدليل قوله: (حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ)، وأيضا بلغ ملكه أقصى المشرق بدليل قوله: (حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ)، وأيضا بلغ ملكه أقصى الشمال بدليل أن يأجوج ومأجوج قوم من الترك ويسكنون في أقصى الشمال، وبدليل أن السد المذكور في القرآن يقال في كتب التواريخ إنه في أقصى الشمال، فهذا المسمى بذي القرنين في القرآن قد دل القرآن على أن ملكه بلغ أقصى المشرق والمغرب والشمال، وهذا هو تمام القدر المعمور من الأرض، ومثل ذلك الملك البسيط لاشك أنه على خلاف العادة، وما كان كذلك وجب أن يبقى ذكره مخلداً على وجه الدهر، وأن لا يبقى مخفياً مستتراً، والملك الذي اشتهر في كتب التواريخ أنه بلغ ملكه إلى هذا القدر ليس إلا الإسكندر، وذلك لأنه لما مات أبوه جمع ملوك الروم بعد أن كانوا طوائف، ثم قصد ملوك المغرب وقهرهم، وأمعن حتى انتهى إلى البحر الأخضر ثم عاد إلى مصر وبنى الإسكندرية وسمّاها باسم نفسه، ثم دخل الشام وقصد بني إسرائيل، وورد بيت المقدس وذبح في مذبحه، ثم انعطف إلى أرمنية وباب الأبواب ودانت له العبرانيون والقبط والبربر، وتوجه بعد ذلك إلى دار ابن دارا (ملك الفرس) وهزمه مرات إلى أن قتله صاحب حرسه، واستولى الإسكندر على ملوك الفرس، وقصد الهند والصين وغزا الأمم البعيدة ورجع إلى خراسان وبنى المدن الكثيرة، ورجع إلى العراق ومرض بشهر زور ومات بها، فلما ثبت بالقرآن أن ذا القرنين كان رجلا ملك الأرض بالكلية أو ما يقرب منها وثبت بعلم التواريخ أن الذي هذا شأنه ما كان إلا الإسكندر وجب القطع بأن المراد بذي القرنين هو الإسكندر بن فيلبوس اليوناني).
ومن أبرز من تبنى هذا الرأي من المؤرخين ابن هشام في سيرته, واليعقوبي في تاريخه, والثعلبي في العرائس, وأبو بكر عتيق السور آبادي في تفسيره, والزمخشري في الكشاف, واختاره ابن كثير وعدل عن رأيه، كما اختاره الآلوسي في تفسيره روح المعاني بعد أن عدد الأقوال في ذلك، ودافع عنه مستدلاً على أنه هو لأنه تلميذ أرسطوطاليس، كما استدل الباحثون المعاصرون على ذلك بأن كثيراً من المسكوكات النقدية التي تعود إلى عهد الاسكندر المقدوني عليها صورته وعلى رأسه قرنان.
أدلة التعارض
لكن كل هذه الأدلة تصطدم مع حقائق تاريخية عدة وهي: أن ذا القرنين كان من العباد الصالحين المؤمنين بالله وكان ملكاً عادلاً رحيماً، في حين أن التاريخ قد أثبت على الاسكندر عكس هذه الصفات، فقد كان وثنياً سفاكاً، كما لم يرد في تاريخه أنه بنى سد يأجوج ومأجوج، إضافة إلى التعارض في كثير من السلوكيات بين الشخصيتين، وكذلك التناقض في خصوصيات قصتيهما منها: أن ذا القرنين بدأ رحلته من المشرق إلى المغرب، والاسكندر توجه من الغرب إلى الشرق إذن فالأدلة على أن ذا القرنين هو الاسكندر تتهاوى أمام هذه الحقائق.
امبراطور الصين شين هوانك تي
عاش هذا الامبراطور للفترة من (258 ــ 210) قبل الميلاد، وحكم ولاية تشين من (246 إلى 221) قبل الميلاد، وأصبح امبراطوراً لأسرة تشين من (221 إلى 210) قبل الميلاد، وقد شهد عهده كثيراً من الانجازات الداخلية والخارجية، منها: توحيده الولايات المتنافرة ومحاربته الفساد، وشرّع قانون التعيين بالكفاءة وليس بالوراثة لكي لا يتفرد بالسلطة شخص واحد، لكنه خالف كل القوانين التي وضعها ومنها التعيين حيث خلف ابنه على عرش الصين، وشين هو الذي بنى (سور الصين العظيم) الذي قال بعض المؤرخين إنه السد الذي بناه ذو القرنين لصد يأجوج ومأجوج وهو الدليل الوحيد الذي استندوا عليه في قولهم بأنه ذو القرنين.
الاكتشاف ينفي الرأي
لكن حتى هذا الدليل الوحيد يتعارض مع الحقيقة القرآنية والتاريخية، فمن المعروف أن سور الصين الذي بناه شين هوانك تي لصد هجمات المغول عن الصين كان من الحجارة ولم يستعمل في بنائه الحديد، كما لم يكن ردماً بين جبلين، فلا ينطبق هذا الوصف مع ما ذكره القرآن الكريم من أن السد الذي بناه ذو القرنين كان من زبر الحديد ومغطى بالنحاس، وقد ردم به شقاً بين جبلين، كما لم يذكر التاريخ أن هذا الامبراطور سار من أرضه إلى المغرب الأقصى.
وهناك أدلة تاريخية أخرى تنفي أن يكون هذا الامبراطور هو ذو القرنين منها: أن سياسته كانت شمولية رغم الاصلاحات التي أجراها، وقد اتسمت بالعنف داخلياً وخارجياً، فقد أمر بحرق كل الكتب في عصره باستثناء الكتب التي تُعنى بالزراعة والصناعة، وهذا يدل على أنه كان دكتاتوراً، كما فرض على الشعب ضرائب كبيرة أجهدته، مما أدى إلى نقمة الشعب منه وسخطه عليه ومحاولة اغتياله، وفي عام (1974) تم اكتشاف أثر يدل على تجبّره وتسلطه واستغلاله أموال الشعب، وقد أذهل هذا الاكتشاف العالم وخاصة علماء الآثار، فقد اكتشف العلماء مقبرة عظيمة تضم ثمانية آلاف تمثال من الصلصال لجنود وخيول وعربات حربية بالحجم الطبيعي, بناها شين هوانك تي لنفسه ومن المؤكد أنه بناها من الضرائب التي أثقلت كاهل الشعب. إذن فكل هذه الأوصاف لا تنطبق تماماً على شخصية ذي القرنين الذي وصفه القرآن بالعدل والرحمة والإيمان.
ملك آشور
لم تسمه المصادر سوى القول بأنه من ملوك آشور. يقول الطباطبائي: نُسب إلى بعضهم: (إن الذي بنى السد هو أحد ملوك آشور وقد كان يهجم في حوالى القرن السابع قبل الميلاد أقوام سيت من مضيق جبال قفقاز إلى أرمينستان ثم غربي إيران وربما بلغوا بلاد آشور وعاصمتها نينوا، فأحاطوا بهم قتلاً وسبياً ونهباً فبنى ملك آشور السد لصدهم، وكأن المراد به سد باب الأبواب المنسوب تعميره أو ترميمه إلى كسرى أنو شيروان من ملوك الفرس هذا، ولكن الشأن في انطباق خصوصيات القصة عليه).
وقد ذكره الطباطبائي في سياق الأقوال العديدة حول هوية ذي القرنين وهو لا يرى هذا الرأي بدليل قوله: ولكن الشأن في انطباق خصوصيات القصة عليه. وهي بناء السد لصد الأعداء فقط وما أكثرها عند الملوك القدماء.
فريدون بن أثفيان
هو فريدون بن أثفيان بن جمشيد خامس ملوك الفرس الفيشدادية، وقد ذكره المؤرخون بأنه: (كان ملكاً عادلاً مطيعاً لله تعالى)، يقول الآلوسي في تفسيره روح المعاني: (وفي كتاب صور الأقاليم لأبي زيد البلخي أنه كان مؤيداً بالوحي. وفي عامة التواريخ أنه ملك الأرض وقسمها بين بنيه الثلاثة ايرج، وسلم، وتور، فأعطى ايرج العراق، والهند، والحجاز، وجعله صاحب التاج. وأعطى سلم الروم، وديار مصر، والمغرب، وأعطى تور الصين والترك والمشرق، ووضع لكل قانوناً تحكم به وسميت القوانين الثلاثة سياسة، فهي معربة سي ايسا أي ثلاثة قوانين، ووجه تسميته ذا القرنين أنه ملك طرفي الدنيا أو طول أيام سلطنته فإنها كانت على ما في روضة الصفا خمسمائة سنة أو عظم شجاعته وقهره الملوك).
ثم يفند الآلوسي هذا القول بقوله: (ورد بأنه قد أجمع أهل التاريخ على أنه ــ أي فريدون ــ لم يسافر لا شرقاً ولا غرباً، وإنما دوّخ له البلاد كاوه الأصفهاني الحداد الذي مزّق الله تعالى على يده ملك الضحاك وبقي رئيس العساكر إلى أن مات).
ثم يقول الآلوسي: (ويلزم على هذا القول أيضا أن يكون الخضر (ع) على مقدمته بناء على ما اشتهر أنه (ع) كان على مقدمة ذي القرنين ولم يذكر ذلك أحد من المؤرخين).
وإضافة إلى قول الآلوسي فإنه إذا كان هو ذو القرنين نفسه فإن التاريخ سيذكر بناء السد ضمن أهم منجزاته لكنه لم يعهد أن بنى سدا.
الملك كورش
أول من قال بهذا الرأي وتبنّاه ودافع عنه بقوة هو أبو الكلام آزاد (14)، لكن للسيد الطباطبائي رأي آخر حول أول من قال بذلك سنذكره في محله، وقبل عرض آراء أبي الكلام واستدلاله على أن ذا القرنين هو كورش بما توفر لديه من مؤشرات ودلائل تاريخية ــ كما يقول ــ نرى أن نتعرّف على كورش من خلال التأريخ القديم لإيران أولاً، حيث يبدأ تاريخها بالدولة الهخمانشية وتسمى أيضا بـ (الأكمانية والكيانية) والتي تعد أول دولة تاريخية وردت في المراجع القديمة كاليونانية والرومانية.
وكان قد سبق هذه الدولة أسرة حاكمة قديمة حكمت شمال إيران وغربها منذ القرن التاسع قبل الميلاد، وهي التي وحدت إيران بعد أن استرجعت ما كان منها تحت نفوذ الآشوريين، وأقامت حضارة واسعة لإيران، وهذه الأسرة الحاكمة هم: (الميديون) والذين أسسوا حضارة واسعة في إيران ومهّدوا لظهور الهخمانشيين، ويذكر السيد حسن الأمين مقالاً للدكتور علي أكبر فياض عن تاريخ إيران يقول منه:
(أفردت لها ــ أي للدولة الهخمانشية ــ التوراة فصولاً خاصة ولا سيما عند الكلام عن (كورش) المعروف عند اليونانيين بسيروس، وهو الذي وحّد إيران بعد أن كانت أقاليم شمالية وجنوبية، فكوّن منها دولة قوية ثم اتجه إلى فتح البلاد المجاورة ففتح بلاد ما بين النهرين (بابل وآشور وليديا)، ثم توجّه نحو الشرق، وامتدت دولته فتوجّه إلى تخوم الصين وما وراء نهر سيحون وهو الذي يرى بعضهم أنه هو ذو القرنين ....) (15)
وهو يقصد بـ (بعضهم) أبا الكلام الذي كتب دراسة عميقة مطوّلة بلغت حوالي خمسين صفحة في تفسيره (ترجمان القرآن)، استدل بها على شخصية ذي القرنين وإنه هو كورش، بعد رحلة مع المصادر وخاصة اليونانية ومقارنتها مع القرآن الكريم استطاع ــ كما يقول هو ــ أن يرسم في تفسيره خريطة تبين رحلات وحروب ذي القرنين، والمكان والزمان الذي عاش فيه ومكان السد، ويبين من هم يأجوج ومأجوج والشق الذي كانوا يدخلون منه.
