الريادة الفنية في الرسم العراقي.. يحيى الواسطي انموذجاً

ان الريادة بشكل عام كانت من آثار حقبة المبدع وقد ربطت عادة بالانفعال والوجدان لكي تكون عقدة لها القابلية على كسر حكر الما قبل لتطرح نفسها على انها نقطة التحول، وهي التي نتجت عنها تلك الصور غير المألوفة او غير المعرفة في الفن قبل ذلك.. ولها ايضاً القابلية على احضار قيم ابداعية، ميزتها الجدل وتكون قاهرة فهي تمتلك القدرة على جعل المسار متغير الاتجاه ومنحرفا عما كان عليه، وبالتالي فهي تفرض نفسها بطريقة قاهرة باتجاه تسييد سطوتها الريادية فتصبح رائدة في هذا المسار الذي يمتاز بانه جديد.. بل ويذهب الى ابعد من ذلك كما يرى بعض منظري الفن فان الفنان العظيم حسبما يرون انما هو ذلك الشخص الذي يصدر عند ابداعه انفصال جديد واصيل بحيث يولد في انفسنا احاسيس جديدة، او عواطف لم يكن لنا بها عهد او انفعالات لم تكن في الحسبان،  فالريادة تجعل من الفن  دائم التحول وهي اللبنة الاولى في بناء انساق الفن.. فهي زمنية وتاريخية فضلاً عن  الامكانات التي تجعل الاشياء تقف عند نقطة معينة وتقهرها لكي تغير مساراتها البنائية، وان مثل هذه الامكانات تتعلق بالأبداع الخلاق  من خلال المفاجئة التي يحدثها الاكتشاف في لحظة من الزمن، وان الريادة  تحتاج دائما بعد ولادتها الى حاضنة تدعم نموها وانتشارها وتصنع تمفصلاتها التي من خلالها تبني نسقها الخاص في مجريات التاريخ.

ولا شك ان الريادة يجب ان تكون نتيجة فعل انساني  قائم على اساس الادراك سواء كان حسي او مادي، شريطة ان يكون هذا الادراك تحولي قادر على تغيير المسارات، والتي تكون في الاساس قائمة على توالد الرؤى من خلال مناطق متفردة وكأنها ومضات لم تكن موجودة قط، وتأتي أيضاً بفعل فكري تجريبي منطلقاً من نقطة القصد لغرض التحول، وهذا يحتاج الى ما يعرف بالاستعارة التي تكون بمثابة الخدعة في التفكير عن طريق تركيب اطارين مرجعيين مركبين واجراء تنافس بينهما مع الابتعاد عن اي من الطرق التي يكون فيها احدهما- الاطارين المركبين - يخالف الآخر على نحو مؤذ.. وترك الحرية للعقل ليدور حول الحافات والحدود التي بأمكانها ان تلتقط ومضات من بعض التشابه الغير محتمل..

لذلك فالريادة تشبه الاشارات الالكترونية الملتقطة في الاجهزة الالكترونية الحديثة، والتي تكون قد صدرت قبل ذلك وحددت وعرفت الاطياف الموجبة ومديات التردد التي يمكن رصدها بها، غير ان تحديد نوع الاشارة على انها جديدة غير ملتقطة من قبل له او خاص كونه اكتشاف جديد يشكل تحولا وانعطافا في المسيرة المعرفية في ذلك النسق بما يعرف بالمكتشف الاول،  لذا فالريادة لها اشكال متعددة وهي معتمدة على طبيعة تكوينها وليست بالضرورة ان تكون مطلقة في المحتوى.. بل قد يكون بالامكان ان تتوالد وتنشطر منها ريادات قائمة على الاساس الاستعاري وقد تكون اكثر تحولا في خلق تمفصلات جديدة وغير مسبوقة ، كما هي موجودة في الفن التشكيلي حيث توالد الريادات من بعضها البعض وبشكل متدرج ومن ثم حدوث انحراف عن المسار التاريخي للفن وهي مصحوبة بسيل من  التجارب المتعددة والمتعاقبة حتى الوصول الى لحظة  ينعطف بها التاريخ مرة اخرى وتكون هي الاولى، فالريادة ان صح القول هي مغامرة الفنان التاريخية المسندة بمجموعة من العوامل التي ساعدت على نشوئها لخلق تحولها او تمفصلها، وان اول هذه العوامل هي التحولات التي طرأت على الفن التشكيلي بشكل عام  وادت الى تحوله من الموضوعي الى الذاتي ومن ثم الى الموضوعي والذاتي معاً ومن الاساليب الحقبية الزمنية الى الاساليب الفردية الخاصة.. وهذا ما يلاحظه المتتبع لمسيرة فن الرسم في العراق.

لقد بدأت الريادة الفنية في الرسم العراقي بشكل فعلي عند انبثاق مدرسة بغداد للتصوير وعند رائدها  ومؤسسها يحيى بن محمود الواسطي من خلال مقامات الحريري التي اصبحت منطلقاً للتشكيل العراقي بشكل او بآخر، فقد كانت من المخطوطات الادبية التي اقبل على تزويقها في بغداد وكتبت وزوقت في القرن السابع الهجري على يد الواسطي، وتعد من ابدع التصاوير التي وصلت الينا من مدرسة بغداد والتي تعد ايضاً المثل الكامل للتصوير.. فهي قد كانت من ابرز علامات الريادة بالرسم في بغداد وتمثل في نفس الوقت مفصلا اعطى للرسم الاسلامي شكله الخاص واظفت على تشكيل سياقه الفني منطلقا مهماً، حيث اتخذت نموذجا رصيناً للفن العربي المتمثل بما يوضع على جدران المساجد والقصور وقباب الجوامع ومنائرها.

