عندما قامت الحرب العالمية الأولى عام 1914 وأعلنت الحكومة العثمانية الحرب على الحلفاء أعلن المسلمون في العراق الجهاد والزحف لمحاربة جيوش الإنكليز التي نزلت في البصرة وقد رفع لواء الجهاد السيد محمد سعيد الحبوبي وقاد جموعاً من المجاهدين حيث دارت بينهم وبين الجيش البريطاني في (الشعيبة) معركة ضارية وقد أرسل ابو المعز السيد محمد الحسيني القزويني وهو احد العلماء الذين اعلنوا الجهاد وباركوا هذا الزحف رسالة الى الحبوبي يقوي فيها من عزيمة المجاهدين ويحثهم في الدفاع عن أرضهم ومقدساتهم وختمها بقوله:
نحن بني العربِ ليوثُ الوغى *** دينُ الهدى فينا قويٌّ عزيز
لا بد أن نزحـــــفَ في جحفلٍ *** نبيدُ فيــــــه جحفلَ الانكليز
ولم ينهض الحبوبي وحده من بين العلماء للجهاد وإنما شاركه معظم المجتهدين مشاركة فعلية فخاضوا خلالها تلك المعارك بأنفسهم فكان من بين العلماء المجاهدين شيخ الشريعة الأصفهاني، والسيد علي الداماد، والمولى محمد حسين القمشهي الكبير، والقمشهي الصغير، والسيد محمد حسين عبد العظيم، والشيخ باقر جيلة، والسيد أبو القاسم الكاشاني وغيرهم كثيرون، وكان الحبوبي في طليعة هؤلاء العلماء المجاهدين، فقد قاد جيشاً جرّاراً عسكر به في الشعيبة بلغ عدده تسعين ألف مجاهد وخاض به معارك شرسة أبدى فيها الثوار بطولاتهم وشجاعتهم في مقارعة الاحتلال، ولما اندحرت جيوش الأتراك عن مراكزها وآل الأمر الى الانسحاب والجلاء عن العراق بعد عراك طويل لم تصمد جموع المجاهدين ــ رغم استبسالها ــ أمام الجيش الانكليزي الذي يفوقها في العدة والعدد فعاد الحبوبي إلى ناصرية المنتفك لاستنهاض العشائر وحثهم على الجهاد من جديد، لكن الأجل فاجأه في الناصرية وذلك في أوائل شعبان (1333 هـ ــ 1915م) فحُمل إلى النجف الأشرف بتشييع عظيم ودفن حيث مقبرته المشهورة في الصحن الحيدري الشريف فكان لوفاته في العراق كله صدى كبير وأسى عميق وقد رثاه كبار الشعراء وأعلام الأدباء في العراق منهم الشيخ جواد الشبيبي الذي يقول في رثائية أرّخ فيها وفاة الحبوبي:
فقيدُ المسلمين غداة أودى *** حسبتَ الدين بينـــــــــهم فقيدا
لئن وجدوه للداعي مجيباً *** فقد فقدوه قـــــــــــــرآناً مجيدا
وإن شهدته أعينهم سعيداً *** فقد حمــــــــلته أرؤسهم شهيدا
تقدم للجهـــــاد أمير دين *** وســــــــاق المسلمين له جنودا
ومذ لاقى المنيــة أرّخوه *** (سعيد في الجهاد قضى سعيدا)
كما رثاه الشاعر الكبير علي الشرقي بقصيدة نقتطف منها هذه الأبيات:
وشاؤوكَ للأوطــــــانِ ظهراً ممنّعاً *** وما شعـــــروا إلا بقاصمةِ الظهرِ
وكم خطوةٍ للمجـــــــدِ قمتَ بسعيها *** تقصِّر من إدراكِها خطوة الخضرِ
وكم ليلةٍ ما ليلة القــــــــــــدر مثلها *** ووجـــــهك في آفاقنا مطلعُ الفجرِ
مضى منعة الأبصار وجـهاً مباركاً *** نقياً كقـرص البدر أو طبق الزهرِ
من خلال هذه الإطلالة المتوهجة من الجانب الجهادي للسيد الحبوبي آثرنا أن ندخل باب التعرف على هذه الشخصية التي تعددت فيها المآثر وتنوعت فيها الجوانب المشرقة، فحريٌّ بنا أن نطالع سفر حياته المليء بالعلم والجهاد والأدب وهو قمين بذلك.
