شذرات من فكر الامام علي ابن ابي طالب السياسية والاقتصادية

لم تكن عملية وصول أمير المؤمنين (عليه السلام) الى السلطة وتوليه القيادة قد سارت بشكل تقليدي كالخلفاء الذين سبقوه، اذ ان الإمام( عليه السلام ) قد بويع بالخلافة بعد ثورة جماهيرية واسعة قادتها قطاعات واسعة من المسلمين آنذاك، بعد ان مارست دور المعارضة ردحاً من الزمن ، وكانت هذه الثورة حصيلة لمجموعة من الممارسات الدينية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية غير التنظيمية التي مارستها السلطات الحاكمة[1] .

مما تقدم يتضح أمامنا ثقل المسؤولية الاجتماعية المنبثقة عن الظروف المجتمعية المتدهورة والأوضاع الاجتماعية المتردية التي كانت بحاجة ماسة الى عملية تغيير اجتماعي أولاً ثم عملية إعادة التنظيم ثانياً وهذا ما تحمله الإمام علي بن ابي طالب  (عليه السلام) بعد ذلك .

وفي الحقيقة ان التنظيم السياسي الذي قاده الإمام ( عليه السلام ) يعبر عن صراع بين المعتقد المهيمن " الشرائح الاجتماعية المستنفذة" والمعتقد الجديد الذي يؤمن بإمكانية تغيير لان من مصلحته التغير والتخلص من المعتقد المهيمن الذي يمثل نظرية العدل الاجتماعي التي أتى بها الإمام (عليه السلام).

وفي ضوء ذلك باشر الإمام علي في الأيام الأولى لخلافته بعزل عمال الخليفة السابق وولاته على الأقاليم[2]، مؤكدا في ذلك أهمية اختيار الكادر السياسي الذي بموجبه يدير أقاليم الدولة. ولقد سبب هذا القرار السياسي للإمام ( عليه السلام ) تبعات سياسية أبرزها امتناع والي الشام معاوية بن ابي سفيان عن تنفيذ القرار ، فضلا عن تحالف الولاة الآخرين معه لإحداث حلف سياسي معارض يحاول إسقاط التنظيم السياسي الجديد.

وقد تزامن هذا كله مع تأمر الزبير وطلحة على الإمام علي والتشكيك بشرعية سلطته وخلافته على الرغم من بيعتهما له ولكنهما نكثا البيعة وتحججوا بدم الخليفة المقتول وبضرورة الاقتصاص من قاتليه[3]، وبالتالي فان التنظيم السياسي الجديد ومشروعه التغييري قد واجه تحديات جسيمة، كانت تستدعي من الإمام ضرورة استخدام القوة الشرعية لإمضاء المشيئة السياسية التنظيمية الجديدة.

ومن جانب اخر أحدث الإمام (عليه السلام) تغييرات جذرية وشاملة السياسة المالية ولعل مصداق سياسته الجديدة متجسدة في قوله :" والذي بعث محمد بالحق انه لابد ان يعود أسفلكم أعلاكم وأعلاكم أسفلكم وليسبقن سابقون كانوا قصروا وليقصرن سباقون كانوا سبقوا "[4].

وانطلاقاً من إيمانه بالعدالة الاجتماعية وان لا تمايز بين المسلمين ابدا، اتخذ قراره الاقتصادي التنظيمي الأبرز وهو مساواة المسلمين في العطاء، وفي هذا الإطار يعلق مجموعة من الباحثين على هذا القرار منهم على سبيل المثال محمد عمارة قائلا : "ومن هنا كان قرار علي العدول عن تمييز الناس في العطاء والعودة الى نظام المساواة قراراً من أخطر قراراته الثورية، لأنه كان يعني انقلابا اجتماعيا بكل ما تعنيه هذه الكلمة من دلالات ... كما كان رد فعل الأغنياء، وفي مقدمتهم ملأ قريش وابناؤهم  ضد علي وقراره وهذا بداية الثورة المضادة لحكمه"[5].

