اطلالة نحو التراث..

تمكن الفنان العراقي الحديث من إثراء تجربته الفنية  وبلورة خبرته الجمالية من خلال اكتسابه الكفاءة الإبداعية المستمدة من وحي تراثه العريق وثقافته الثرة التي مكنته من الوصول الى سلم الابداع الفني، فاغلب لوحات الفن العراقي وإن كانت تحتفظ بطابع يحدد خصوصيات مبدعيها لونا وتركيبا.. فأنها تختلف فيما بينها و تبرز تنوعها واختلاف افكار رساميها ومدارسهم الفنية، ولا شك أن ذلك يعود بالأساس إلى المرجعيات التاريخية للفنان المبدع وغنى ذاكرته البصرية والبيئة التي يعيش فيها، وقد أثمر ذلك بتجلي ملامح الاعمال الفنية واساليب مبدعيها و كيفية تعاطيهم مع التكوينات والأشكال والألوان المشكلة لها، ولا شك ان الظروف الخاصة التي مر بها العراق والتي أدت إلى هجرة كثير من الفنانين لممارسة فنهم بعيداً عن الوطن، كان لها الاثر الاكبر في التعريف بالفن العراقي الحديث الذي بدا غالباً مستقلاً عن المؤثرات العدمية التي تدعو لها مدارس الفن الحديث.

 اللوحة من ابداع الفنان التشكيلي الراحل اسماعيل الشيخلي( 1924 ـ 2002 ) وهي بعنوان (كان يوماً).. وقد نفذت بتقنية الزيت على القماش بأسلوب يقترب الى حد كبير من اسلوب المدرسة التجريدية، ويعتبرالفنان من الجيل الثاني للرواد الأوائل في ساحة الفن العراقي الحديث، وطوّر خلال مسيرته الفنية أسلوباً فريداً نتج عن تأثيرات عدة متنوعة، ويسهل التعرف على أعماله الأخيرة من خلال الأشكال البشرية التجريدية ومزيج الألوان الحية والخلفيات القاتمة، حيث تتصف اغلب  لوحاته الحديثة بالتكرار المتنوّع لموضوعه المفضل، المتمثل بالحياة في القرى والبادية العراقية.

يعتمد الشيخلى في هذا المنجز على التجربة الهندسية حيث جعل اشكال السرادق والخيام في عمق اللوحة  نقطة التمركز في الموضوع الـــذي شغل أعلـــى وسط المنجز وبصورة افقية، وقد مثلت باللون الزيتوني والبني بدرجاته المتفاوتة وبعض من اللون الأصفر الليموني فيما تتقدم الخيام كتل متحركة من شخصيات النساء التي  تتوزع على شكل مثلث مقلوب ،وتتراوح ألوان لباسها بين الأسود للعباءة والأحمر والأزرق والأصفر والأبيض لباقي الملابس التي تحملها تلك النساء ويند مج فضاء الموضوع بأرضيته الذي مثلت بلون اخضر تملأه الصفرة .

لو دققنا النظر في البناء التركيبي للوحة لوجدنا انه يمكننا الإحساس بالمعالم الجمالية التي يوليها الفنان للمنجز، فالتوازن الحاصل بين مساحات المشهد التي تتوزع على جانبي الشكل الرئيسي  المتمثل بالخيام  يضفى رصانة وثباتاً للإنشاء التصويري من خلال توزيع مفردات المشهد بشكل متناظر على الجانبين وانسيابي نحو اسفل اللوحة ، في حين نجد إن الخطوط تتداخل مع ضربات الفرشاة المجردة التي مثلت بها ألوان شخصيات النساء ،فالفنان يعطى ألوانه ضرباً  من الشاعرية الغنائية ،فتتباين معالجاته للألوان بين الاختزال والتبسيط ،حيث يستعيض عن ملامح وتقاسيم الوجوه بإضافة ضربات لونيه ويمثل ملابس النساء بألوان صريحة فيها الاسود والأحمر والأصفر والأزرق والأبيض وهي في حد ذاتها ألواناً تمثل طبيعة الناس البسطاء في الريف والبادية، حيث  إن إيقاعية الألوان عند الرسام الشيخلي تخلق نوعاً من الديناميكية داخل المشهد ، في الوقت الذي يحافظ المشهد على انسجام وتناسق الألوان، مقارنة بالفضاء الموزع على اللوحة في أعلى المشهد وارضيته المتداخلة لونياً حيث نراهما مندمجين في جو يطغى عليه اللون الاخضر وبعض الاصفر بما يوحي للمشاهد بالحياة والاستمرارية واللانهائية، وقد مُثلتْ الأشكال والشخوص على وفق منظور خطي مميز رغم التجريد الواضح على الأشكال .

  اهتم الفنان إسماعيل الشيخلي في كثير من اعماله بتوظيف الرموز الإسلامية والتراثية  كشكل يمكننا إدراكه في أعماله فهو ثابت ومميز ، لذا يستعين بأشكال الخيام تارة واخرى بأشكال القباب الصفراء كما في بعض لوحاته ويعتبرها عنصراً رئيساً يمثل العنصر السيادي ومركز الاستقطاب في المنجز بل ويكون أداة للربط بين مفردات الموضوع  المستوحاة من واقع الفرد العربي والعراقي كأشكال الخيام وكذلك شخوص النساء العربيات بالأزياء العربية الأصيلة،  اما المضمون الاجتماعي المتمثل ببعض العادات والتقاليد الاجتماعية والدينية فقد احتل مكاناً مهماً في منجزات الشيخلي ،الأمر الذي جعله يجسد تفاصيلها بصورة تجريدية هندسية فيها نوع من التشخيص متأثراً بقرينه الفنان المسلم، فبساطة الألوان وصراحتها وما تحمله من معان رمزية نجدها في أعمال فن المنمنمات المتمثل برسوم يحيى بن محمود الواسطي ،كما يوظف الفنان الخطوط المائلة الشبيهة بالأقواس والتي نلاحظها في أشكال الخيام وملابس النساء الممثلة  باللون الزيتوني والاسود والبني المائل إلى التبني .

من هنا نستطيع القول ان  أهم ما يميز اعمال الفنان اسماعيل الشيخلي  المتعلقة  بالواقع لعراقي ومنها اللوحة اعلاه هو توزيع الشخوص داخل فضاء المنجز وبسمة مميزة جدا.. تمثلت بخلو المشهد من العنصر الرجالي لما تحمله من دلالة رمزية للاضطهاد الذي مر به الشعب العراقي، حيث منعت زيارة المراقد المقدسة وممارسة الشعائر الدينية في العقود الثلاثة الاخيرة من القرن العشرين والعقدين اللاحقين لهذه المرحلة، حيث منع الفرد العراقي وبالذات عنصر الرجال من اداء أي من تقاليدهم الدينية وعاداتهم الاجتماعية الموروثة لتبقى مقتصرة نوعا ما على النساء دون الرجال.

سامر قحطان القيسي

الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة

 

المرفقات