ولد السيد محمد سعيد ابن السيد محمود ابن السيد حمزة ابن السيد مصطفى (جد آل الحبوبي) في النجف الأشرف سنة (1266 هـ / 1850 م) وأسرة الحبوبي أسرة عربية ينتهي نسبها الشريف إلى الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب (عليهما السلام) وينحدر أصل هذه الأسرة من الحجاز حيث لا يزال الكثير منهم يسكن هناك، أما في العراق فهم ينتشرون بين السماوة والنعمانية والنجف وغيرها من المدن العراقية، ومعظم رجال هذه الأسرة يمتهنون التجارة.
نشأ الحبوبي على ما ينشأ عليه لدّاته في المجالس العلمية والأدبية في النجف الأشرف ولا يخفى ما لهذه النشأة من أثر كبير في تكوين شخصية الإنسان، فهذه البيئة العلمية والمحيط الأدبي قد رفدا العالم الإسلامي بالمئات من كبار العلماء الأعلام وفحول الشعراء والأدباء والمفكرين و النوابغ والدعاة فضلاً عن ذلك فقد اجتمعت لدى الحبوبي الكثير من المواهب والمؤهلات التي راحت تعدّ له سبل الرقي والنبوغ العلمي والأدبي.
درس الحبوبي الأخلاق والرياضيات عند العلامة الكبير ميرزا حسين قُلي، ودرس الفقه والأصول عند الأستاذ الكبير الشيخ محمد حسين الكاظمي، وبعد وفاة هذا الأستاذ حضر الحبوبي دروس الشيخ محمد طه نجف، وقد أشاد هذا الأستاذ الكبير بعلمية شاعرنا و منزلته بكلمات كثيرة، ثم انقطع الحبوبي للتأليف والتدريس وقد تخرج على يديه الكثير من طلاب العلم وكبار العلماء والمجتهدين، كما ترك آثاراً وكتابات في الأصول والفقه لم يطبع منها سوى ديوان شعره.
وإذا رأينا الحبوبي طوداً في علمه وفقهه فإننا نلفيه بحراً زاخراً بأدبه وشعره ويشهد له ديوانه ذلك السفر الأدبي على صدارته الشعرية في عصره بالرغم مما كانت تضم مدينة النجف الاشرف في ذلك الوقت من فطاحل الشعر ونوابغ الأدب أمثال السيد جعفر الحلي والسيد موسى الطالقاني والشيخ عباس القرشي والشيخ محسن الخضري وغيرهم.
امتاز شعر الحبوبي بدقة الوصف وجودة السبك وحسن الاختيار في الصورة الشعرية إضافة إلى ذلك جمال الأسلوب وجزالة التراكيب كما كان متميزاً باختياره لمطلع القصيدة ليكون لوحة رائعة متكاملة فلنستمع إلى مطلع مرثيته للسيد حيدر الحلي بقيثارته الحزينة والتي لا يخالج القارئ الشك في أنه يستمع الى مرثية لأحد كبار شعراء العصر العباسي يقول الحبوبي:
أبِنْ ليَ نجــــــوى لو تطيق بيانا *** ألســــتَ لعدنانٍ فماً ولسانا
وأبلغ خطـــــاباً فالبلاغة سلِّمت *** لكفيك منــــها مقوداً وعِنانا
وجل يا جواد السبق في حلباتها *** فهاشمُ سامتْ للسُّباتِ رِهانا
ورغم طول القصيدة ــ 85 بيتاً ــ إلا أنها لا تفقد تأثيرها وروعتها لدى القارئ حيث تكاملت فيها جميع الخصائص الرثائية، ولعل شخصية المرثي له قد ساعدت في هذا التكامل يقول الحبوبي:
أغيث الأيــــــــــــــــــادي قد تقشّع غيثها *** وحين المعادي كيف حينك حانا
صُرعت وما خلتُ الردى يصرعُ الردى *** لعمـري وما يفـني الزمانُ زمانا
فيا صارماً لاقى من المــــــــوتِ صارماً *** بلى وسنـــــــــاناً ذاق منه سنانا
ثم تدور أبيات القصيدة الأخرى حول الإحساس بالفقد ويشيع فيها جو من الحزن والأسى يجعلها وحدة عضوية واحدة:
أجدّك علّمني لوصلــــــــك حيلة *** فأنت الذي علّمتني الهيـمانا