ومن جهة أخرى فان هذا القرار كان بمثابة مصدرا لعملية التغير الاجتماعي وبالفعل فقد كان هذا القرار التنظيمي "المساواة في العطاء" محفزا رئيسيا لإحداث تحولات وتغيرات اجتماعية واسعة النطاق، اذ كان من أبرز تداعياتها هو إعادة بناء التراتب الاجتماعي أو الفئوي الطبقي للمجتمع الإسلامي آنذاك من خلال إحلال المساواة الاجتماعية محل الامتيازات.

بل بلغ به إصراره على العدالة بين المسلمين ومساواته بينهم في العطاء، أن عاقب أخيه عقيل لأنه طلب منه زيادة في العطاء أي عطاء القمح  اذ لم يكن وقفا على المال فحسب ، فيقول الإمام (عليه السلام ) :" والله لقد رأيت عقيلاً ، وقد أملق حتى استماحني في بركم صاعا، ورأيت صبيانه شعث الشعور غبر الألوان من فقرهم كأنما سودت وجهوههم ... وعاودني مؤكدا وكرر علي القول مرددا فأصغيت إليه سمعي فظن أني أبيعه ديني واتبع قياده مفارقا طريقي ، فأحميت له حديدة ثم أدنيتها من جسمه ليعتبر ... "[6].

أما القاعدة التنظيمية الاخرى التي اقرها الإمام علي ابن ابي طالب ( عليه السلام ) كسياسة اقتصادية جديدة فهي عملية رد قطائع الخليفة الثالث الى بيت المال ، والقطائع هي كل  ما يقطعه الإمام لبعض الرعية من أرض بيت المال ذات الخراج ، ويسقط عنه خراجه ويجعل عليه ضريبة يسيرة عوضا عن الخراج ، وقد كان الخليفة الثالث اقطع كثيرا من بني أمية وغيرهم من أوليائه وأصحابه ، قطائع من ارض الخراج على هذه الصورة. وفي هذا المجال أكد الإمام قاعدته التنظيمية قائلا : " الا ان كل قطيعة اقطعها عثمان وكل مال اعطاه من مال الله ، فهو مردود في بيت المال ، فان الحق القديم لا يبطله شيء ، ولو وجدته وقد تزوج به النساء ، وفُرقّ في البلدان ، لرددته إلى حاله ، فان في العدل سعة ومن ضاق عنه الحق فالجور عليه أضيق"[7] ، وتدعيما لهذه القاعدة فان الإمام علي يؤكد مجموعة من المبادئ وهي :-

 يأمر ولاته بعدم منح القطائع للمقربين منهم ، فهو على سبيل المثال يوصي واليه على مصر قائلا : " ثم أن للوالي خاصة وبطانة فيهم استئثار وتطاولاً ، وقلة أنصاف في معاملة ، فاحسم مادة أولئك بقطع أسباب تلك الأحوال . ولا تقطعن لأحد من حاشيتك وحامتك قطيعة . ولا يطمعن منك في اعتقاد عقدة تضر بمن يليها من الناس في شرب أو عمل مشترك يحملون مؤونته على غيرهم ، فيكون مهنأ ذلك لهم دونك ، وعيبه عليك في الدنيا والآخرة". يشدد على أهمية احترام أموال أو ثروات بيت مال المسلمين ويحذر ويهدد بالعقوبات الشديدة لمن يتجاوز عليها من خلال نهبها او الاستيلاء عليها، ففي هذا المجال نجده يهدد زياد ابن ابيه الذي كان آنذاك على كور الأهواز وفارس وكرمان وغيرها فيرسل له كتابا يهدده فيه قائلا : " وأني أقسم بالله قسما صادقا، لئن بلغني انك خنت من فيء المسلمين شيئا صغيرا او كبيرا ، لأشدن عليك شدة تدعك قليل الوفر ، ثقيل الظهر ، ضئيل الأمر والسلام " العقوبة إلى طرد الولاة من مناصبهم حين يسرقون واردات المجتمع والممثلة بـ" بيت المال"، فمن كتاب له (عليه السلام) الى بعض عماله وقد بلغه أن أكل أموال المسلمين  قائلا (عليه السلام):" أما بعد ، فقد بلغني عنك أمر أن كنت فعلته فقد أسخطت ربك ، وعصيت إمامك ، وأخزيت أمانتك . بلغني انك جرّدت الأرض فأخذت ما تحت قدميك ، وأكلت ما تحت يديك ، فارفع الي حسابك، واعلم ان حساب الله أعظم من حساب الناس والسلام" [8].

