قصة زكريا ويحيى عليهما السلام – دراسة فنية -

حين نتابع الحديث عن القصص التي تضمنتها سورة آل عمران، نجد أن القصة الثالثة منها، تتمثل في قصة زكريا عليه السلام... وحين ندقق النظر في هذه القصة، نجد ان التلاحم والتجانس بينها، وبين القصتين: إمرأة عمران ومريم يتجسد في خضوع القصص الثلاث إلى طابع [الممارسة العبادية] عند الشخصيات الثلاث[سواء كانت الممارسة وجدانية أو عملية]، ثم في خضوع القصص الثلاث إلى عنصر (المعجز) ثانياً، ثم في خضوعها الى طابع معجزٍ واحدٍ ثالثاً... كما نلحظ من جانبٍ آخر ـ وهذا ما يضفي خطورة أخرى على العبارة الفنية في القرآن ـ تميّز كل قصة بخصائص تنفرد بها أولاً، ثم اشتراك بعضٍ مع البعض الآخر بخصائص تنفرد بهما القصتان ثانياً، ثم اشتراك القصص الثلاث في خصائص عامة تصل بينها جميعاً، ثالثاً.

تتلخص قصة زكريا ـ عليه السلام ـ وفقاً للنص القرآني والنصوص المفسرة، في أنّ زكريا عندما كفل مريم عليه السلام، وكان على إحاطة بالبيئة المعجزة التي اكتنفت مريم عبْر تمحضّها للعبادة في المحراب،... وبخاصة عندما شاهد الرزق الذي كان يأتيها من السماء،... حينئذٍ تحركت حوافزه، واستثاره ذلك لأن يتقدم بطلبٍ الى السماء، يتساوق وطموحه العبادي،... وكان هذا الطلب يتمثل في ذرّيةٍ طيّبة تمارس وظيفتها العبادية على النحو الذي تنشده السماء... وبما أنّ امرأته (عاقر)، من جانبٍ، وبما أنه قد بلغ من الكبر عتياً من جانبٍ آخر،... فإنّ طلبه ـ تبعاً لذلك ـ سيكون محفوفاً بالرغبة الملحة الجارفة... وما أيسر مثل هذا الطلب، ما دام مرتهناً بيد السماء القادرة على كل شيء...

وفعلاً كانت السماء عند ظنه بها،... حيث نادته الملائكة ذات يوم ـ وهو مشغول بصلاته في المحراب ـ بانّ الله يبشره بوليد اسمه (يحيى) .... وتقول النصوص، ان هذا اول إسم يحمل هذه التسمية التي اطلقها الله على الوليد ـ كما هو صريح القرآن في سورةٍ اخرى ـ.

وقد استجابت السماء للنمط الذريّ الذي طلبه زكريا عليه السلام، فبشّرته بالسمة الخطيرة التي ستلف هذا الوليد،... إنها سمة (النبوة) فيما تمثل الصفوة من الآدميين...

كما انّ السماء ألمحت إلى زكريا بوظيفة خطيرة أخرى، سينهض بها وليدها (يحيى)... وهذه الوظيفة تتمثل في انّ يحيى سيكون اولّ شخصية ستساند دعوة عيسى الذي سيولد بعد ستة شهور من حين ولادة يحيى... وسنرى عند حديثنا عن قصة يحيى كيف أنّ لشخصية يحيى التي عرفت بالصدق والنزاهة، أثراً بالغاً في اجتذاب الجمهور الى رسالة عيسى...

إلا انّ زكريا، وقد اذهلته المفاجأة التي كان يتوقعها دون ادنى شك، لا يسعه إلاّ ان يتساؤل، مستفهماً، ومنبهراً، وفرحاً، عن العلامة، عن الآية التي ستعمّق قناعته ويقينه باستجابة السماء لدعوته...

ولذلك هتف: رب اجعل لي آية...

فاجابته السماء، بأن آية ذلك، أن يصوم عن الكلام ثلاثة أيام، أو أن يصوم عن الاكل والكلام جميعاً ـ : كما تقول بعض النصوص المفسرة ـ وأن ينحصر تعامله بالرمز، والايماء مع الآخرين، عدا الكلام المتصل بالله، وبالتسبيح له بالعشي والابكار...

هذا هو ملخص قصة زكريا عليه السلام...

والذي نعتزم لفت نظرك اليه من تلخيصنا لهذه القصة، هو ان تتأمل بدقة موقعها من القصتين اللتين تقدّم الحديث عنهما: أي قصة امرأة عمران ومريم... فلقد رسمها القرآن الكريم بعد قصة امرأة عمران، وعند بداية قصة مريم عليه السلام... أي، أن القرآن رسمها خلال قصة مريم، وعند الشطر الاول من حياتها المتصلة بالعمل العبادي في المحراب... فقطع بذلك سلسلة الأحداث في قصة مريم، ثم تابع رسمها بعد الانتهاء من قصة زكريا عليه السلام...

