المرجعيات وتأثيرها في الفن العراقي الحديث..

ابدع الفنان التشكيلي العراقي في رسم مواضيع عديدة متأثراً ببيئته وموروثه الحضاري والفكري، فرسَمَ الريف والمدينة والبيوت والمساجد والمراقد المقدسة ورسم الرجل والمرأة وتغنى بعظم دور المرأة في المجتمع العراقي منذ أقدم العصور من سومر وأكد وآشور، وقد كان الفن في العراق منذ  بدايته محصوراً بين عدد قليل من الفنانين والمشاهدين من الطبقات المترفة في المجتمع العراقي، فالعامة من الناس كانوا يعدّونه ترفاً لا علاقة لهم به نظرا لانتشار الفقر والأُمّية في مطلع القرن العشرين، ولكن بجهود الرسامين الأوائل وقدرتهم على استدراج العناصر الجوهرية المُخبئة في مخزون حضارتهم وموروثهم الشعبي، استطاعوا التأثير على طبقات المجتمع العراقي المختلفة وازداد إقبال الناس وميولهم على مشاهدة الأعمال الفنية ومواكبتها والتفاعل مع الفن على أنه مسألة تخصهم.

ان البيئة هي المحيط الذي يعيش فيه الفنان وعادة ما يُعبّر عنها برسوماته بشكل مباشر او غير مباشر.. وهي منبع ثَر بكل المعاني والأشكال لإبداعاته ويستمد منها ألوانه وأشكاله وشخوصه ، وهي ما يشحذ أسلوبه ويكيف بناء لوحته ذات الصفات المُعبّرة، فالفنان علاقته متبادلة مع البيئة الاجتماعية التي لها أثر الاكبر في إعداده وتنشأته مؤثراً ومتأثراً، فخيال أبن البادية مثلاً يختلف عن خيال أبن المدينة او الريف وأفكار الفنان لا توحى له من قوى غيبية أو خفيّة وإنما هي مُكتسبة من البيئة، وهذا ما نلاحظه في رسوم كثير من فناني العراق بأجيالهم المختلفة، من خلال عودتهم الى الطبيعة والريف بكل أبعاده وتفاصيله وهي تفسر محاولتهم لرسم الصور المرئية الأولى التي تعود لطفولتهم، فأعمال رواد الفن العراقي كالفنان فائق حسن او إسماعيل الشيخلي او خالد الجادر او ماهود أحمد وغيرهم تكشف عن حقيقة هذا الاتجاه  من خلال ابتعادهم عن تصوير مشاهد المدينة أو عوالمها أو الاهتمام بالأفكار وما شابه ذلك من موضوعات كانت سائدة في الفن الغربي، فغالبية الفنانين العراقيين عادوا إلى الطبيعة ليس كرَد فعل من التيارات الفنية الأجنبية فحسب وإنما محاولة الفنان العراقي لتأصيل معالم حياته التي نشأ فيها و محاولته ليعكس تفاعله مع بيئته،  فالعلاقة بين الفنان وبيئته توافقية تبادلية تؤثّر على عملية إعادة التركيب الحاصلة في الطرفين عبر التكيُّف، فالبيئة الاجتماعية هي علاقات تقوم بين الفرد والجماعة في المجتمع  يتفاعل الأفراد فيها مع بعضهم البعض فتلعب العلاقة بينهم دوراً مهماً في تكوين شخصية الفرد والفنان على وجه الخصوص من خلال اكتساب الخبرات الحياتية ، وفي العراق وضَع الإنسان أولى الحضارات المتجذرة في عمق التاريخ وأنارت بعلومها وفنونها الدُنيا مثل الكتابة والعمران والنحت والفلك والطب وسائر العلوم الاخرى.

أن السعي وراء الثقافة أمر ضروري من أجل إدراك ما هو أصيل وما هو دخيل في التراث، وأن الاهتمام بالتراث دلالة الوعي الفكري للفرد والمجتمع، ويعد العراق مركزا من مراكز الإشعاع الفكري والحضاري، ففيه عُرفت الكتابة واهتم أبناءه بالفكر والأدب والفن، فالبيئة العراقية هي أغنى بيئة حضارية موروثة على مَر التاريخ وقد تركت آثارها متجسدة على أشكال الثقافات والفنون المختلفة ومنها فنون العمارة، فالعراق القديم بحضاراته السومرية والأكدية والآشورية والبابلية يتميز بوضوح الخط وبساطته وهذا واضح في كافة فنون هذه الحضارات ومنها العمارة على الرغم من بساطتها إلاّ إنها تحتل مركزاً في تاريخ العمارة العراقية القديمة رغم افتقار البيئة العراقية إلى موارد جاهزة للبناء كالأحجار مما دعاهُم إلى تكييف مادة الطين للبناء، وقد  فرض الدين الإسلامي فيما بعد أسلوباً جديداً لممارسة الفن الذي ظهر في عمارة الجوامع والمشاهد المقدسة  بخطوطها الواضحة وأقواسها المختلفة والحُلي والزخارف الفنية التي اختلفت عن مثيلاتها، كونها مُستقاة من روح الإسلام الذي منع عمل التماثيل والأصنام فاستعمل المسلمون الخطوط الهندسية والتكوينات التي تُمثّل الأشكال العربية الأصيلة التي عبّرت عن الإبداع والجمال .

لقد حث الإسلام على الجمال وانعكس ذلك على أعمال الفنانين، ولم يكن ذلك مقتصراً على الانسجام والتناغُم بين الأشكال فحسب ، بل تعداه الى  جمال المعاني والأفكار.. فالصورة الظاهرة تقود إلى الصورة الباطنة، وهذا ما تبناه الفنان العراقي الرائد منذ انطلاقته الاولى،   فقد عبر البعض منهم عن الاهلة في رسوماتهم كما فعل الراحل جواد سليم وبعض مجايليه، ومنهم من استلهم التجريد في فنه كما فعل الفنان فرج عبو، ومنهم من استخدم الحرف العربي في أعماله الفنية كالفنان جميل حمودي ، ويقول الفنان محمد غني حكمت  بهذا الصدد أن داخل الحروف انسجاماً رائعاً تكشفه العين من خلال الظلال الجانبية لكل حرف منها، ويؤكد ذلك قول الفنان رافع الناصري  في أن المشاهد المُتأمّل للحرف العربي  في اللوحات الفنية  وهو بشكل مجرد من معناه اللغوي الكلامي ، يجده بحد ذاته ذا قيمة تشكيلية مستقلـة تعتمد علـى الأُسس الفنية من شكل وحركة وفراغ، وبالتأكيد ذلك لا يكون الا بما يحمله الفنان او المشاهد من ثقافـة ذاتية اكتسبها من فهم واقع أمته وماضيها وحاضرها.. فهي عامل أساس في تطوره، ولا سيما فـي مجال الفـن  فمن خلال ثقافة المرء – فنان او متلق-  يستطيع ادراك الأشياء المحيطة به،  فالفن جزء من التطور الثقافي المستمر وهو خبرة متفاعلة بين الفنان وبيئته ومجتمعه ، والفنان بفضل ثقافته يُصارع المادة بفكره ويده ويطوعها لتكون اجمل.

سامر قحطان القيسي

الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة

المرفقات