أمتلك امير المؤمنين(عليه السلام) مؤهلات فكرية جمة استقاها من القرآن الكريم وعن النبي الاكرم محمد (صلى الله عليه وآله)، ويعد نهج البلاغة الذي يحوي على مجموعة كبيرة من خطبه ورسائله ووصاياه دليلاً لكل باحث في الاتجاهات الفكرية المتنوعة.
مما لا شك فيه ان عملية اختيار القضاة تعد أحد أهم العمليات التنظيمية القضائية في المجتمع ، حيث اوصى (عليه السلام) مالك الاشتر والي مصر بعهده مجموعة من الصفات الواجب أتباعها ليكون قاضياً بالعدل ومنها على سبيل المثال :
يدعو الإمام علي (عليه السلام ) واليّه أن لا يولى منصب القاضي من لا يجيد التعامل مع المواقف القضائية الحرجة والدقيقة ، وبذلك يقول (عليه السلام) : "من لا تضيق به " [1] . يبين (عليه السلام) أن من يتولى المنصب لا تمحكه الخصوم "تجعله ماحكا ، محك الرجل ، أي لج"[2]، أي ان لا يتحول بحكم هكذا ظروف الى عسر الخلق لشدة المطاولة والمناقشة أثناء جلسة المحاكمة او اطلاق الحكم بين القاضي من جهة والمتخاصمين من جهة أخرى، فلهذا يوصي الإمام بتولية من "لا تمحكه الخصوم" [3] يؤكد الإمام (عليه السلام) ان لا يكون المتصدي للقضاء مصرا على الخطأ في إصدار حكم ما ، بل عليه التراجع في حال استشعار وجود خللٍ معين في حكم اصدره، فضلا عن طريقة استجواب المتخاصمين التي قد يقع فيها بعض الخطأ او الزلل، فلهذا يدعوه أن "لا يتمادى في الذلة، لا يحصر من الفيء الى الحق اذا عرفه "[4]، ويبدو ان الامام علي كان يركز على أهمية عدم الإصرار على الخطأ أيا كانت صيغته أو طبيعته الذي يصدر من قبل القاضي.وبينت الدراسات الحديثة، أن هذه الخصائص والسمات الواجب على القاضي الاتصاف بها هي مقاربة بشكل كبير لأصول المحاكمات الحقوقية المعاصرة ، والتي تحتم على القاضي مراعاتها والالتزام بها في إدارة المحاكمة[5].
اشار (عليه السلام) أن لا يكون القاضي طماعاً ويسعى للتكسب المادي وجلب المغانم والمنافع فلهذا يقول :" ولا تشرف نفسه على طمع"[6]. ويبدو ان هذا الأمر يقترب من مسألة الرشوة او تقديم الهدايا التي يبتغي من ورائها أصحابها استمالة القاضي لهم كي يحكم لما فيه صالحهم . يأمر الإمام (عليه السلام) القاضي الى التعمق في القضية المطروحة أمامه والتأمل فيها بعناية ودقة شديدتين قبل إصدار حكم معين ، أي ان الامام علي يدعو الى عدم التسرع بإطلاق الحكم حالما يخطر بباله الحكم القضائي للشكل المطروح ، ولهذا يقول (عليه السلام) :" ولا يكتفي بأدنى فهم دون أقصا " [7] . لاسيما انه يدعو القاضي إلى التبصر في القضية المطروحة امامه بعناية شديدة، لهذا يدعو (عليه السلام) القاضي أن يكون "وأوقفهم في الشبهات" أي لا يستعجل في إصدار الحكم حتى يتبصر شؤون القضية بدقة وتركيز. يوصي ( عليه السلام ) القاضي النظر إلى أي قضية بوصفها مسألة تقديم أدلة من كلا الطرفين أي "المتهم والبريء" ، فلهذا يلزم القاضي بأخذ الحجج المطروحة أمامه ومن الطرفين حتى يبني عليها حكمه العادل، فلهذا يؤكد الإمام "وأخذهم بالحجج". يجب أن يكون القاضي بعيدا عن التبرم" الضجر" وهذه الخصلة من