هنا، ينبغي ان نضع في ذهنك ان لهذا القطع دلالته الفنية والنفسية... فهناك أولاً: مسوغات تتصل بطلب زكريا ـ عليه السلام ـ للولد... فهو حينما شاهد (المعجز) المتمثل في الرزق الذي كان يمطر مريم عليه السلام، تحركت نفسه، واستثيرت، لأن يتقدم بطلب كان يختلج في سريرته وتنازعه نفسه إليه،... فكانت المناسبة ان يتوافق طلبه زمنياً مع ظاهرة (الرزق)...

وهذا ما يشكّل المسوّغ لقطع سلسلة الاحداث والمواقف في قصة مريم، للبدء بصياغة قصة زكريا عليه السلام...

بيد انّ هذا لم يكن لوحده، مسوّغاً فنياً ونفسياً لعملية القطع... بل ثمة مسوغ آخر له خطورته الكبيرة... وهذا المسوغ ـ من الناحية الفنية ـ يتمثل في عملية (التمهيد) والارهاص، بما ستكشف عنه الاحداث والمواقف، في قصة مريم ذاتها، وفي قصة وليدها عيسى عليه السلام،... حيث انّ وليدها عيسى ـ عليه السلام ـ قد بُشر على لسان الملائكة بأن مهمة الرسالة ستكون على يديه... غير ان هناك حدثاً خطيراُ لازال مضمراً في قلب الأيام، ألا وهو أنّ رسالة عيسى سوف تعتمد في بعض خطواتها على مساندة (يحيى) له، ذلك بان ليحيى ـ عليه السلام ـ شخصية ذات مركز اجتماعي خطير، انها تتمتع بتقدير اجتماعي، وبسمعة إجتماعية، كفيلة بان تجعل كلمته مسموعةً عند الجماهير، نظراً لما عرف من صدقه وزهده...

اذن: لما كان من حيث (الزمان)، مولد يحيى سابقاً على مولد عيسى عليه السلام،... حينئذٍ يكون المسوّغ الفني لمجيء قصة زكريا ـ عليه السلام ـ والحديث عن ولده يحيى عليه السلام،... يكون هذا المسوغ واضحاً في قطع سلسلة الوقائع المتصلة بمريم،... لأنّ الشرط الثاني من حياتها هو الذي كشفت القصة عن ولادة عيسى من خلاله... فكان من الطبيعي، ان تجيء قصة يحيى قبل قصة عيسى... سواءاً كان مجيئها من حيث التسلسل الزمني في الولادة: حيث ولد يحيى قبل عيسى بستة شهور،... او كان مجيئها من حيث التسلسل الزمني، ومن حيث التسلسل الموضوعي، في عملية المساندة لرسالة عيسى… وبكلمة أخرى، ما دام يحيى سيكون أول مساندٍ لعيسى، وستكون لكلمته أثرها على نفسية الجمهور، حينئذٍ لا بد أن تجيء قصته سابقةً أيضاً على قصة عيسى...

ان هذه المسوّغات الفنية، يجب ألا تغيب عن بالك لانها تجسّد قيمة الفنّ العظيم في القصص القرآني...

ولكننا حين نتجاوز ذلك كلّه، ونتابع قصة زكريا عليه السلام، نجد أن شخصية يحيى نفسها من الممكن أن تشكّل قصة جديدة، فيكون عدد القصص في سورة آل عمران ستةً،... وتكون قصة يحيى حينئذٍ،: أما قصة مستقلة، او متداخلة، او قصة داخل قصة زكريا...

ولا نريد ان نطيل الحديث عن البناء الفني لهذه القصة، ونقصد بها قصة يحيى عليه السلام... بل نكتفي بالاشارة، إلى أنها رسمت شخصية يحيى، وهي تحمل أربع سمات، لها مساهمتها في المواقف والأحداث، دون أدنى شك... ويكفي انها تحمل سمة (النبوة) كما هو الحال بالنسبة لزكريا وعيسى، فضلاً عن ان القرآن رسمها شخصية تحصر نفسها عن الشهوات، وعن اللهو والأباطيل، وهي سمة (الحصور) التي أطلقها القرآن الكريم عليه، كما رسمها (سيداً) في العلم والعبادة.

والمهم، انّ السمات المذكورة، تظل متجانسة مع السمات التي لحظناها عند امرأة عمران، وعند مريم، وعند زكريا، فيما لا حاجة الى إطالة الكلام في ذلك.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

درسات فنية في قصص القُرآن / الدكتور محمود البستاني

المرفقات