نهج البلاغة .. سفر الصلاح والإصلاح

لم يكن الدافع من وراء هذا الموضوع هو دخول مضمار البحث والدراسة عن هذا السفر العظيم والخالد الذي كتب عنه الكثيرون وتاهوا في آيات إعجازه وعظمته، بقدر ما كان الدافع هو حاجتنا الماسة له والعمل بتعاليمه والإقتداء بما جاء به من مبادئ وأخلاق.

فالمقارنة بين ما يطغى على مجتمعنا الإسلامي الآن من تخبّط وفوضى وما نعيشه من تناحر وانقسامات متعددة ومتباعدة ومتصارعة وبين ما جاء في هذا النهج الذي مثل الروح الجوهرية للإسلام والمفاهيم النبيلة التي جاء بها نبينا العظيم محمد (صلى الله عليه وآله) وسار عليها أئمتنا المعصومون (عليهم السلام) في تحقيق طموحات الإنسان من أجل حياة حرة كريمة، وتوحيد الأهداف بيننا وبين الشعوب والتقارب فيما بينها، تقتضي منا خلق حالة من التبادل والتفاعل في سلوكنا مع تلك المفاهيم والقيم الإنسانية والأخلاق السامية في نهج البلاغة.   

فهذا السفر الإنساني الخالد امتاز بشموليته، حيث شمل جميع القيم والمفاهيم الإنسانية والفكرية والاجتماعية والفلسفية، وإذا كان الواجب يحتم علينا تكريس وقتنا له، والتأمل في مفاهيمه وتعاليمه، فإن  الأوجب أن نفعّل هذا الإرث الثقافي الإنساني في حياتنا، والإستفادة من هذا الكون العلمي والفكري الخلّاق، وخاصة في وقتنا هذا الذي نواجه فيه غزواً فكرياً وحضارياً يستهدف شخصيتنا بالتمزقات ويمزق هويتنا بالصراعات التي استنزفت كيان الأمة الإسلامية.

إن نهج البلاغة يمثل الإسلام بكل نقائه وصفائه، وهو أعظم دستور إنساني بعد القرآن الكريم يحفظ للإنسانية حقوقها وكرامتها ويبلغ بها مبالغ الكمال، فلم يعرف التاريخ الإسلامي بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عقلية عظيمة واعية استطاعت أن تسنّ نهجاً اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً بهذه العبقرية كعلي بن أبي طالب (عليه السلام).

فكان من أهم مميزات هذا النهج أنه لم يصدر كأغلب الآثار الثقافية نتيجة لعوامل اجتماعية أو سياسية معينة تلبي حاجات معينة ثم تفقد قيمتها عندما تنتفي تلك العوامل، بل كان نهجاً عالمياً إنسانياً لا يتحدد بزمان ولا مكان، يرتقي بالإنسان في كل زمان ومكان.

نهج البلاغة .., ملهم العقول

لا تحتاج هذه الميزة إلى دليل فهذا النهج حيّر عقول أصحاب العقول على مدى الأزمان ببلاغته وشموليته وغزير علمه، وننتقي بعض النماذج من الأقوال بحق نهج البلاغة من عصور مختلفة وتوجّهات متباينة لكنها توحّدت ووقفت إجلالاً أمام هذه العبقرية التي خلبت ألبابهم.

يروي ابن أبي الحديد: أن ابن عباس حبر الأمة والمعاصر لعلي بن أبي طالب (عليه السلام) قال : (والله ما انتفعت بكلام بعد كلام رسول الله كانتفاعي بهذا الكلام) (1) - يقصد كلام أمير المؤمنين-.

وعندما يذكر الجاحظ المتوفى سنة (255هـ): كلمة أمير المؤمنين (عليه السلام): (قيمة كل امرئ ما يحسنه)، يقول : (فلو لم نقف من كتابنا هذا إلّا على هذه الكلمة لوجدناها كافية شافية، ومجزية مغنية، بل لوجدناها فاضلة على الكفاية، وغير مقصّرة عن الغاية، وكأن الله عز وجل قد ألبسه من الجلالة، وغشاه من نور الحكمة على حسب نية صاحبه وتقوى قائله) (2).