تفنيد الآراء الأخرى
يبدأ أبو الكلام بعرض أقوال المؤرخين حول شخصية ذي القرنين ويفنّدها استناداً إلى الأدلة القرآنية والتاريخية ويصفها كلها: (بالتخمينية، وقد قامت على افتراض مخطئ لا يدعمه دليل)، فرد على من قال بأن ذا القرنين هو الاسكندر بأن: (لا يمكن أن يكون هو المعني بالذكر في القرآن، إذ لا تعرف له فتوحات بالمغرب، كما لم يعرف عنه أنه بنى سداً، ثم إنه ما كان مؤمناً بالله، ولا شفيقاً عادلاً مع الشعوب المغلوبة وتاريخه مدوّن معروف).
أما في ردّه على من قال بأن ذا القرنين هو من ملوك اليمن فقال: (إن سبب النزول هو سؤال اليهود للنبي عن ذي القرنين لتعجيزه وإحراجه، ولو كان عربياً من اليمن لكان هناك احتمال لدى اليهود ــ على الأقل ــ أن يكون عند قريش علم به، وبالتالي عند النبي (ص) فيصبح قصد اليهود تعجيز الرسول غير وارد ولا محتمل، لكنهم كانوا متأكدين حين سألوه بأنه لم يصله خبر عنه، وكانوا ينتظرون لذلك عجزه عن الرد، سواء قلنا بأنهم وجهوا السؤال مباشرة أو أوعزوا به للمشركين في مكة ليوجهوه للرسول).
ثم ينوّه أبو الكلام إلى أمر لم يفطن إليه المفسّرون قبله كما يقول: (والحاصل أن المفسرين لم يصلوا إلى نتيجة مقنعة في بحثهم عن ذي القرنين، القدماء منهم لم يحاولوا التحقيق، والمتأخرون حاولوه، ولكن كان نصيبهم الفشل، ولا عجب، فالطريق الذي سلكوه كان طريقاً خاطئاً .. لقد صرحت الآثار بأن السؤال كان من قبل اليهود ــ وجهوه مباشرة أو أوعزوا لقريش بتوجيهه ــ فكان لائقاً بالباحثين أن يرجعوا إلى أسفار اليهود و يبحثوا هل يوجد فيها شيء يلقي الضوء على شخصية ذي القرنين، إنهم لو فعلوا ذلك لفازوا بالحقيقة).
ويتابع آزاد استدلاله فيقول: (لماذا ؟ لأن توجيه السؤال من اليهود للنبي (ص) لإعجازه ينبئ عن أن لديهم في كتبهم وتاريخهم علما به، مع تأكدهم بأن النبي (ص) أو العرب لم يطلعوا على ما جاء في كتبهم .. فكان الاتجاه السليم هو البحث عن المصدر الذي أخذ منه اليهود علمهم بهذا الشخص.. ومصدرهم الأول هو التوراة).
في التوراة
ومن هذا التفكير بدأ آزاد رحلته في البحث فقرأ التوراة، وما ذكر فيها عن الأنبياء وما ذكرته حول ذي القرنين، فوجد أن اسمه فيها هو (خورس)، ويلقب بـ (لو قرانائيم) ويسمى أيضا قورش، وقد جاء في كتاب إشعياء بشأن ذي القرنين ما نصه: (وإني أقول في حق خورس بأنه راع له، وهو يتم مرضاتي كلها، يقول الرب في شأن مسيحه خورس أنا أخذت بيده اليمنى لأجعل الأمم في حوزته، وأنزع القوة من سواعد الملوك، وأفتح له الأبواب تلو الأبواب، أجل إنني أمشي بين يديك، وأقوم ما اعوج من سبلك ... أفعل كل هذا لتعلم أنني أنا الرب إله إسرائيل الذي ناداك باسمك صراحة، لأجل إسرائيل شعبه المختار).
ويعزو آزاد سبب اهتمام اليهود البالغ بشخصية خورس أو ذي القرنين ــ كما يقول ــ وتبجيله وتوقيره وإطلاق صفات المديح عليه لأنه أنقذهم من أسر (بختنصر)، وأعادهم إلى وطنهم، وجدد لهم عمارة أورشليم، فوصفوه بالمسيح المخلص، ويؤيد هذا المؤرخون القدماء الذين اتهموا اليهود بمساعدة (خورس) حين هجم على بابل وأنقذهم من الأسر.
ويؤيد آزاد رأيه هذا باتفاق عقيدة ذي القرنين مع اليهود فيقول: (وما دام الأمر هكذا فمن المعقول أن نفرض أن كورش بعد تغلبه على بابل لما بلغته عقائد اليهود والأحكام الأخلاقية التي جاء بها دينهم يكون قد وجد تصوّراتهم الدينية قريبة جداً لتصوّراته الدينية فاندفع بطبيعة الحال إلى احترامهم وتلقى نبوءاتهم برغبة خالصة)، فـ (خورس) أو ذو القرنين كان يدين بـ (الزرادشتية) وهو دين توحيد يتفق مع اليهودية ــ كما يقول آزاد ــ ويفصّل ذلك في بحث مستقل يفرق فيه بين المجوسية والزرادشتية.
ويؤكد الدكتور عبد السلام عبد العزيز فهمي هذا المعنى حيث يضيف دافعاً سياسياً لخورس على إنقاذ اليهود من الأسر وإعادة تأسيس دولتهم، إضافة إلى الدافع الديني حيث يقول: (إن كورش كان يطمع في الاستيلاء على مصر، ولكنه كان يجد صعوبة في ذلك فقد كانت مصر مضرب المثل في القوة والمنعة، فرأى إحياء الدولة اليهودية لتكون حائلا بينه وبين مصر، وليتخذها فيما بعد رأس حربة إن أتيحت له الفرصة وليستعين بهم على الروم). (16)
ويعقب عبد المنعم النمر وزير الأوقاف المصري على كلام فهمي قائلا: (وفعلا قام خلفه كيوشيه، أو كم بن سيز في اليونانية، أو قمبيز كما نسميه، بحملته على مصر سنة (525) قبل الميلاد). ويضيف النمر: (والمهم من هذا كله أن نعلم أنه كانت هناك صلات قوية عقائدية ومصلحية قامت بين اليهود وبين كورش، وإنه قد صار في تاريخهم بطلاً منقذاً ردّ إليهم اعتبارهم، ومن هنا كان أمره معلوماً لديهم دون غيرهم، وأنهم لهذا وجهوا السؤال للرسول (ص) لإعجازه وهم مطمئنون إلى أن الرسول لم يطلع على ما عندهم من التوراة ولا على تاريخهم السابق). والجدير بالذكر أن النمر نقل رأي آزاد وأيّده وتبنّاه ودافع عنه بقوة ونشر مقالاً بذلك تحت عنوان: (ذو القرنين .. شخصية حيرت المفكرين أربعة عشر قرناً وكشف عنها أبو الكلام أزاد) (17)
كيف تكوّنت الفكرة ؟
يتحدث آزاد عن بداية تكوين هذه الفكرة التي أدت إلى هذا الاستنتاج فيقول: (خطر في بالي لأول مرة هذا التفسير لذي القرنين في القرآن، وأنا أطالع سفر دانيال ثم اطلعت على ما كتبه مؤرخو اليونان فرجح عندي هذا الرأي، ولكن شهادة أخرى خارج التوراة لم تكن قد قامت بعد، إذ لم يوجد في كلام مؤرخي اليونان ما يلقي الضوء على هذا اللقب).
ويتابع حديثه عن توافر وتوافق الأدلة التاريخية والشواهد الأثرية على ذلك ــ حسب قوله ــ فيقول: (ثم بعد سنوات لمّا تمكنت من مشاهدة آثار إيران القديمة ومن مطالعة مؤلفات علماء الآثار فيها زال الحجاب، إذ ظهر كشف أثري قضى على سائر الشكوك، فتقرر لدي بلا ريب أن المقصود بذي القرنين ليس إلا كورش نفسه فلا حاجة بعد ذلك أن نبحث عن شخص آخر غيره. إنه تمثال على القامة الإنسانية، ظهر فيه كورش، وعلى جانبيه جناحان، كجناحي العقاب، وعلى رأسه قرنان كقرني الكبش، فهذا التمثال يثبت بلا شك أن تصور ذي القرنين كان قد تولد عند كورش، ولذلك نجد الملك في التمثال وعلى رأسه قرنان أي أن التصور الذي خلقه أو أوجده اليهود للملك المنقذ لهم كورش كان قد شاع وعُرف حتى لدى كورش نفسه على أنه الملك ذو القرنين.. أي ذو التاج المثبت على ما يشبه القرنين.. كما يتبين من صورة التمثال سواءً قلنا أنه صنع في عهد كورش نفسه أو في عهد خلفائه).
ولكن هذه الأدلة التي ذكرها آزاد لا تكفي للدلالة على أن كورش هو ذو القرنين وعليه أن يثبت ذلك من المصادر التي تتفق مع ما جاء في وصف ذي القرنين في القرآن فاتجه في رحلته نحو تواريخ الفرس واليونان وكانت هذه نتيجة بحثه:
(لم أجد مصادر فارسية يمكن الاعتماد عليها في هذا، ولكن الذي أسعفنا هو الكتب التاريخية اليونانية ولعل شهادتها تكون أوثق وأدعى للتصديق، إذ أن المؤرخين اليونان من أمة كان بينها وبين الفرس عداء مستحكم ومستمر، فإذا شهدوا لكورش فإن شهادتهم تكون شهادة حق لا رائحة فيها للتحيّز)، ثم يدعم حديثه ببيت السرِيّ الرّفّاء الموصلي:
ومليحة شهدت لها ضرَّاتُها *** والفضلُ ما شهِدت به الأعداءُ
ويواصل آزاد حديثه: (فقد أجمعوا ــ أي المؤرخين اليونان ــ على أنه كان ملكاً عادلاً، كريماً، سمِحاً، نبيلاً مع أعدائه، صعد إلى المقام الأعلى من الإنسانية معهم).
وبهذا اكتملت استدلالاته على أن ذا القرنين هو كورش بمقارنة هذه الصفات التي وجدها في المصادر اليونانية في وصف كورش مع ما جاء في القرآن الكريم في وصف ذي القرنين، وتحديد ذلك تحديداً لا يرقى إليه شك ــ كما يقول ــ وبعد أن يستكمل آزاد أدلته على رأيه يرجع إلى المصادر الفارسية القديمة للتعريف بكورش أو ذي القرنين فيقول:
(إنه من أسرة فارسية ظهر في منتصف القرن السادس قبل الميلاد في وقت كانت فيه بلاده منقسمة إلى دويلتين تقعان تحت ضغط حكومتي بابل وآشور القويتين، فاستطاع توحيد الدولتين الفارسيتين تحت حكمه، ثم استطاع أن يضم إليها البلاد شرقاً وغرباً بفتوحاته التي أشار إليها القرآن الكريم، وأسس أول إمبراطورية فارسية، وحين هزم ملك بابل سنة (538) قبل الميلاد أتاح للأسرى اليهود فيها الرجوع لبلادهم، مزوّدين بعطفه ومساعدته وتكريمه. كما أشرنا إلى ذلك من قبل.. وظل حاكماً فريداً في شجاعته وعدله في الشرق حتى توفي سنة (529) قبل الميلاد). إلى هنا ينتهي كلام آزاد
ومما يجدر ذكره في هذا الموضوع أن للشاعر ابن طباطبا العلوي ــ أبو الحسن محمَّد بن أحمد بن إبراهيم طباطبا ابن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن ابن الإمام السبط الحسن بن الإمام عليِّ بن أبي طالب (ع) المتوفى سنة (322هـ / 934م) بيتان يشير فيهما إلى أن ذا القرنين هو من بنى أصفهان، وهذان البيتان قالهما عندما هدم علي بن رستم سور أصفهان ليوسّع داره وهما:
وقد كان ذو القرنيـن يبني مدينةً *** فأصبحَ ذو القـرنين يهدمُ سورَها
على أنّه لو كانَ في صحنِ دارِهِ *** بقرنٍ له سينــاء زعزعَ طورَها
ويظهر أنه علي بن رستم بن مكيار المحدث المتوفى سنة (303 هـ)، ولكن الغريب في البيتين أن ابن طباطبا يشبهه علي بن رستم بـ (ذي القرنين) ولا يُعلم وجه هذه التسمية ؟
سد يأجوج و مأجوج
وبقي أمر يأجوج ومأجوج والسد الذي بناه ذو القرنين لم يتطرَّق إليهما آزاد إلى الآن بعد أن كرس بحثه حول شخصية ذي القرنين، وبعد أن استوفى موارد البحث عن كورش أو ذي القرنين ــ كما يقول ــ استطاع أن يحدِّد هوية هذه الأقوام وتحديد موقع السد حيث يقول:
(لقد تضافرت الشواهد على أنهم لم يكونوا إلا قبائل همجية بدوية من السهول الشمالية الشرقية، تدفّقت سيولها من قبل العصر التاريخي إلى القرن التاسع الميلادي نحو البلاد الغربية والجنوبية، وقد سُمِّيت بأسماء مختلفة في عصور مختلفة، وعُرف قسم منها في الزمن المتأخر باسم (سيغر) أو (ميكر) في أوروبا.. وباسم التتار في آسيا، ولاشك أن فرعاً لهؤلاء القوم كانوا قد انتشروا على سواحل البحر الأسود في سنة 600 قبل الميلاد، وأغار على آسيا الغربية نازلاً من جبال القوقاز، ولنا أن نجزم بأن هؤلاء هم الذين شكت الشعوب الجبلية غاراتهم إلى كورش فبنى السد الحديدي لمنعها).