ومن الواضح أن القواعد التنظيمية التي وضعها الإمام علي لسياسته الاقتصادية لا يمكن لها أن تأخذ مكانها داخل المجتمع الإسلامي من ناحية التطبيق والممارسة آنذاك من دون ان يكون هنالك تفاعل واتصال بين الخليفة والإداريين وفي طليعتهم الولاة أو العمال المسؤولين عن الأقاليم هذا من جهة ، ومن جهة أخرى أن يكون بين الولاة والرعية تفاعل واتصال دائم بحيث يعرف كل طرف حق الطرف الآخر عليه وفي هذا الإطار نجد الإمام علي (عليه السلام)  يقول :" ثم جعل سبحانه من حقوقه حقوقا افترضها لبعض الناس على بعض ، فجعلها تتكافأ في وجوهها ويوجب بعضها بعضا . ولا يستوجب بعضها إلا ببعض . وأعظم ما افترض سبحانه من تلك الحقوق حق الوالي على الرعية وحق الرعية على الوالي ، فريضة فرضها الله سبحانه لكل على كل ، فجعلها نظاما لألفتهم وعزا لدينهم . فليست تصلح الرعية الا بصلاح الولاة ولا تصلح الولاة إلا باستقامة الرعية " ، وبهذا يضع الإمام ( عليه السلام ) موازنة اجتماعية بين الطرفين "الولاة والرعية" ، اذا ما التزم كل طرف بواجباته وعرف حقوق الآخر .

 

[1] للمزيد من التفاصيل حول ذلك  ينظر : طه حسين ، الفتنة الكبرى عثمان ،(مصر: طبع دار المعارف، 1976) ، ص109 ؛ عباس محمود العقاد ، عبقرية الإمام علي، ،(مصر: طبع دار المعارف، 1981) ، ص54-77 .

[2]أحمد بن واضح اليعقوبي ، تاريخ اليعقوبي ، (بيروت: دار بيروت للطباعة والنشر، 1980 )، م2 ، ص179 .

[3]ابو الحسن علي المسعودي ، مروج الذهب ومعادن الجوهر ، تحقيق : محمد محيي الدين عبد الحميد ، (مصر :مطبعة السعادة ، 1964 ) ، م2 ، ص366-370 .

[4]الشيخ محمد عبدة ، شرح نهج البلاغة للإمام علي بن ابي طالب ( عليه السلام )،( بغداد: منشورات مكتبة النهضة ، 1984) ، م2 ، ص353 .

[5] حمد عمارة وآخرون ، علي بن أبي طالب ، نظرة عصرية جديدة ، (بيروت : المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، 1974 )، ص29.

[6]  محمد عبده ، مصدر سابق ، ج2 ، ص6-7 .

[7]ابن ابي الحديد المعتزلي ، شرح نهج البلاغة ،(بيروت: مؤسسة الأعلمي ،2004) ، ج1 ، ص201 .

[8]محمد عبده ، مصدر سابق ، ج3 ، ص104-105؛ ابن ابي الحديد المعتزلي ،المصدر السابق ، م8 ، ص95 و ص313-314 .

المرفقات