امتزج النظام الحسي ومعطياته واهميته بالنظام المثالي عند الفنان المسلم، من خلال امتزاج الغاية الاخلاقية العليا النابعة من الموقف الديني الملتزم لديه مع الحاجة النفعية في النظر الى الجمال، انطلاقاً من مبدأ النافع والجميل.. فأما نافع من خلال اللذة او نافع في الجميل، والعمل الانساني في هذا المجال هو في اختيار وتحصيل الجميل والنافع في الحياة، فهناك من ينظر إلى الجمال بتصوف وتجلٍ بعيداً عن الحواس.. وإن العدد والمعدود هو أصل الموجودات ليكون في أعلى الأمور الروحانية، وان الظواهر الطبيعية خلقها الله تعالى على هيأة مربعات متمثلة بـالفصول الاربعة بما فيها من حرارة وبرودة ورطوبة ويبوسة وليونة وغيرها ، وقد عدت عند بعض الفلاسفة كرياضة للنفس بل وأصبحت حسب آراء البعض منهم تدريباً وتوجيهاً روحياً نحو رفض المحسوس والمعطيات المادية الغرائزية، فهي الطريق الأمثل لتهذيب النفس، ولم يقتصر ذلك على الجانب الديني والاجتماعي فحسب، بل تعدّاه إلى الفن عموماً، لتكون الغاية من الفن هو تهذيب الأخلاق وتنشيط المنظومة الأخلاقية، فالفن ــ بجماله وابداعه ـــ هو دعوة نحو وعي الاشياء والظواهر بنظمها الرياضية الخفية، وهو عمل ودراية بإدارة تعتمد الرياضيات في تحليل الاشياء والظواهر بغية الوصول الى تأسيسها كفن ذو روحية جمالية تلتقي مع المبادئ والعقيدة الاسلامية.
لقد اجتهد الفنان المسلم ومن خلال مخيلته الثرة بالتفكير العلمي والفلسفي الاسلامي فابتدع جماليات ذات مضامين هي مزيج من القيم الروحية والمقاييس المادية متمثلة بالخط والزخارف الاسلامية التي أحاطت بالنصوص القرآنية المخطوطة، معتمداً في بناء اعماله الفنية ولوحاته الخطية على مرتكزات الغاية من خلالها التذوق الجمالي.. ومن هذه الجماليات الاستثنائية جماليات الخط الكوفي بتشكيلاته اللغوية المختلفة المميزة بالتناغم بينها والذي يولد عوامل استجابة لدى المتلقي.
المخطوطة اعلاه من النتاجات الابداعية للخطاط المصري (يوسف احمد يوسف)، وقد نُفذت بأسلوب الخط الكوفي المضفور وفق الطراز الاندلسي بعبارة (الحمد لله على نعمة الاسلام)، حيث اعتمد الخطاط في اشغال مساحة التكوين على التماثل في بعض اجزاء البنية النصية والمتمثلة في الجزء العلوي للحروف العمودية التي ظهرت ذات طابع هندسي ونباتي كأسي المظهر، وبشكل غير متماثل في الجزء السفلي للبنية النصية.. والمتمثل في الحروف الممتدة والصاعدة عن سطر الكتابة والمختلفة فيما بينها من حيث البنية الشكلية، محققاً من خلاله التوازن ما بين جزئي اللوحة العلوي والسفلي من التكوين والبنية النصية بما يشغل المساحة الكلية لمساحة التكوين المستطيلة الشكل.
ويظهر للمشاهد التغيير الشكلي في البنية الحروفية المتمثلة في مد الحروف العمودية وتضافرها فيما بينها واضافة بعض العناصر النباتية الى نهايات الحروف العمودية لكل من حرفي الالف واللام في جميع كلمات المخطوطة، وقد رتبت الكلمات في البنية النصية وفق نظام سطري تتابعي غير متراكب، بحيث تكون البداية القرائية للنص من الجهة اليمنى للتكوين وصولاً الى الجهة اليسرى منه، محققاً من خلال ذلك الوضوح والتسلسل القرائي للكلمات والبنية النصية بشكل عام وبما يتناسب ويتوافق مع الهيأة الشكلية للتكوين، كما يظهر للمشاهد التكرار متجسداً في البنية الزخرفية الناتجة عن مد الحروف العمودية للكلمات ليشغل كافة المساحة الكلية للتكوين محققاً التوازن الشكلي والمساحي ما بين أجزاء التكوين ككل من خلال اضافة بعض العناصر الزخرفية الناتجة عن التضافر.. كما في حرفي الالف واللام في كل من كلمة (الله) و(على) وكلمة (الاسلام) ، فنتج عن ذلك إيقاع متناغم بين هذه العناصر الخطية والزخرفية والشكل الكلي للتكوين.
أما التباين في هذه الرائعة الخطية فقد تمثل في كل من البنية الزخرفية التي تختلف في بعض اجزائها من حيث الشكل والهيأة.. وذلك تبعاً لحجم المساحة التي تشغلها، كما يظهر في حرفي (الالف واللام)، فضلاً عن التباين في الهيأة الشكلية للبنية النصية المتمثلة في اشكال الحروف، معززاً ذلك بالتضاد القائم ما بين القيم الضوئية (لون الحبر والورقة المخطوط عليها) للمساحة والبنية النصية بما يحقق التمييز فيما بينهما، وقد حقق من خلال التضاد والاختلاف الشكلي بين الحروف والبنية النصية والزخرفية، تنوعاً وجمالية للتكوين ككل والعناصر والوحدات المكونة له بشكل فردي، فارتبطت أجزاؤها فيما بينها، فضلاً عن علاقتها بالمساحة الكلية للتكوين بحيث تظهر متجانسة فيما بينها ومتناسقة كوحدة متكاملة، وتمثلت السيادة في الطابع الزخرفي والشكلي للبنية النصية والزخرفية الناتجة عن التضافر ما بين الحروف العمودية للنص والحركة الاتجاهية الافقية للبنية النصية ككل، ولا يمكن ان نتغاضى عن سيادة النوع للخط المستخدم في اشغال مساحة التكوين حيث شغلها بشكل كلي لتزداد جمالاً.
ولا يخفى على المشاهد للمخطوطة ان الفنان لم يوازن بين حرف وآخر كقياس وبالخصوص المسافات التي تفصل بينها، ويبدو انه يبغي من وراء ذلك تحقق الجانب الجمالي للتناسب القائم بين الحروف والمساحات التي تشغلها على سطع اللوحة، فضلاً عن الشكل والطابع التزييني للتكوين الذي نتج عن التغيير الشكلي لبنية الحروف واضافة العناصر الزخرفية الممتدة من نهايات الحروف العمودية للنص، ويظهر ايضاً في التكوين، الجانب الوظيفي واضحاً من خلال التنظيم المكاني للكلمات وتبعاً لنظام التوزيع المتسلسل لكلمات الجملة.
سامر قحطان القيسي
الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة
اترك تعليق