ويتابع آزاد: (وتسمى هذه البقعة الشمالية الشرقية الموطن الأصلي لهؤلاء باسم (منغوليا) وقبائلها الرحالة (منغول)، وتقول لنا المصادر اليونانية إن أصل منغول هو (منكوك) أو (منجوك)، وفي الحالتين تقرب الكلمة من النطق العبري (ماكوك) والنطق اليوناني (ميكاك)، ويخبرنا التاريخ الصيني عن قبيلة أخرى من هذه البقعة كانت تعرف باسم (يواسي)، والظاهر أن هذه الكلمة ما زالت تحرف حتى أصبحت يأجوج في العبرية)..
ثم يُرجع آزاد هاتين الكلمتين إلى أصلهما فيقول: (إن كلمتي: يأجوج ومأجوج تبدوان كأنهما عبريتان في أصلهما ولكنهما في أصلهما قد لا تكونان عبريتين، إنهما أجنبيتان اتخذتا صورة العبرية فهما تنطقان باليونانية كاك وماكوك، وقد ذكرتا بهذا الشكل في الترجمة السبعينية للتوراة، وراجتا بالشكل نفسه في سائر اللغات الأوروبية. والكلمتان تنطقان في القرآن الكريم بهمز وبدون همز). ثم تحدث آزاد عن الأدوار السبعة أو الموجات السبع التي قام بها هؤلاء الأقوام بالغارات على البلاد الغربية والجنوبية.
مكان السد
أما مكان السد، فيقول آزاد: (أنه في البقعة الواقعة بين بحر الخزر (قزوين) و(البحر الأسود) حيث توجد سلسلة جبال القوقاز بينهما، وتكاد تفصل بين الشمال والجنوب إلا في ممر كان يهبط منه المغيرون من الشمال للجنوب، وفي هذا الممر بنى كورش سده، كما فصله القرآن الكريم، وتحدثت عنه كتب الآثار والتاريخ).
ثم يستدل آزاد على كلامه بالقول: (إن الكتابات الأرمنية – وهي كشهادة محلية – تسمي هذا الجدار أو هذا السد من قديم باسم (بهاك غورائي), أو (كابان غورائي), ومعنى الكلمتين واحد وهو مضيق (غورش) أو (ممر غورش) و(غور) وهو اسم (غورش) أو (كورش)).
ثم يضيف أزاد دليلاً آخر على ذلك فيقول: (إن هذا المضيق سُمِّي باللغة الجورجية القديمة بـ (الباب الحديدي)، وإن جورجيا هي بلاد القوقاز التي بُني فيها السد).
أما المكان الذي وصفه القرآن الكريم بـ (العين الحمئة) فيصفه آزاد بقوله: (وعلى ذلك يكون المقصود بالعين الحمئة هو الماء المائل للكدرة والعكارة وليس صافياً، ثم يعيِّن مكانه بقوله: وذلك حين بلغ الشاطئ الغربي لآسيا الصغرى ورأى الشمس تغرب في بحر إيجه في المنطقة المحصورة بين سواحل تركيا الغربية شرقاً واليونان غرباً وهي كثيرة الجزر والخلجان).
وحدّد آزاد المقصود من مطلع الشمس التي بلغها ذو القرنين في رحلته الثانية شرقاً: (أنه وصل فيها إلى حدود باكستان وأفغانستان الآن، ليؤدب القبائل البدوية الجبلية التي كانت تغير على مملكته، والمراد ببين السدين أي بين جبلين من جبال القوقاز التي تمتد من بحر الخزر ( قزوين ) إلى البحر الأسود حيث اتجه شمالا).
ويعقب عبد المنعم النمر على هذا الرأي بقوله: (ولقد كان أزاد بهذا البحث النفيس أول من حل لنا هذه الإشكالات التي طال عليها الأمد، وحيرت كل المفكرين قبله، و حقق لنا هذا الدليل، من دلائل النبوة الكثيرة.. رحمه الله وطيب ثراه..)
ثم يقول: (وبهذا يكون أزاد قد حدد مكان السد وكشف المراد من يأجوج ومأجوج.. وقد تعرض لدفع ما قيل أن المراد بالسد هو سد الصين، لعدم مطابقة مواصفات سد الصين لمواصفات سد ذي القرنين ولأن هذا بُنيَ سنة (264) قبل الميلاد، بينما بُني سد ذي القرنين في القرن السادس قبل الميلاد. كما تعرَّض للرد على ما قيل بأن المراد بالسد هو جدار دربند، أو باب الأبواب كما اشتهر عند العرب بأن جدار دربند بناه أنوشروان (من ملوك فارس من 531 – 579 م) بعد السد بألف سنة، وأن مواصفاته غير مواصفات سد ذي القرنين، وهو ممتد من الجبل إلى الساحل ناحية الشرق وليس بين جبلين كما أنه من الحجارة، ولا أثر فيه للحديد والنحاس). كما ويعقب السيد حسن الأمين على رأي آزاد بالقول: (ومن البديهي القول أن هناك من لا يقرون أبو الكلام آزاد على رأيه هذا).
رأي الطباطبائي
يعرض السيد الطباطبائي هذا الرأي من ضمن الآراء المختلفة حول هوية ذي القرنين فيقول: (وقيل: إن ذا القرنين هو كورش أحد ملوك الفرس الهخامنشيين (539 ــ560 ق م)، وهو الذي أسس الإمبراطورية الإيرانية، وجمع بين مملكتي فارس وماد، وسخّر بابل، وأذن في رجوع اليهود من بابل إلى أورشليم وساعدهم في بناء الهيكل وسخّر مصر ثم اجتاز إلى اليونان فغلبهم وبلغ المغرب ثم سار إلى أقاصي المعمورة في المشرق. (18)
لكنه يذكر أن هذا الرأي لم ينفرد به أبو الكلام آزاد، كما لم تكن له الريادة فيه، فقد سبقه غيره إلى ذلك، يقول الطباطبائي: (ذكر بعض من قارب عصرنا) ــ ثم يذكر في الهامش اسم: سر أحمد خان الهندي (19). ثم يتابع الطباطبائي حديثه عن ذي القرنين فيقول:
(ثم بذل الجهد في إيضاحه وتقريبه بعض محققي الهند ــ يقصد أبا الكلام آزاد كما ذكر في الهامش ــ في هذه الأواخر بيان ذلك إجمالا أن الذي ذكره القرآن من وصف ذي القرنين منطبق على هذا الملك العظيم فقد كان مؤمناً بالله بدين التوحيد عادلاً في رعيته، سائراً بالرأفة والرفق والاحسان، سائساً لأهل الظلم والعدوان، وقد آتاه الله من كل شيء سبباً فجمع بين الدين والعقل وفضائل الأخلاق والعدة والقوة والثروة والشوكة ومطاوعة الأسباب. وقد سار كما ذكره الله في كتابه مرة نحو المغرب حتى استولى علي ليديا وحواليها، ثم سار ثانياً نحو المشرق حتى بلغ مطلع الشمس ووجد عندها قوماً بدويين همجيين يسكنون في البراري، ثم بنى السد وهو على ما يدل عليه الشواهد السد المعمول في مضيق داريال بين جبال قفقاز بقرب مدينة تفليس هذا إجمال الكلام ودونك التفصيل).
ثم يتوسع الطباطبائي بذكر تفاصيل ما جاء في التوراة فيقول تحت عنوان: (إيمانه بالله واليوم الآخر): (يدل على ذلك ما في كتب العهد العتيق ككتاب عزرا (20) وكتاب دانيال (21) وكتاب أشعياء (22) من تجليله وتقديسه حتى سمّاه في كتاب الأشعياء راعي الرب) ثم ينقل ما جاء في إصحاح أشعياء ما نصه: (وقال في الإصحاح الخامس والأربعين): (هكذا يقول الرب لمسيحه لكورش الذي أمسكت بيمينه لأدوس أمامه أمماً وأحقاء ملوك أحل لأفتح أمامه المصراعين والأبواب لا تغلق. أنا أسير قدامك والهضاب أمهد أكسر مصراعي النحاس ومغاليق الحديد أقصف. وأعطيك ذخائر الظلمة وكنوز المخابي. لكي تعرف أني أنا الرب الذي يدعوك باسمك. لقبتك وأنت لست تعرفني).
ويعلق الطباطبائي على ذلك بالقول: (ولو قطع النظر عن كونه وحياً فاليهود على ما بهم من العصبية المذهبية لا يعدون رجلاً مشركاً مجوسياً أو وثنياً - لو كان كورش كذلك - مسيحاً إلهياً مهدياً مؤيداً وراعياً للرب. على أن النقوش والكتابات المخطوطة بالخط المسماري المأثور عن داريوش الكبير وبينهما من الفصل الزماني ثماني سنين ناطقة بكونه موحّداً غير مشرك، وليس من المعقول أن يتغير ما كان عليه كورش في هذا الزمن القصير. وأمّا فضائله النفسانية فيكفي في ذلك الرجوع إلى المحفوظ من أخباره وسيرته وما قابل به الطغاة والجبابرة الذين خرجوا عليه أو حاربهم كملوك (ماد) و(ليديا) و(بابل) و(مصر)، وطغاة البدو في أطراف (بكتريا) وهو البلخ وغيرهم، وكان كلما ظهر على قوم عفا عن مجرميهم، وأكرم كريمهم، ورحم ضعيفهم، وساس مفسدهم وخائنهم. وقد أثنت عليه كتب العهد القديم، واليهود تحترمه أعظم الاحترام لمّا نجاهم من أسر بابل وأرجعهم إلى بلادهم وبذل لهم الأموال لتجديد بناء الهيكل ورد إليهم نفائس الهيكل المنهوبة المخزونة في خزائن ملوك بابل، وهذا في نفسه مؤيد آخر لكون ذي القرنين هو كورش فإن السؤال عن ذي القرنين إنما كان بتلقين من اليهود على ما في الروايات. وقد ذكره مؤرخو اليونان القدماء كهيروديت وغيره فلم يسعهم إلا أن يصفوه بالمروءة والفتوة والسماحة والكرم والصفح وقلة الحرص والرحمة والرأفة ويثنوا عليه بأحسن الثناء. وأمّا تسميته بذي القرنين فالتواريخ وإن كانت خالية عما يدل على شيء في ذلك لكن اكتشاف تمثاله الحجري أخيراً في مشهد مرغاب في جنوب إيران يزيل الريب في اتصافه بذي القرنين، فإنه مثل فيه ذا قرنين نابتين من أم رأسه من منبت واحد أحد القرنين مائل إلى قدام والآخر آخذ جهة الخلف، وهذا قريب من قول من قال من القدماء في وجه تسمية ذي القرنين أنه كان له تاج أو خوذة فيه قرنان).