وقد انطلق هذا النوع من الفن  كما كان معتاد في الفن العربي الاسلامي بتكرار النموذج او العنصر الفني،  مع الحفاظ على النسب وتجريدية المواضيع المرسومة، غير ان الخروج الاول عن المألوف على يد الواسطي قد مثل الهروب الاول من النموذج والدخول في مرحلة التأسيس للفن العربي الحر، وهذا ما شكل نقطة الانطلاق  التي قادت الى ظهور مدرسة بغداد،  فالواسطي ليس رساما فحسب بل فنانا اضاف الى الرسم روحيته الخاصة ، من خلال فهمه المتفرد في رؤية العالم آنذاك..  فكان في تلك اللحظة ان اتخذ الفن شكله وفق الطابع المفاهيمي او الصيغة المفهومة لفن ذلك العصر الذي شارك بطرحه يحيى الواسطي ومن حذا حذوه فقد  كان مؤلفا ثانياً للنص وموضحاً له، اكثر منه ناقلا من بيئة الادب الى بيئة الرسم.

جعل يحيى الواسطي من النصوص الفنية تحررية على نحو جعل من رسوماته تتسم بالريادية في صياغة البنية البصرية لفن الرسم في بغدد فكان الرسم عنده يشكل فرصة سانحة لكبح الواقع بالاستناد الى الشكل البصري المتمتع بالاستقلالية عن نماذجه العيانية،  وعليه فان تلك الخاصية التأليفية هي التي مكنت نتاجات الواسطي بان تصطبغ بطابع الريادة،  من خلال المفاهيم التي طرحتها رسومه مجسدة فرادة الاسلوب و الرؤية الاخراجية التي شكلت لهذه الرسومات مفصلاً خاصاً بها في تاريخ فن الرسم في العالم، وحتى يومنا الحاضر لما اعطته تلك الرسومات من خزين تراثي رفد الحركة التشكيلية في العراق وامتدت تأثيراتها الى العالمية لما تمتعت به من رؤية مجردة نقلت فن الرسم بعيدا عن النزعة الطبيعية،  فالتحوير والتسطيح والاختزال الشكلي قد مثلت المحرك الاساسي في بناء الخارطة البصرية لمدرسة بغداد في ميدان الرسم، فتقنية التسطيح تعد من العناصر المميزة للفن الاسلامي ومنها كان الابتعاد الكلي عن المحاكاة اليونانية الهلنستية،  ومن خلال مجموعة المفاهيم كان فنا جديدا ذا طابع خاص وشاعرية مميزة تعبر عن مفهوم اجتماعي خالص،  ففي الوقت الذي كانت فيه الرؤية في الفن الغربي تفرض هيمنتها على النتاج الفني العربي والعالمي .. كانت مدرسة بغداد ورائدها الواسطي قد غيروا مفاهيم الصورة وفق مبدأ فرضته النزعة الشرقية ذات الطابع الاجتماعي، حيث  اختطت لنفسها سياقا لا يتقاطع والمفهوم الديني الاسلامي في تصوير الجمال.

وبما ان الفن الاسلامي لا ارتباط له بمحاكات جماليات الاشكال العيانية الملموسة فأنه وبلا ادنى شك،  نتاج ذو صبغة تجريدية وذا مدلول غيبي حيث يذهب الى النظر عبر المخيلة الى الماورائيات والاشكال غير المجسدة وخلق اشكال ذات دلالات مرادفة لمدلول الشكل لما هو عليه في الواقع،  وكل هذا كان يمثل حصيلة الضغوط الداخلية التي خلقت سياق الفن العربي الاسلامي من خلال الفنان نفسه.. والذي يسقطها بدوره على الاشكال الموجود في الواقع وادخالها ضمن عملياته الذهنية في محاولة لاستخراج نمط الصورة الذي يبتدعه فمن الملاحظ ان رسوم الواسطي ما هي الا مرآة عاكسة لحياة المسلمين بصورة عامة وحياة العراقيين بصورة خاصة في العصور الوسطى، وارتفعت باسم يحيى الواسطي وتميزت بين رسامي عصره في بداية العصور الوسطى واصبح زعيما لمدرسة واسط، واصبح مجددا ومبتكرا في نفس الوقت،  وهذا ما شكل تلك الصورة المتميزة لأسلوب الفن العراقي واسلوب الواسطي على وجه الخصوص، وجعله مختلفاً عن الاساليب الغربية،  فالابتعاد عن المنظور والرجوع الى موروثات الشرق بعيدا عن الموروث الغربي المتمثل بحضارة الاغريق والاساليب الفنية الهلنستية، كان عاملا اساسيا في خلق ريادة الواسطي وتحوله من رسام في العصر العباسي الى مرجع مهم من مراجع التراث التي غذت الفن المعاصر في العراق بل والعالم اجمع ، فقد اختط الواسطي نمطا جديدا يكاد يكون عالمياً لما يحمله من صيغة وتفرد وخصوصية فنية طبعت بطابع الشرق العربي الاسلامي، ليترك مخزنا ثراً لأغناء فناني الحداثة في العراق والتي كانت ومازالت منطلقاً للبدايات التي يرى من خلالها رسامو الشرق انها العدة الحصينة لرسوماتهم الحداثوية .

سامر قحطان القيسي

الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة

المرفقات