محاسن ما اكد عليها (عليه السلام) ، فأن القلق والضجر قبيح ، اذ ان من الضروري أن يكون صدر القاضي رحبا ويتحمل المتخاصمين في حضرته ، وهذا ما أِشار إليه الإمام (عليه السلام) :"واقلهم تبرما بمراقبة الخصم". وكذلك يوصي الإمام القاضي أن تكون إحدى صفاته :" وأصبرهم على تكشف الأمور" . يبين الإمام (عليه السلام) فيمن يجب ان يتولى القضاء ان لا يؤثر فيه المديح والثناء والإغراء أي التحريض على مسألة ما او ركنٍ ما يحيد بالقاضي عن جادة الصواب والعدل ، فلهذا يدعو (عليه السلام) إلى أن يكون القاضي "ممن لا يزدهيه إطراء ولا يستميله إغراء" .وهناك حقيقة ان الامام علي قد رفض ان يختلف القضاة في الحكم ، قائلا: " ترد على احدهم القضية في حكم من الأحكام ، فيحكم فيها برأيه ، ثم ترد تلك القضية بعينها على غيره ، فيحكم فيها بخلاف قوله ، ثم يجتمع القضاة بذلك عند الإمام الذي استقضاهم ، فيصوب آراءهم جميعا، وآلههم واحد ، ونبيهم واحد ، وكتابهم واحد". وبذلك فالإمام يؤكد جانباً اجتماعياً خطيراً يؤثر سلبا في عملية التنظيم القضائي وبالتالي في عملية العدل الاجتماعي.. الا وهو الاختلاف وعدم الوحدة في تتبع أمر القضاء ونصه وعدم الرجوع الى منهله الأساس المتمثل بالقرآن الكريم والسنة الشريفة، لانهما معين ومصدر الحكم القضائي.
ثم يعقب الإمام (عليه السلام) قائلا ومستغربا من اختلافهم :" أفأمرهم الله تعالى بالاختلاف فأطاعوه، أم نهاهم عنه فعصوه أم أنزل الله سبحانه دينا ناقصا فاستعان بهم على إتمامه، أم كانوا شركاء له فلهم ان يقولوا وعليه ان يرضى أم أنزل الله سبحانه دينياً تاما فقصر الرسول (صلى الله عليه وآله ) عن تبليغه وادائه ، والله سبحانه يقول : (ما فرطنا في الكتاب من شيء) وفيه تبيان لكل شيء، وذكر (عليه السلام) ان الكتاب يصدق بعضه بعضا وانه لا اختلاف فيه ، فقال سبحانه: (و) " .
وتمثل مجموع هذه الوصايا التي وضعها أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام) بشأن الخصائص والصفات الواجب توافرها بمن يمارس القضاء بكونها أسس وقواعد العمل التنظيمي، حيث إن من يحمل هذه الخصائص بمجملها يستحق ان يشغل هذا المنصب الخطير.
ويمكن القول ان هذه السمات الواجب توافرها في القاضي متصلة ومتداخلة فيما بينها لكونها تحدد الصفات النفسية لشخصية القاضي ، فضلا عن إنها تمثل بمجموعها تصرفات سلوكية متتابعة يجب على القاضي اتباعها في أية قضية تطرح أمامه .. وهذا بدوره يسهل ويمهد عملية التنظيم القضائي ويدعمه في المجتمع.
[1] محمد عبده ، شرح نهج البلاغة للإمام علي بن ابي طالب (عليه السلام )،(بغداد: منشورات مكتبة النهضة ،1984)، ج3 ، ص94 .
[2]ابن أبي حديد المعتزلي ، شرح نهج البلاغة (بيروت: مؤسسة الاعلمي، 2004)، ج6 ، ص42.
[3] محمد عبده ، المصدر السابق ، ج3 ، ص94 .
[4] المصدر نفسه ، ج3 ، ص94 .
[5] للمزيد من التفاصيل ينظر : توفيق الفكيكي ، الراعي والرعية ،(بغداد: شركة المعرفة للنشر والتوزيع المحدودة،1990)، ص9-11 .
[6] محمد عبده، المصدر السابق ، ص94 .
[7] المصدر نفسه.
اترك تعليق