ثم يذكر الطباطبائي ما ورد في إصحاح دانيال حول ذي القرنين فجاء ما نصه: (وقد ورد في كتاب دانيال ذكر رؤيا رأى كورش فيه في صورة كبش ذي قرنين قال فيه: (في السنة الثالثة من ملك (بيلشاصر) الملك ظهرت لي إنا دانيال رؤيا بعد التي ظهرت لي في الابتداء. فرأيت في الرؤيا وكأن في رؤياي وأنا في (شوشن) القصر الذي في ولاية عيلام. ورأيت في الرؤيا وأنا عند نهر (أولاي) فرفعت عيني وإذا بكبش واقف عند النهر وله قرنان والقرنان عاليان والواحد أعلى من الآخر والأعلى طالع أخيراً. رأيت الكبش ينطح غرباً وشمالاً وجنوباً فلم يقف حيوان قدامه ولا منفذ من يده وفعل كمرضاته وعظم. وبينما كنت متأملاً إذا بتيس من المعز جاء من المغرب على وجه كل الأرض ولم يمس الأرض وللتيس قرن معتبر بين عينيه. وجاء إلى الكبش صاحب القرنين الذي رأيته واقفاً عند النهر وركض إليه بشدة قوته ورأيته قد وصل إلى جانب الكبش فاستشاط عليه وضرب الكبش وكسر قرنيه فلم تكن للكبش قوة على الوقوف أمامه وطرحه على الأرض وداسه ولم يكن للكبش منفذ من يده. فتعظم تيس المعز جداً. ثم ذكر بعد تمام الرؤيا إن جبرئيل تراءى له وعبر رؤياه بما ينطبق فيه الكبش ذو القرنين على كورش، وقرناه مملكتا الفارس وماد، والتيس ذو القرن الواحد على الإسكندر المقدوني) (23).
ويواصل الطباطبائي حديثه: (وأما سيره نحو المغرب والمشرق فسيره نحو المغرب كان لدفع طاغية (ليديا) وقد سار بجيوشه نحو كورش ظلماً وطغياناً من غير أي عذر يجوز له ذلك، فسار إليه وحاربه وهزمه ثم عقبه حتى حاصره في عاصمة ملكه ثم فتحها وأسره ثم عفا عنه وعن سائر أعضاده وأكرمه وإياهم وأحسن إليهم، وكان له أن يسوسهم ويبيدهم وانطباق القصة على قوله تعالى: (حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَة) - ولعلها الساحل الغربي من آسيا الصغرى – (وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا) وذلك لاستحقاقهم العذاب بطغيانهم وظلمهم وفسادهم. ثم إنه سار نحو الصحراء الكبير بالمشرق حوالي بكتريا لإخماد غائلة قبائل بدوية همجية انتهضوا هناك للمهاجمة والفساد وانطباق قوله تعالى: (حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا) عليه ظاهر).
وأما بناؤه السد: (فالسد الموجود في مضيق جبال قفقاز الممتدة من بحر الخزر إلى البحر الأسود، ويسمى المضيق (داريال) ولعله محرف (داريول) بمعنى المضيق بالتركية، ويسمى السد باللغة المحلية (دمير قابو) ومعناه باب الحديد. وهو واقع في بلدة (تفليس) و(بين) و(لادي كيوكز). وهذا السد واقع في مضيق بين جبلين شاهقين يمتدان من جانبيه وهو وحده الفتحة الرابطة بين جانبي الجبال الجنوبي والشمالي والجبال مع ما ينضم إليها من بحر الخزر والبحر الأسود حاجز طبيعي في طول الوف من الكيلو مترات يحجز جنوب آسيا من شمالها. وكان يهجم في تلك الاعصار أقوام شريرة من قاطني الشمال الشرقي من آسيا من مضيق جبال قفقاز إلى ما يواليها من الجنوب فيغيرون على ما دونها من أرمينستان ثم إيران حتى الآشور وكلده، وهجموا في حوالي المائة السابعة قبل الميلاد فعمموا البلاد قتلاً وسبياً ونهباً حتى بلغوا نينوى عاصمة الآشور وكان ذلك في القرن السابق على عهد كورش تقريبا).
ثم يستشهد الطباطبائي بأقوال المؤرخين فيقول: (وقد ذكر المؤرخون من القدماء كهيرودوت اليوناني سير كورش إلى شمال إيران لإخماد نوائر فتن اشتعلت هناك، والظاهر أنه بنى السد في مضيق داريال في مسيره هذا لاستدعاء من أهل الشمال وتظلم منهم، وقد بناه بالحجارة والحديد وهو الردم الوحيد الذي استعمل فيه الحديد، وهو بين سدين جبلين، وانطباق قوله تعالى: (فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا آَتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ) عليه ظاهر، ومما أيد به هذا المدعي وجود نهر بالقرب منه يسمى (سايروس) وهو اسم كورش عند الغربيين، ونهر آخر يمر بتفليس يسمى (كر) وقد ذكر هذا السد (يوسف) اليهودي المؤرخ عند ذكر رحلته إلى شمال قفقاز وليس هو الحائط الموجود في باب الأبواب على ساحل بحر الخزر فان التاريخ ينسب بناءه إلى كسرى أنو شيروان وكان يوسف قبله فهو على ما يقال كان يعيش في القرن الأول الميلادي، على أن سد باب الأبواب غير سد ذي القرنين المذكور في القرآن قطعاً إذ لم يستعمل فيه حديد قط).
أما بخصوص يأجوج ومأجوج فيقول الطباطبائي: (وأما يأجوج ومأجوج فالبحث عن التطورات الحاكمة على اللغات يهدينا إلى أنهم المغول فإن الكلمة بالتكلم الصيني (منكوك) أو (منجوك) ولفظتا يأجوج ومأجوج كأنهما نقل عبراني وهما في التراجم اليونانية وغيرها للعهد العتيق (كوك) و(مأكوك) والشبه الكامل بين (ماكوك) و(منكوك) يقضي بأن الكلمة متطورة من التلفظ الصيني (منكوك) كما اشتق منه (منغول) و(مغول) ولذلك في باب تطورات الألفاظ نظائر لا تحصى.
فيأجوج ومأجوج هما المغول وكانت هذه الأمة القاطنة بالشمال الشرقي من آسيا من أقدم الأعصار أمة كبيرة مهاجمة تهجم برهة على الصين وبرهة من طريق داريال قفقاز على أرمينستان وشمال إيران وغيرها وبرهة وهي بعد بناء السد على شمال أوروبا وتسمى عندهم بسيت ومنهم الأمة الهاجمة على الروم وقد سقطت في هذه الكرة دولة رومان، وقد تقدم أيضا أن المستفاد من كتب العهد العتيق أن هذه الأمة المفسدة من سكنة أقاصي الشمال).
ولا يجزم الطباطبائي ــ رغم ذلك ــ في نهاية حديثه بأن كورش هو ذو القرنين حيث يقول: (هذه جملة ما لخصناه من كلامه، وهو وإن لم يخل عن اعتراض ما في بعض أطرافه لكنه أوضح انطباقاً على الآيات وأقرب إلى القبول من غيره).
مكارم الشيرازي
أما الشيخ مكارم الشيرازي فيقول بعد أن يعدد آراء المؤرخين حول هوية ذي القرنين: (بالطبع هناك آراء أخرى في ذلك، إِلاَّ أنَّ ذكرها جميعاً يُطيل بنا المقام; وسوف نرى أنَّ مبتكر النظرية الثّالثة (أبو الكلام آزاد) استفاد كثيراً مِن هذا اللقب لإِثبات نظريته). ثم يستعرض النظرية الثّالثة فيقول: (وهي أحدث النظريات في هذا المجال وردت عن المفكر الإِسلامي المعروف (أبو الكلام آزاد) الذي شغل يوماً منصب وزير الثقافة في الهند. وقد أورد رأيه في كتاب حققه في هذا المجال. وطبقاً لهذه النظرية فإنَّ ذا القرنين هو نفسه (كورش الكبير) الملك الأخميني).
ويفند الشيرازي غيرها من النظريات: (أمّا النظريتان الأُولى والثّانية فإِنّها لا تدعمها أدلة قوية، ومضافاً إِلى ذلك فإِنّ صفات الإِسكندر المقدوني أو ملوك اليمن لا تنطبق مع الصفات الذي ذكرها القرآن لذي القرنين. من ناحية ثالثة فإِنَّ الإِسكندر لم يبنَ سداً معروفاً. أمّا سد مأرب في اليمن فإنه لا يتطابق مع الصفات الواردة في سدّ ذي القرنين الذي بُني من الحديد والنحاس، وقد أُنشئ لصد هجوم الأقوام الهمجية، في حين أنَّ سد مأرب مُكوَّن مِن المواد العادية، ووظيفته خزن المياه ومنعها من الطغيان والفيضان، وقد ذكر القرآن شرحاً لذلك في سورة سبأ).
ثم ينقل ما جاء في شأن كورش في إصحاح دانيال وأشعياء ويعقب: (لقد استبشر اليهود مِن رؤيا دانيال وعلموا بأنَّ فترة عبوديتهم ستنتهي مِن قبضة البابليين، ولم تمض مُدَّة طويلة حتى ظهر (كورش) على مسرح الحكم في إِيران ووحَّد بلاد (ماد وفارس) وشكَّل مِنهما مملكة كبيرة، وكما قالَ دانيال، فإنَّ الكبش كان يضرب بقرنه الغرب والشرق، فإنَّ كورش قام بالفتوحات الكبيرة في الجهات الثلاث، وحرَّر اليهود وسمح لهم بالعودة إِلى فلسطين).
ثم يتطرق الشيرازي إلى الحديث عن الشواهد الحاضرة لكورش فيقول: (لقد تمَّ العثور في القرن التاسع عشر الميلادي على تمثال لكورش في طول إِنسان تقريباً، وذلك بالقرب مِن مدينة (اصطخر) بجوار نهر (المرغاب) ويظهر مِن هذا التمثال أنَّ لكورش جناحان مِن الجانبين يشبهان جناح العقاب، وعلى رأسه تاج يُشاهد فيه قرنان يشبهان قرنا الكبش، فضلا عمّا يطويه هذا التمثال مِن نموذج قيِّم لفن النحت القديم، فقد جلب انتباه العلماء، حتى أنَّ مجموعة مِن العلماء الألمان سافروا إِلى إِيران لأجل رؤيته فقط. عند تطبيق ما ورد في التوراة على مواصفات التمثال تبلور في ذهن العلاّمة (أبو الكلام آزاد) احتمال في وجود اشتراك بين ذي القرنين وكورش، وأنَّ الأخير لم يكن سوى ذي القرنين نفسه، فتمثال كورش لهُ جناحان كجناحَى العُقاب، وهكذا توضحت شخصية (ذو القرنين) التأريخية لمجموعة مِن العلماء، وممّا يؤيِّد هذه النظرية الأوصاف الأخلاقية المذكورة لكورش في التأريخ).
كما يستشهد بأقوال المؤرخين: (يقول (هيرودوت) المؤرخ اليوناني: لقد أعطى كورش أمراً إِلى قواته بألاّ يضربوا بسيوفهم سوى المحاربين، وأن لا يقتلوا أي جندي للعدوّ إِذا انحنى، وقد أطاع جيشهُ أوامره، بحيث أنَّ عامّة الناس لم تشعر بمصائب الحرب ومآسيها، ويكتب عنهُ (هيرودوت) أيضاً: لقد كان كورش ملكاً كريماً، وسخياً عطوفاً، ولم يكن مثل بقية الملوك في حرصهم على المال، بل كان حريصاً على إِفشاء العدل، وكان يتسم بالعطاء والكرم، وكان ينصف المظلومين ويحب الخير، ويقول مؤرّخ آخر هو (ذي نوفن): لقد كانَ كورش ملكاً عادلاً وعطوفاً، وقد اجتمعت فيه فضائل الحكماء، وشرف الملوك، فالهمة الفائقة كانت تغلب على وجوده، وكان شعاره خدمة الإِنسانية، وأخلاقه إِفشاء العدل، كما أنَّ التواضع والسماحة كانا يغلبان الكبر والعجب في وجوده).