وهَب أن سمعي نــــافعٌ بحديثكم *** أللعين معنىً أو تراك عـيانا
ولا أسفاً ما أن مضى الدهر كلّه *** هباءً إذا أبصرت وجهك آنا
والمطالع لديوان الحبوبي يجد أن أغلب قصائد الديوان تصب في مصب الغزل والنسيب وقد أبدع الحبوبي في هذا الباب أيما إبداع حيث فاق شعراء عصره في هذا الباب فكانت ألفاظه وأساليبه فيها الكثير من الأصالة والجودة والرقة والعذوبة، ولا يخفى أن الشاعر يطرق في شعره جميع الأغراض حيث أن الذي ساد أغلب القصائد في الشعر العربي القديم هو المقدمة الغزلية وقد يبدأ الشاعر مقدمته بهذا الباب حتى وإن كانت رثائية أو في باب المدح ويجود خياله له بأسماء وهمية يتغزل بها في هذه المقدمة كـ(دعد) و (هند) و (سعاد) كما في قصيدة كعب بن زهير المشهورة والتي أنشدها أمام النبي (ص) في مدحه والتي يقول فيها:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبولُ *** متيمٌ بعـــــــــدها لم يفد مكبولُ
هيفاء مقبـــــلة عجزاء مدبرة *** لا يشتكى قصر منها ولا طولُ
وقد جرى الشعراء في عصر الحبوبي على هذه الطريقة فكان الشاعر يتفنن في أغراض الشعر ويطرق جميع أبوابه ومنها باب الغزل لكي يبرهن أنه ذو مقدرة في هذا الباب ويؤكد الحبوبي هذا وينبئ عن مركزه في العفة بقوله في (موشح):
لا تخلُ ويكَ ومن يســـمع يخلْ *** إنني بالراحِ مشغوفُ الفؤادْ
أو بمهظوم الحشا ساهي المقلْ *** أخجلت قامته سمرَ الصعادْ
أو بربـــــــــــاتِ خدورٍ وكللْ *** يتفنــــــــــــــنَّ بقربٍ وبعادْ
إنَّ لي من شـــرفي برداً ضفا *** هو من دون الهوى مرتهني
غير أني رمت نـــهجَ الظرفا *** عفة النفسِ وفــــسق الألسنِ
ولم تكن إجادته في هذا الباب وحده فمن يطالع رثائياته يجده قد تفرّد بهذا الفرض بأسلوبه الرائق المشجي يقول في إحداها راثياً أحد علماء الدين في النجف الأشرف:
نزعتك من يدها قريش صقيلا *** وطـــــوتك فذاً بل طوتك قبيلا
فُجعتْ بفقــــــدِكَ واحداً فكأنما *** فُجعــت بآلِ النضرِ جيلاً جيلا
وتذكرت في يــومِ فقدِكَ فقدها *** مضراً فأوصلتِ العويلَ عويلا
كما تعددت الأغراض بين ثنايا شعره وتنوّعت المعاني في وصف وتصوير الطبيعة ونعت لمشاهد الكون يقول من قصيدة طرق فيها باب الفلسفة الأدبية:
سمــاءُ اليومِ مثل سماءِ أمسِ *** وما نقصت سموّاً وارتفاعا
وليس بضائرِ المـسكِ استتارٌ *** إذا ما عرفه الداريّ ضاعا
وما غــبّ البطــاح السيل إلا *** مذ أخضـرّت بمجراه بقاعا
ونقتطف هذه الصورة الإسطورية من إحدى قصائده الرثائية:
والموتُ موعدُ من تمادى عمره *** والدهرُ منجزُ وعده الموعودِ
ولسوف يقتطـف الثريا إذ غدت *** تلتامُ فـــــــي شبهٍ من العنقودِ
ويدوس سنبــــله السماء وينثني *** من زرعِ أنـجمِها بكلِّ حصيدِ
ويصيدُ نسرَ النــجمِ من أوكارِهِ *** بشبــــاكِ مقتـنصٍ وفخِّ مصيدِ
ولعل الموضوع لا يتسع لذكر أكثر مما ذكرناه من أبيات متفرقة لكن يجدر بنا أن ننوّه إلى أن الحبوبي ترك الشعر نهائياً قبل أن يدركه الموت بثمان وعشرين سنة حيث تفرّغ كلياً لما كان يتطلبه الدين الحنيف من فقه وأصول وعلوم إسلامية.
محمد طاهر الصفار
الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة
اترك تعليق