ويدعم الشيرازي هذا الرأي بعدة أمور وهي: (الطريف في الأمر أنَّ هؤلاء المؤرّخين الذين ذكروا كورش في الأوصاف الآنفة الذكر، كانوا مِن كُتاب التأريخ الغرباء عن قوم كورش، ومن غير أبناء وطنه، حيث كانوا من (اليونان)، والمعروف أنَّ أهل اليونان تعرضوا لهزيمة منكرة على يد كورش عندما فتح (ليديا) ! ثمّ إِنَّ أنصار هذا الرأي يقولون: إِنَّ الأوصاف المذكورة في القرآن الكريم حول (ذو القرنين) تتطابق مع الأوصاف التأريخية لكورش، والأهم من ذلك أنَّ كورش قد سافر أسفاراً نحو الشمال والشرق والغرب، وقد وردت قصة هذه الأسفار مُفصَّلة في حياته، وهي تتطابق مع الأسفار الثلاثة لذي القرنين الوارد ذكرها في القرآن الكريم. فأوّل جيش له كان قد أرسله إِلى بلاد (ليديا) الواقعة في شمال آسيا الصغرى، وهذه البلاد كانت تقع غرب مركز حكومة كورش، وعندما نضع خارطة الساحل الغربي لآسيا الصغرى أمامنا، فسوف نرى أنَّ القسم الأعظم مِن الساحل يغرق في الخلجان الصغيرة وخاصةً قرب (أزمير) حيثُ يكون الخليج بشكل يشبه شكل العين. والقرآن يبيّن أنَ ذا القرنين في سفره نحو الغرب أحسَّ بأنَّ الشمس غرقت في عين مِن اللجن، هذا المشهد، هو نفس المنظر الذي شاهده (كورش) حينما تطمس الشمس في الخلجان الساحلية لتبدو لعين الناظر وكأنّها غارقة في تلك الخلجان الساحلية. أمّا الجيش الثّاني فقد كان باتجاه الشرق، وفي وصفه يقول المؤرخ (هيرودوت): إنَّ هذا الهجوم الكورشي في الشرق كانَ بعد فتح (ليديا) وخاصّة بعد عصيان بعض القبائل الهمجية التي أجبرت بعصيانها كورش على هذا الهجوم. وتعبير القرآن الذي يقول: (حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا) هو إِشارة إِلى سفر (كورش) إِلى أقصى الشرق حيث شاهد أنَّ الشمس تشرق على أناس لم يجعلوا لهم ما يظلّهم من حرّ الشمس، وهذه إِشارة إِلى أنَّ القوم كانوا من سكنة الصحارى الرحَّل. أمّا الجيش الثّالث فقد أرسله نحو الشمال باتجاه جبال القوقاز حيثُ وصل إِلى المضيق المحصور بين الجبلين، وبنى هناك سدّاً محكماً بطلب من أهل المنطقة، لكي يتحصّنوا به عن هجمات القبائل الهمجية من قوم يأجوج ومأجوج. المضيق يسمى في الوقت الحاضر مضيق (داريال) حيث يمكن مشاهدته في الخرائط المُنتشرة في الوقت الحاضر، ويقع بين (والادي كيوكز) و(تفليس) في نفس المكان الذي ما زال يظهر فيه حتى الآن الجدار الحديدي الأثري، والذي هو نفس السد الذي بناه (كورش)، إِذ ثمّة تطابق واضح بينهُ وبين ما ذكر القرآن مِن صفات وخصائص لسدَّ ذي القرنين).
ويختم الشيرازي حديثه بالقول: (هذه هي خلاصة الأدلة التي تدعم صحة النظرية الثّالثة حول شخصية (ذو القرنين)، صحيح أنَّ ثمّة نقاط مُبهمة في هذه النظرية، إلاَّ أنّها في الوقت الحاضر تعتبر أفضل النظريات في تشخيص شخصية ذي القرنين وتطبيق مواصفاتها القرآنية على الشخصيات التأريخية).
ونرى تطابق وصف الشيرازي مع وصف الطباطبائي تماماً، وهما مع ذلك لم يجزما بأن كورش هو نفسه ذو القرنين وإن رجّحه (الاثنان) على غيره لانطباق أكثر خصوصيات قصة ذي القرنين مع قصة كورش، ولكنهما لم يقطعا بذلك، وهذا شأن العلماء المحققين فهم لا يقطعون بالشيء ما لم يكن هناك دليل قاطع يؤكده، ولكنهم في نفس الوقت يميلون إلى الرأي المنطقي الذي تتوفر فيه أدلة أكثر كما فعل الطباطبائي والشيرازي وهذا واضح من خلال قوليهما.
وبوسعنا عقد مقارنة بين عرض البحث الموضوعي المتكامل الذي يعتمد على الأدلة والحقائق القاطعة التي لا تقبل النقض والذي امتاز به الفكر الشيعي، وبين غيره الذي تسوقه الأهواء والأمزجة، وقد رأينا أن الطباطبائي والشيرازي في بحثيهما كيف لا يؤكدان القول ولا يجزمان بالرأي ما لم يكن متكامل الأدلة والحقائق، ورأينا النموذج الآخر وهو عبد المنعم النمر وهو دكتور ومن علماء الأزهر، ومفكر إسلامي. وعضو في مجمع البحوث الإسلامية. وتسنم منصب وزير الثقافة ينساق وراء رأي واحد لم تكتمل أدلته ويتبناه ويقطع به.
أسطوانة كورش
دحض اكتشاف هذه الأسطوانة جميع الآراء التي قالت بأن ذا القرنين هو كورش، وتهاوت جميع الأدلة أمامها، فهذه الأسطوانة التي أكتشفها عالم الآثار العراقي هرمز رسام عام 1879 في أطلال مدينة بابل في العراق، وهي اليوم محفوظة في المتحف البريطاني، تقول: أن كورش لم يكن مؤمناً موحداً، فهذه الأسطوانة تبشر البابليين بأن: (الإله مردوخ أرسل كورش ليخلصهم من حكم الملك البابلي نبو نيد ولاستعادة السلام والنظام لبابل). كما تشير أيضاً إلى أن: (كورش كان موضع ترحيب من قبل شعب بابل كحاكم جديد ودخل المدينة بسلام). ويناشد النص: (مردوخ حماية ومساعدة كورش وابنه قمبيز). وتصف النقوش المسمارية المدونة على الأسطوانة كيف غزا كورش مدينة بابل: (بدعوة من الإله البابلي مردوخ)، كما تذكر أيضاً كيف حرر كورش (الأمم التي استعبدها البابليون، وأعاد آلهتهم العديدة إلى أماكنها المقدسة).
كما تمجد كورش كداعم لمواطني بابل الذين قام بتحسين حياتهم وأعاد النازحين إلى ديارهم واستعاد (المعابد والمقدسات الدينية) في جميع أنحاء بلاد ما بين النهرين وأماكن أخرى في المنطقة وتختتم مع وصف كيفية إصلاح كورش جدار مدينة بابل.
ومن المعروف أن البابليين في ذلك الوقت كانوا يعبدون الآلهة المتعددة فتركهم كورش على دينهم ولم يدعوهم للإيمان بالله، كما أعاد اليهود الأسارى إلى أورشليم وأكرمهم، وهنا يتضح سبب تقديسهم لكورش رغم أنهم يعلمون أنه كان يعبد الأصنام ويمجد صنم بابل مردوخ أو مردوك، ومما جاء في هذه الأسطوانة قول كورش: (مردوك (مردوخ) سيد الأكبر، صاحب القلب الكبير، الذي يحب بابل، حقق لي النصر، وأنا اعبده كل يوم بخشوع). وقد اعترف كورش رسمياً بمردوك، وهو كبير الآلهة البابلية. (24)
ويذكر عبد الحميد زايد نقلا عن الأسطوانة قول كورش: (أعدت إلى بعض المدن المقدسة على الضفة الأخرى لدجلة، المقادس التي كانت خرائب مدة طويلة، والتماثيل التي كانت تقيم فيها وأسست لها مقادس دائمة....) (25)
كما دلت نهايته على أنه لم يكن مؤمناً بالله حيث تروي التواريخ أنه قتل نفسه (انتحر) في المعركة التي هزم بها أمام البدو الماسجيتا، وهناك أمر آخر وهو أن المؤرخ هيرودوت اليوناني يقول: (إن كورش هو من أحفاد الملك الميدي أستياجيس)، وقيل: (كان صهراً لأستياجِس بزواجه من ابنته أميتيس)، وقيل: (إنه ابن الملك قمبيز من زوجته ماندين ابنة أستياجِس ملك الماديين)، وتؤكد الأسطوانة الرأي الأخير كما جاء فيها قول كورش: (أنا كورش، ملك العالم، الملك العظيم، الملك الشرعي، ملك بابل، ملك سومر وأكّاد، ملك الأطراف الأربعة للأرض، ابن قمبيز).
وفي كل هذه الأقوال يتضح أن كورش من أسرة حاكمة ولها تاريخ عريق في الحكم وهو يتعارض مع ما جاء في قول أمير المؤمنين بأنه: (لم يكن نبياً ولا ملكاً، ولم يكن قرناه من ذهب ولا فضة، ولكن كان عبداً أحب الله فأحبه الله ونصح لله فنصحه الله، وإنَّما سُمِّي ذا القرنين لأنه دعا قومه إلى الله عز وجل فضربوه على قرنه فغاب عنهم حيناً ثم عاد إليهم فضرب على قرنه الآخر، وفيكم مثله) فهذا الوصف يدل على أنه كان رجلا من عامة الناس فدعا قومه إلى الله، ثم آتاه الله الملك والحكم كما في قوله تعالى: (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآَتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا). إذن لا يمكن أن يكون كورش هو ذو القرنين.
جلجامش
تقول الأسطورة السومرية: (إنه خامس الملوك السومريين الذين حكموا أوروك وإن أباه كان رجلاً عادياً واسمه لوغال باندا، وأمه من الآلهة اسمها نيسون، وإن جلجامش هو الذي بنى سوراً حول مدينة أوروك والذي دمّره فيما بعد سرجون الأكدي). وتعد ملحمة جلجامش أقدم ملحمة في التاريخ وقد سبقت ملاحم اليونان بثمانية قرون وهي مكتوبة بخط مسماري على أحد عشر لوحاً طينياً اكتشفت لأول مرة عام 1853م في موقع أثري اكتشف بالصدفة وعرف فيما بعد أنه كان المكتبة الشخصية للملك الآشوري آشوربانيبال في نينوى بالعراق، وتوجد هذه الألواح الطينية التي كتبت عليها الملحمة في المتحف البريطاني، وهي مكتوبة باللغة الأكدية وتحمل في نهايتها توقيعاً لشخص اسمه شين ئيقي ئونيني الذي تكهن البعض أنه كاتب الملحمة. ورغم أنه ليس هناك أي أثر يشير إلى وجود جلجامش غير هذه الملحمة التي مُلئت بالأساطير والخرافات إلا أن بعض الباحثين والكتاب يعده شخصية حقيقية وإنه كان ملكاً حكم أوروك في القرن السادس والعشرين قبل الميلاد.
وقد يكون هذا القول من أغرب الأقوال لأن ما جاء في وصف جلجامش في الملحمة يدل على أنه شخصية أسطورية وقد احتوت الملحمة على أساطير وخرافات كثيرة منها الآلهة المتعددة وأن كلكامش: (كان طوله أحد عشر ذراعاً وعرض صدره تسعة أشبار ثلثان منه إله، وثلثه الباقي بشر)، إلى غيرها من الخرافات، وحتى لو سلمنا على وجود جلجامش وفق نظرية: أن الحكاية العراقية القديمة تحتوي على جزء كبير من الأساطير، فإن الوصف الذي جاء في الملحمة لجلجامش يتنافى تماماً مع الوصف الذي جاء في القرآن الكريم لذي القرنين ولا يمكن عقد أية مقارنة بين الشخصيتين وهذه أهم الفقرات التي جاءت في الملحمة:
كان جلجامش حاكماً ظالماً فشكاه شعب أوروك إلى (أنو) رب الأرباب الذي بدوره أمر أورورو أن تخلق أنكيدو المرعب نداً لجلجامش، فأخذت طينة ورمتها على الأرض فخلقت منها أنكيدو الذي كان الشعر يغطي كل جسمه، فتصارعا ثم أصبحا صديقين، ثم يموت أنكيدو فيحزن عليه جلجامش حزناً عظيماً وينوح عليه نوح الثكالى ويرتدي جلداً أسوداً ويتجول في البراري. وهو ما ينفي أن يكون جلجامش ــ إذا كان موجوداً ــ مؤمنا بالله.
أخناتون
وهو أمنحوتب الرابع ابن أمنحوتب الثالث وأمه تي، فرعون مصر حكم سبعة عشر عاماً (1353 / 1336) قبل الميلاد وفي عهده قام بتغيير ديني لتوحيد الآلهة وعبادة إله واحد وأمر بتهديم معابد كهنة آمون، بنى في زمن أبيه مدينة (تل العمارنة) التي صارت عاصمته بعد موت أبيه ونقل أسرته التي تتكون من زوجته نفرتيتي وبناته السبع إليها إضافة إلى حاشيته وأتباعه. وتشير المصادر التاريخية إلى أنه كان حاكماً ضعيفاً لا قدرة له على الحكم، حيث عمّت الحركات الانفصالية أرجاء المملكة وأدت تلك الانقسامات إلى ضعف مصر، بعد أن كانت في أوج عظمتها عند استلامه مقاليد الحكم، ولم تلد له زوجته نفرتيتي ولداً، فأهدت له أمه الملكة تي زوجته الثانية كيا، التي ولدت له ابنه (توت عنج آمون)، ولكن مشاكل المملكة تفاقمت عليه داخلياً وخارجياً وكان ابنه لا يزال صغيراً فزوّج ابنته (ميريت آتون) من أخيه الأصغر (سمنخ كارع)! ليساعده على إدارة الحكم في المملكة.
وفي عهده تفشت البطالة والفوضى ونقم الشعب المصري عليه وبدأ أتباعه يتسللون هرباً منه، وحتى زوجته نفرتيتي تخلت عنه وازدادت أحواله سوءاً بموت ابنته فانغمر في الملذات لعل ذلك يسليه، أما خارجياً فقد غزا الحيثيون البلاد وانتزعوا أجزاء كثيرة منها ولم يحرك هو ساكنا. وقد دلت الآثار التاريخية على أن الإله الذي يعبده ودعا إلى عبادته كان هو (الشمس)، كما دلت أيضاً على إقامته علاقات غير مشروعة تشعر القارئ بالتقزز منها إضافة إلى ارتكابه جرائم بحق الأسرى النوبيين الذين أحرقهم وهم أحياء بعد أن ارتكب بحقهم مجزرة عظيمة، ومن خلال هذه الصورة البشعة لإخناتون فإن من يقول بأنه هو ذو القرنين يسيء إلى شخصية عظيمة أثنى عليها القرآن الكريم. وهذا وحده ينفي هذا الرأي إضافة إلى كثير من المغالطات التاريخية التي جاء بها من قال به ولا نرى داعياً لذكرها.
تبَّع الحميري
تبع لقب كان ملوك اليمن يُلقَّبون به كقيصر للروم وكسرى للفرس والنجاشي للحبشة، وقد اختلف في اسم من كان منهم هو ذو القرنين، فقيل هو: (الصعب ابن الحارث الرائش بن الهمال ذي سدد بن عاد بن دلدار بن فخشد بن سام بن نوح (ع) وكان ملكاً من ملوك حمير وهم العرب العاربة)، قال بذلك ابن عباس، وكعب الأحبار، ووهب بن منبه، وابن هشام في (التيجان في ملوك حمير) وكان ابن هشام قد قال أيضاً إنه الإسكندر في السيرة. وقيل: (الصعب بن ذي مراثد بن الحارث الرائش بن الهمال ذي سدد بن عاد ذي منح بن عار الملطاط بن سكسك بن وائل بن حمير بن سبإ بن يشجب بن يعرب بن قحطان بن هود (عليه السلام)) عن المقريزي. وقيل هو: (أبو بكر بن سمي بن عمير بن إفريقس الحميري) كما قال أبو الريحان البيروني في (الآثار الباقية عن القرون الخالية)، وقيل: (عبد الله بن الضحاك بن معد بن عدنان). وقيل: (أبو الصعب الهميسع بن عمرو بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ). وقيل: (عبد الله بن قرين بن منصور بن عبد الله بن الأزد). وقيل: (عياش). وقيل: (مصعب بن عبد الله بن قحطان). وقيل: (أبو كرب صعب بن ذي المراثد أول التبابعة). وقيل: (عبد الله بن ضحاك بن معد ذو القرنين). وقيل: (الصعب بن مالك بن الحارث الأعلى بن ربيعة بن الجبار بن مالك). وقيل: (ذو القرنين أحد التبابعة العظام من الأذواء اليمنيين من نسل ملوك العرب حمّير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان بن هود (ع)) وقيل: (الضحاك بن مزاحم). وقيل: (ذا رياش). إلى غير ذلك من الأقوال المتضاربة.
وقال الحافظ في فتح الباري: (وأشهر هذه الأقوال وأرجحها هو الصعب كما قال العسقلاني في فتح الباري حيث يقول: ويؤخذ من أكثر هذه الشواهد أن الراجح في اسمه الصعب ووقع ذكر ذي القرنين أيضاً في شعر امرئ القيس, وأوس بن حجر, وطرفة بن العبد, وغيرهم). وقد جمع هذه الأقوال وغيرها المشابهة لها وأيّدها واستدل بها على أن ذا القرنين من العرب بأشعار العرب ورفض كل قول غيره، القاضي نشوان الحميري المتوفى سنة (573 هـ / 1178م)، في كتابه (خلاصة السير الجامعة لعجائب أخبار الملوك التبابعة).
يقول نشوان الحميري في كتابه بعد أن يعدد الأقوال في نسبه: (والصحيح الذي جاءت به الشواهد في كتاب الله تعالى وفي أشعار العرب، وقد وقع الإجماع فيه أنه من ولد قحطان بن هود (ع) وإنما وقع الاختلاف في نسبه إلى حمير أو كهلان فيما تقدم من الروايات).
أما اسمه وأي تبع هو ذو القرنين ؟ فيقول: (والصحيح أن ذا القرنين تبع الأقرن لأنه ولد وقرناه أشيبان فسمَّي بالأقرن)، ثم يستشهد على ذلك بقول أسعد بن ملكي كرب بن تبع الأكبر أبن تبع الأقرن:
قد كان (ذو القرنين) جدّي قد أتى *** طرفَ البلادِ من المكانِ الأبعدِ
فرأى مغـارَ الشـمسِ عند غروبِها *** في عـينِ ذي خلبٍ وثأطٍ حرمدِ
ودعا بقطرٍ قد أذيـــــــبَ فصبَّه *** ما بيــــنـه وكذا بنـــــــــاءُ المحقدِ
ملكَ المشارقَ والمـغـــاربَ يبتغي *** أسبــــابَ ملكٍ من حكيمٍ مرشدِ
كما يستدل بما جاء من آثار العرب القديمة ومنها خطبة قس بن ساعدة الإيادي الجاهلي التي ذكر فيها ذا القرنين حيث يقول: (أيها الناس، هل أتاكم ما لم يأت آباءكم الأولين ؟ أو أخذتم عهداً من السنين، أم عندكم من ذلك يقين ؟ أم أصبحتم من ريب المنون آمنين ؟ بل أصبحتم والله في غفلة لاعبين ! أين (الصعب ذو القرنين) ؟ جمع الثقلين، وأداخ الخافقين، وعُمِّر ألفين، لم تكن الدنيا عنده إلا كلمحة عين). ثم ذكر بيتاً لقس يذكر فيه ذا القرنين من قصيدة طويلة:
والصعبُ (ذو القرنينِ) أصبحَ ثاوياً *** باللحدِ بين ملاعبِ الأرياحِ
ويذكر حديثا عن أمير المؤمنين (ع) قوله لما سُئل عمن اجتمع له ملك الأرض كلها، فقال: (ملك الأرض كلها أربعة: مؤمنان, وكافران, فالمؤمنان سليمان بن داود، وذي القرنين اسمه الصعب بن عبد الله بن مالك بن زيد بن سدد بن حمير الأصغر بن سبأ الأصغر والكافران تبع والنمرود). ثم يصف نشوان ذا القرنين فيقول:
(هذا الملك الرائد وهو الذي يسمى به الأكبر لعظم ملكه وشدة وطأته، وهو تبع ابن الأقرن بن يرعش بن إفريقيس وكثير من حمير يقول أنه ذو قرنين السيار الذي بنى سد يأجوج ومأجوج، وأنه الصعب ذو القرنين بن الأقرن، فأقام عشرين سنة لا يغزو، ثم أتاه عن الترك ما ساءه من تطاولهم على من ببابل وتناولهم لأطاربفه، فسار إليهم على أرض نجد ثم على جبلي طيء ثم على الأنبار وهو الطريق الذي يسلكه الرائش وشمر يرعش، فلقيهم في أذربيجان فهزمهم وأذرع القتل فيهم وأسر منهم وسبى ثم جال في بابل وبلد خرسان وفارس ثم توجه إلى نحو الصين فافتتحها واستباحها، وأخذ ما كان من الأموال وقتل ملكها يعبر وأقام بها مدة، ثم قفل وخلف في التبت في صدره جيشاً عظيماً رابطة, فأعقبهم بالتبت إلى اليوم, قال عبيد بن شرية: (وهم التبتيون, وإذا سئلوا عن أنسابهم؟ أخبروا: أنهم من العرب وإن لهم بيتاً يعبدون فيه ربهم ويطوفون حوله أسبوعاً ويذبحون وذلك في شهر من السنة)
وهو يدافع عن رأيه بقوة فيذكر رواية لابن الأثير وهي: أنه وفد على رسول الله (ص) في اثنين وسبعين رجلاً من الحبشة، وأن النبي (ص) قوّدني عليهم وعقد لي راية صفراء ذراعين في ذراعين، وفيها هلال أبيض وعذبتان سوداوان وبينهما عذبة بيضاء، وجعل لي شعارنا كل خير، وكان منهم: ذو مجبر، وذو مهدم، وذو مناحب، وذو دجن، فقال لهم (ص): انتسبوا فقال ذو مهدم:
على عهدِ (ذي القرنين) كانت سيوفُنا *** صوارمَ يفـلـقـنَ الحديدَ المذكّرا
فـمـن كـان يـعـمـى عـن أبـيـــهِ فـإنـنــا *** وجدنا أبـانا العدمليَّ المشهرا
وهوداً أبونا سيـــــدُ النـــــاسِ كلهمْ *** وفي زمنِ الأحقافِ عزاً ومفخرا
ثم يذكر قول ابن الأثير على هذه الحادثة وهو: وقال ابن الأثير الجزري في أسد الغابة عقب ذكره لهذه الأبيات للصحابي ذو مهدم: وهود أبونا فيه نظر فإن هوداً لم يكن أبا للحبشة ولعله من العرب وقد سكن أرض الحبشة والله أعلم.
ولكن نشوان يجد لهذه الرواية مخرجاً فيقول: لعلهم عرب من اليمن سكنوا الحبشة وهي بجوار اليمن وأتوا من الحبشة، فليس هناك ما يدل على أنهم ليسوا عرباً، ولو لم يكونوا عرباً لما انتسبوا إلى هود (ع) وهو جد قحطان على الصحيح من النسب والله أعلم.
ويعلق على قول تبع الحميري:
قد كانَ (ذو القرنيـن) قـبلي مسلماً *** ملكاً تديـنُ له الملوكُ وتحشدُ
من بعدهِ بلقيـسُ كــــانت عمَّتي *** ملكتهمُ حتــــــــــى أتاها الهدهدُ
فيقول: إن ذا القرنين أحد أجداد تبع الحميري، وكلمة جدي هي الأصل لأن المقام مقام فخر وانتساب لذي القرنين، فلا يعقل أن يقول قبلي لأنه لا فائدة بأن يفتخر بمن قبلة إن لم يكن من أصله ونسبه !! وهذا فيه دليل على أن ذي القرنين من أصل عربي، وقوله: وذي القرنين جدي كان مسلماً، إلى أن قال: (وعمتي) بلقيس، وفي هذا دليل على أن بلقيس ابنة ذي القرنين وذلك لقوله جدي، ومن ثم بعدها عمتي أي أن بلقيس هي ابنة ذي القرنين، ومعلوم أن بلقيس من اليمن بلا خلاف في ذلك، ومما يؤكد ذلك أنه ذكر أكثر المفسرين وأهل السير والأخبار والأنساب بالإجماع أن بلقيس قد ترك لها والدها ملكاً عظيماً، وهذا ما ينطبق على ذي القرنين، فقد كان أحد الأربعة الذين حكموا الدنيا والأرض جميعاً، هذا والله أعلم وأحكم).
وقد رويت هذه الأبيات لأمية بن أبي الصلت أيضاً، ومما قيل عن ذي القرنين أيضاً: هو ذو القرنين الصعب، ويكنى ذا رياش بن مالك بن الحارث ذي مراثد بن الخيار بن مالك بن زيد بن كهلان، وذو القرنين اسم عربي من الأذواء وهو من المعمرين، وكان فيما يذكرون والله أعلم أنه عمر ألفا سنة، وقد جاءت بذلك الشواهد من الأشعار، كما نسبت إليه أشعار منها قوله بعد رجوعه لمّا نعيت نفسه إليه فجعل يخاطب نفسه:
(صعـــــــبُ) حـقـاً كــلُّ شــيءٍ ذاهـبٍ *** إلاّ الإلهَ الـواحدَ المعبودا
هتكت خطوبُ الدهرِ عمرَك هتكةً *** أمسى حسـامُـكَ دونها مغمودا
عمِّــــرتُ ألفـاً بعـد ألـفٍ قبلها *** في العـــــالميـنَ فـقد دُعيتُ وحيدا
وقصدتُ آفـاقَ البــلادِ بقدرةٍ *** فوجــــــدتُ نحــــساً دونها وسعودا
فهديتُ فيها مؤمــناً ذا همَّة *** ونشزتُ مـــنـــــــــها كافـراً وجَحودا
ورأيتُ عينَ الشمـسِ عـند سقوطِها * ووردتُ أمــواجَ المحـيطِ ورودا
وبلغتُ أعلامَ المشـارقِ كلها *** أبغي بـــــــــــــما أبـغي لهـنَّ حدودا
فوطئتُ يأجـوجاً ومأجوجاً بها *** وبنيـتُ ســدّاً دونهـا وحـــــــــديدا
وجعلتُ عن شريـــهما مندوحةً *** فالفجُّ عن صـدفيــــهــما مقصودا
وولجتُ في الظلمـاتِ حين ولجتها *** خوفاً وكـان رتاجُـــها محدودا
ولقيتُ تحتَ الشمــسِ قوماً خلتهم *** تحتَ الظلامِ خنــــازراً وقـرودا
وعلوتُ في الدنيا بعـزّةِ قاهرٍ *** أكدتُ فيـــــــــــــــــــــها للبقا تأكيدا
حاولتُ أنَّ أعطى الخـلودَ وأرتقي ** في الخـافقين إلى السماءِ صعودا
فأبى ليَ اللهُ الذي أمّـلته *** أمس المـنى دون الرضـــــــــــــا ممدودا
ذو القرنين في الشعر العربي
أما الأشعار التي ذكرت ذا القرنين فهي كثيرة وردت على ألسن شعراء جاهليين وإسلاميين منها:
قال الأعشى بن ثعلبة وقيل: إنها للبيد بن ربيعة العامري:
والصعب (ذو القرنين) أمسى ثاوياً *** بالحنوِ في جــدثٍ هناك مقيمِ
وتزعنَ من داودَ أحسـنَ صنعةٍ *** ولقد يكــــــــــــــــون بقوةٍ ونعيمِ
صنعَ الحديدَ لحفظه أســـــــراده *** لينـــال طولَ العيشِ غيرَ مرومِ
وقال الربيع بن ضبع الفزاري:
سيدركني مـــــــــا أدركَ المــــرءَ تبّعاً *** ويغتـالني ما اغتالَ أنسرَ لقمانِ
أجارَ مجيرَ النمـلِ مــن عزِّ ملكِه *** وأنزلَ سيـفَ البأسِ من رأسِ غمدانِ
وألوى (بذي القرنين) بعد بلوغه *** مطالـعَ شمسٍ الأرضِ بالإنسِ والجان
وقال الربيع أيضا:
لا بد أن ألقى المـنـونَ وإن نأتْ *** عني الخطـوبُ وصرفها المحتوما
هلا ذكــرتَ لــــه العرنجــج حِميَرا *** ملك الملـوكِ على القليبِ مقيما
والصعبُ (ذو القرنين) عمِّرَ ملكه *** ألفين أمــــســى بعد ذاك رمـيما
ونبت به أسبــــــــــــــابُه حتى رأى *** وجهَ الزمــانِ بما يسوءُ شتيما
وقال أيضا:
ألا أين (ذو القرنين) ؟ أين جمـوعُه ؟ *** لقد كثـرت أسبابُه ثم قلّتِ
خرفت وأفنتني السنـون التي خلتْ *** فقد سئمتْ نفسي الحياةَ وملّتِ
وقال حسان بن ثابت الأنصاري يفتخر بذلك ويذكر أن منهم ذو القرنين ومسيره في البلاد، وبناءه السد في قصيدة طويلة منها:
لقد كان قحطـانُ النـدى القرمُ جدُّنا *** له منصبٌ فــي رافعِ السمكِ يشهرُ
ينالُ نجـــــــــــــومَ الســـــعدِ إن مـدَّ كـفّه *** تقلّ أكــفٌّ عند ذاكَ وتقصرُ
ورثنا سنــاءً مـنه يعلـو ومـحتـداً *** منيفَ الذّرى ســامـي الأرومةِ يذكرُ
إذا انتسبتْ شـوسُ المــــلوكِ فإنّما *** لنا الرايةُ العليـا الـتي ليسَ تكسرُ
لنا ملكُ (ذي القـرنيـن) هلْ نالَ ملكَه ** من البشرِ المخلوقِ خلقٌ مـصوَّرُ
بواترُ يتلو الشمــسَ عــند غـروبِها *** لينظرَها في عيـنِـها حـــين يدخرُ
ويسمو إليها حين تطـــــــــــــلعُ غدوةً *** فيلمحُها في برجِـها حين يظهرُ
وكيلاً بأسبابِ السمــــــــــــــــــاءِ نهاره *** وليلي رقيـباً دائــماً ليس يفترُ
وأوصدَ سداً من حديـدٍ أذابَه *** ومن عينِ قــــــــطرٍ مفرغاً ليــسَ يظهرُ
رمى فيه يأجوجاً ومأجـوجَ عنوةً *** إلى يومِ يدعى للــــــحســابِ وينشرُ
وقال النعمان بن بشير الأنصاري:
ومن ذا يعـادينا من الناسِ معشرٌ *** كرامٌ و(ذو القـرنين) منَّا وحاتمُ
وقال عبد الملك بن عبد الرحيم الحارثي يفتخر بذي القرنين ويخاطب قوماً من مضر:
سمُّوا لنا واحداً منكـمْ فنعـرفه *** في الجـاهليةِ لاسـمِ الملكِ محتمِلا
كالتبعينِ و(ذي القرنين) يقبله *** أهل الحجى وأحقّ القول ما قبلا
وله أيضاً:
فسمُّوا كـ (ذي القـرنين) نعرفْ فضلَكم *** به إن فـي اليومِ المبيـنِ لَـشافيا
لنا الشـرقُ والغربُ احتيالاً وقوةً *** فأبقى لنـــــــــــــا غادٍ به الـدهرُ باقيا
بنى دون يـأجــــــــوجٍ ومأجوجَ إذ رأى *** فسادهمُ ردماً لدى الـسدِّ راسيا
دعا إذ أتـاهُ بالحديــــــــــــــــــــــدِ فأزَّهُ *** ولاءمَ بالقطرِ المــــذابِ السآبيا
فما قَـدَروا أن ينقبــــــــــــوهُ بحيـلةٍ *** ولا وجدوا فــيه لــــــرجــلٍ مراقيا
فقد سـارَ عرضَ الأرضِ قـدمـاً وطولـها وما كـان فيها واهـنَ البـطشِ واهيا
فنُـودي لمـا سارَ والشمـسُ خـلفه * على الماءِ (ذا القرنين) قفْ واحفِ طافيا
فقد جئتَ حيثُ الأرض والظـلمة التي ** مررتَ بها تهوى على المـاءِ ماشيا
وكان اسمه في قومهِ الصــعب لـــم يكن *** له اسم قرنٍ يستـحقُ المماريا
ورثى علقمة بن ذي جدن ذا القرنين في جملة من ذكر من ملوك قحطان فقال:
أين الذي بلغَ الـمـشـارقَ كلها *** ومغاربَ الأرضِ التي لم تعمرِ
وبنى على يأجـوجَ ردماً راصفاً *** بالقطرِ لم ينـــقبْ ولما يظهرِ
فتناولته منيةٌ قصــــــدت به *** فأجابَها ومضــى كــــأن لم يذكرِ
ويقول طرفة بن العبد:
فكيف يرجي المرءُ دهـراً مخلداً *** وأعماله عما قليلٌ تحـــــــاسبُه
ألم ترَ لقمانَ بن عــادٍ تتـابعت *** عليهِ نسورٌ ثـمّ غابـــــتْ كـواكبُه
وللصعبِ أسبــــــابٌ تجلُّ خطوبُـها *** أقامَ زماناً ثـمّ بـانتْ مـطالبُه
إذا الصعبُ (ذو القرنين) أرخى لواءَه * إلى مالكٍ سـاماهُ قامتْ نوادبُه
يسيرُ بوجهِ الحتفِ والعـيشُ جمعُه* وتمضي على وجــهِ البلادِ كتائبُه
وقال النعمان بن الأسود بن المعترف بن عمرو بن يعفر بن سكسك المقعقع الحميري يرثي ذا القرنين الحميري:
بحنوِ قراقرٍ أمــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــسى رهيناً *** أخو الأيامِ والدهـــــرِ الهجانِ
لئن أمستْ وجوهُ الـدهرِ سُـوداً *** جلينَ لذلكَ المـلكَ اليماني
لقد صحبَ الردى ألفيـــن عاماً *** ولاقاهُ الحـمـامَ على ثمانِ
إذا جاوزتَ من شرفـاتِ حنوٍ * وسرتَ بـأيك بـرقة رحرحاني
إذا جزتَ العقيقَ بـأرضِ هندٍ ** إلى القنـواتِ والنـخلِ الدواني
هناكَ الصعبُ (ذو القرنـين) ثاوٍ * بأرضِ تنـوفةِ الحنوينِ عاني
ألم ترَ أنَّ حنوَ الرمـلِ أمسى *** لملكِ الدهــــــرِ والدنيا مغاني
وقال امرؤ القيس يذكر ذا القرنين الصعب بن ذي مراثد:
ألمْ يحزنكَ أنَّ الــدهرَ غولٌ *** ختورُ العـــــهدِ يلـتهمُ الرجالا
أزالَ عن المصانع (ذا رياشٍ) *** وقد ملكَ الســهولةَ والجبالا
همامٌ طحـطحَ الآفــاقَ وجياً *** وقادَ إلى مشـــــــارقِها الرعالا
وسدَّ بحيث ترقى الشمسُ سدّاً *** ليأجوجٍ ومأجــــــوج الجبالا
وقال تبع الأكبر يذكر سير ذي القرنين إلى البلاد وفتحها:
أنا تبَّعُ الأملاكِ من نسـلِ حِمْيَرٍ *** ملكنا عبـادَ الله في الـزمنِ الخالي
ملكناهم قهراً وسـارتْ جـيوشُنا *** إلى الهنـدِ والأتراكِ تتـرى بأبطالِ
وتلك بـــلادُ اللهِ قد وطِئـتْ لنا *** خيولٌ لعمـري غـيـر نكسٍ وأعزالِ
فمــالتْ بنا شرقُ البـــلادِ وغـربُها *** لهتكِ ستـورٍ نكبــةٍ ذاتِ أهجالِ
وعطّلَ منها كل حُصــــــــنٍ مُـمنَّعٍ *** ونقّلَ منها ما حـوته من الـمالِ
وتلك شروق الأرض منها وطأتها إلى الصينِ والأتراكِ حالاً على حالِ
فإبنا جميعاً بالسبــايا وكلنا *** على كل مـــحبـــوكٍ من الخيلِ صهَّالِ
بكلِّ فتاةٍ لم ترَ الشمـسُ وجهَها ** أسيلةَ تجــــري الدمع بيضاءَ مكسالِ
سَمُوتُ البرى غرثى الوشـاحِ كأنها من الحسن بدرٌ زالَ عـن غيمِ هطّالِ
أتينا بها فوقَ الجمالِ حـــــــــواسراً *** بلا دمـلجٍ باقٍ عليـها وخلخالِ
تركناهمُ عزلاً تطيحُ نفوسُـــــــــــهم *** فلا ساكنٌ مـنهمْ مقيمٌ ولا والِ
فما الناسُ إلا نحنُ لا ناسَ غيـرُنا * وما الناسُ إنْ عـدّوا لقـومي بأمثالِ
ولنشوان الحميري أشعار كثيرة في التفاخر بحمير وتبابعة اليمن لا تختلف في تفاخرها بالغزو والسلب والسبي عن الأشعار الجاهلية وأبرزها القصيدة الحميرية، أو قصيدة التيجان، وتبلغ (137) بيتا يقول منها يذكر ذا القرنين:
والحـارثُ الملكُ المسـمَّى رائشاً * إذ راشَ مـن قحطانَ كلَّ جَناحِ
وحَبـاهمُ بغنـائـمِ الـفُـرْسِ التي *** فاضتْ علــى الجنديِّ والفلاَّحِ
وغـزا الأعـاجمَ فاستباحَ بلادَهمْ *** مَلِكٌ حِمــــاهُ كان غيرَ مُباحِ
وله أيضا:
ومنا الذي بالخـــافـقـيـنِ تـغـرّبـا *** وأصـعد في كـل البلادِ وصوَّبا
فقد نالَ قرنَ الشمسِ شرقاً ومغربـاً * وفي ردمِ يأجـوجٍ بـنى ثم نصَّبا
وذلك (ذو القرنـين) تفخرُ حِمْيَرٌ ** بعسكر قيلٍ ليس يُحصى فيحسبا
هل كان الصعب حقاً ؟
إزاء ما تقدم من الأقوال والأشعار التي تشير إلى أن ذا القرنين هو الصعب الحميري أو الأقرن أو غيره من ملوك حمير فإنه لا يمكن الأخذ بكل هذه الأقوال وذلك لعدة أسباب منها: الاختلاف الكبير في اسمه بين المفسّرين والمؤرخين، وإذا اعتمدنا على أشهر تلك الأقوال وهو الصعب الحميري فإن الأوصاف التي أطلقت عليه لا تتطابق تماماً مع أوصاف ذي القرنين التي جاءت في القرآن الكريم، إذ دلت الأشعار ــ إن صحّت ــ على أن الصعب هذا كان ملكاً غازياً يستبيح البلاد فيقتل ويسلب ويسبي ويأتي جيشه بالنساء والفتيات من البلاد البعيدة إلى بلاده كما جاء في وصفه: (وما كان فيها واهنَ البطشِ واهيا)، و(ملكناهم قهراً)، و(لهتك ستور نكبة ذات أهجال)، و(فإبنا جميعاً بالسبايا)، و(أتينا بها فوق الجمال حواسراً بلا دملج باق عليها وخلخالِ)، و(وعطّلَ منها كل حُصنٍ مُمنَّعٍ ونقّلَ منها ما حوته من المالِ)، إلى غيرها من الأعمال البشعة التي لا يمكن أن تصدر عن رجل مؤمن أثنى عليه الله تعالى في كتابه كذي القرنين.
كما يوجد فارق شاسع بين خطاب ذي القرنين في القرآن وخطاب الصعب في الشعر المنسوب إليه ففي القرآن كان خطابه يدل على تواضعه لله وطاعته وعبوديته كقوله وهو يستعين بالله على بناء السد: (قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ)، وقوله ينسب بناء السد إلى رحمة الله وعنايته به: (قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي). أما خطاب الصعب فكان خطاب الملك المتغطرس الجبار الذي يتفاخر بدحره العدو وينسب ذلك لنفسه كقوله:
فوطئتُ يأجـوجاً ومأجوجاً بها *** وبنيـتُ ســدّاً دونهـا وحــديدا
**********************************************************
وعلوتُ في الدنيا بعــــــزّةِ قاهرٍ *** أكدتُ فيــها للبقا تأكيدا
ويستطيع القارئ نفي هذه النسبة بالمقارنة بين ذي القرنين وأخلاقه العظيمة وبين هذا الوصف المرعب الذي وصف به نشوان الصعب: (فلقيهم في أذربيجان فهزمهم وأذرع القتل فيهم وأسر منهم وسبى ثم جال في بابل وبلد خرسان وفارس ثم توجه إلى نحو الصين فافتتحها واستباحها، وأخذ ما كان من الأموال وقتل ملكها يعبر وأقام بها مدة، ثم قفل وخلف في التبت في صدره جيشاً عظيماً رابطة, فأعقبهم بالتبت إلى اليوم, قال عبيد بن شرية: (وهم التبتيون, وإذا سئلوا عن أنسابهم؟ أخبروا: أنهم من العرب وإن لهم بيتاً يعبدون فيه ربهم ويطوفون حوله أسبوعاً ويذبحون وذلك في شهر من السنة) ماذا يعني هذا ؟ يعني أنه أباح نساء وفتيات التبت لرجاله ! ولا أدري كيف سمحت لنشوان نفسه أن ينسب هذه الأعمال الشنيعة إلى رجل مؤمن ؟
ثم أن الأشعار التي وصفت الصعب ــ على أنه ذو القرنين ــ ذكرت أنه مشى على الماء مثل:
فقد جئتَ حيثُ الأرض والظـلمــة التي *** مررتَ بها تهـوى على المـاءِ ماشيا
وفنُـودي لمـا سارَ والشـمسُ خـلفه *** على الماءِ (ذا القرنين) قفْ واحفِ طافيا
ولم يرد هذا الشيء لا في القرآن الكريم ولا في أحاديث النبي (ص) ولا الأئمة (ع) ولا المفسرين ولا المؤرخين، كما أن كتاب نشوان الحميري تشم منه رائحة القومية التي تطغى على المنطق، والمبالغات والخوارق التي جاءت في الأشعار القديمة. إذن فنسبة ذي القرنين إلى الصعب وغيره من ملوك حمير غير صحيحة مطلقاً.
عوداً على بدء
وإضافة إلى الأسماء التي ذكرها المؤرخون والتي أطلقوها على ذي القرنين إضافة إلى ما ذكرناها فهناك أسماء أخرى ذكرها اين اسحاق في تاريخه حيث يقول: ذو القرنين هو رجل من أهل مصر، اسمه مرزبان بن مردبة اليوناني، من ولد يونان بن يافث بن نوح. وقيل: هو ملك اسمه هرمس، وقيل: ملك اسمه هرديس. وقيل: إن ذا القرنين هو أبو كرب شمر بن عبير بن أفريقش الحِميَري فإنه بلغ ملكه مشارق الأرض ومغاربها وهو الذي افتخر به أحد الشعراء من حمير.
ولم يقتصر الاختلاف بين المؤرخين والمفسرين حول هوية ذي القرنين بل وقع الاختلاف بينهم في أي زمن عاش فقيل: في زمن إبراهيم (ع)، وإنه مرّ على إبراهيم وإسماعيل وهما يبنيان الكعبة، وقيل: عاش في زمن موسى، وقيل: في زمن داود، وقيل في زمن الخضر, كما اختلف في عمره ومدة حكمه، والسد الذي بناه، وأقوام يأجوج ومأجوج وتفاصيل رحلته. كما اختلف في سبب تسميته إلى أقوال كثيرة لا يسعنا حصرها.
النتيجة
يتضح من خلال كل ما تقدم أن ذا القرنين لقب أطلق على العديد من الملوك وليس ذا القرنين الذي ذكر في القرآن وحده، ويؤيد ذلك أن قرون الكبش كان يلبسها الملوك في مختلف الأمم والعصور للدلالة على القوة والمنعة، كما يؤيده ما جاء في باب ذكر الأذواء من اليمن للمبرد: فأما في الجاهلية، فيكثرون نحو ذي يزن، وذي كلاع, وذي نواس, وذي رعين, وذي أصبح, وذي المناور, وذي القرنين.
وقد سخّر كثير من المغامرين هذا اللقب لبناء آرائهم عليه، كما يقول الشيخ مكارم الشيرازي عن آزاد: استفاد كثيراً مِن هذا اللقب لإِثبات نظريته. كما استغل ذلك المؤرّخون والمرجفون والوضاعون وكثرَ الدسّ في هويته وقصته وغلب على أكثرها الخرافات والأساطير، فالقرآن الكريم بيّن من خلال قصته العبرة والفائدة والدرس الذي يجب أن نتعلمه وهو نصرة الضعيف والاصلاح في الأرض.
محمد طاهر الصفار
الهوامش
........................................
1 ــ دراسات فنية في قصص القرآن ص 293 ــ 294
2 ــ الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل ج ٩ ص ٣٦٦
3 ــ الميزان في تفسير القرآن السيد الطباطبائي ج ١٣ ص ٣٦١
4 ــ بحار الأنوار للمجلسي ج 12 ص 178 / علل الشرائع للصدوق ج 1 ص 39 / كمال الدين ج 1 ص 393 / ميزان الحكمة لمحمد الريشهري ج ٤ ص ٣٠٧٠ وغيرها من المصادر.
5 ــ الخصال ج 1 ص 248
6 ــ جامع البيان في تأويل القرآن المعروف بـ تفسير الطبري ج 3 ص 433
7 ــ الجامع لأحكام القرآن ص 302
8 ــ البداية والنهاية ج 2 ص 122
9 ــ روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني ج 8 ص 346
10 ــ الغدير في القرآن والسنة ج ٦ ص ٣١٣
11 ــ الدر المنثور ج 9 ص 630
12 ــ خطط المقريزي ج 1 ص 287
13 ــ سفر المكابيين الأول الاصحاح 1
14 ــ محيي الدين أحمد بن خير الدين: (1888/ 1958) أول وزير للتعليم في الهند بعد الاستقلال، له تفسير للقرآن بعنوان (ترجمان القرآن) بالأوردية إضافة إلى العديد من الكتب, وأسس مجلة الهلال وكان له نشاطات سياسية وفكرية وأدبية.
15 ــ دائرة المعارف الإسلامية الشيعية ج 2 ص 420
16 ــ كورش الكبير ص 61
17 ــ مجلة العربي العدد 184
18 ــ الميزان في تفسير القرآن ج ١٣ ص ٣٩١)
19 ــ فيلسوف هندي (1817 / 1898) مؤسس جامعة عليكرة بالهند والذي عرف بآرائه الجريئة والمثيرة للجدل التي تفرد بها، كما عرف بآرائه الكثيرة في تفسير القرآن التي لم يقل بها غيره، والتي لا تزال إلى اليوم مثار جدل وانقسم الناس حوله بين مؤيّد ومكفّر.
20 ــ الإصحاح 1
21 ــ الإصحاح 6
22 ــ الإصحاح 44 ــ 45
23 ــ الإصحاح الثامن 1 – 9
24 ــ في البند 23
25 ــ نصوص الشرق الادنى القديمة المتعلقة بالعهد القديم ص ٣١٦.
اترك تعليق