وعندما سُئِل عبد الرحيم بن نباتة الخطيب المتوفى سنة (374هـ) والذي كان يضرب به المثل في الخطابة عن سر فصاحته وبلاغته قال: (حفظت مائة فصل من مواعظ علي بن أبي طالب (عليه السلام). (3)

ويقول قدامة بن جعفر المتوفى سنة (337هـ): (أما علي فقد بز أهل الكلام في القصار والطوال وفي سائر الفضائل).

ولابن أبي الحديد كلام كثير في حق نهج البلاغة نقتطف منه قوله: (إن كلامه فوق كلام المخلوق ودون كلام الخالق).

وتُبلى العصور والأزمان ويبقى نهج البلاغة يرفد الأجيال بالعطاء وينبض بالنور الذي أبصر به حتى الأعمى حيث يقول طه حسين عندما يسمع كلمة الإمام علي (عليه السلام) : (أعرف الحق تعرف أهله):

(ما أعرف جواباً أروع من هذا الجواب الذي لا يعصم من الخطأ أحداً مهما تكن منزلته، ولا يحتكر الحق لأحد مهما تكن مكانته، بعد أن سكت الوحي، وانقطع خبر السماء).

إن عميد الأدب العربي يعترف بأنه لا يستطيع أحد أن يأتي بمثل هذا الكلام بعد انقطاع خبر السماء أي القرآن.

ونكتفي بهذه الأقوال، فهناك أقوال كثيرة لأعلام من مختلف العصور غير أننا اكتفينا بهذه النماذج من الأقوال التي يمثل قائلوها قمة البلاغة في عصرهم. فالعبرة ليست بالكثرة للعاقل، كما أننا لا نريد هنا استعراض هذه الأقوال للتعريف بهذا النهج الخالد فهو كصاحبه الذي قال فيه المتنبي:

وتركتُ مدحي للوصـيِّ تعمّداً   ***   إذ كان نــــــــــوراً مستطيلاً شاملاً

وإذا استطالَ الشيء قام بنفسهِ   ***   وصفاءُ ضوءِ الشمسِ يذهبُ باطلا

ولكن أردنا الإشارة إلى أننا في أمس الحاجة اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى هذا النهج العظيم الذي يعيد إلينا إنسانيتنا، ويبعث فينا الروح التي نحظى فيها بالحق والعدل والنبل والفضيلة وجميع القيم الإنسانية العليا التي كان رائدها علي بن أبي طالب (عليه السلام).

شمولية الأبعاد

يقول الأستاذ مرتضى مطهري: (إن الكلمة مرآة الروح الإنسانية) ولذلك فإن كل كلمة تتعلّق بنفس العالم الذي يرتبط به روح صاحبها، فالكلمات التي تتعلق بعوالم عديدة تكون علامة على تلك الروح التي لم تنحصر في عالم واحد، وحيث إن روح الإمام لا تتحدد بعالم خاص، بل هو ذلك الإنسان الكامل الجامع لجميع مراتب الإنسانية والروحية والمعنوية، فلا تختص كلماته أيضاً بعالم واحد، إن من مميزات كلام الإمام إنه ذو أبعاد متعددة وليس ذا بعد واحد.

أجل إن خصوصية الشمول والاستيعاب التي تميّز بها نهج البلاغة جعلته نوراً للإنسانية كلها في كل زمان ومكان، وأعطته صفة الخلود، فلم يدع هذا السفر المضيء أبداً، مجالاً من مجالات الحياة دون أن يقدم له أفضل ما يقدمه عقل للمجتمع بحكم ومواعظ وأفكار عظيمة، ترسم له واقعاً إنسانياً مثالياً.

فما أحوجنا اليوم إلى فتح نافذة على هذا السطوع، وما أحوجنا اليوم إلى فتح حوار تاريخي أخلاقي مع رجل عظيم ملأ تاريخنا سطوعاً.

رجل لم يعرف التاريخ الإسلامي ــ بعد النبي محمد ــ رجلاً كان بمستوى عظمته إلى الآن، وإلى يوم القيامة، رجل كان مثالاً للإنسان الكامل الذي تجسّدت فيه كل معاني الخير، والصفاء، والفضيلة، والإنسانية بأرفع قيمها، رجل ألهم البشرية المعنى الحقيقي للإنسان ووضع لها مبادئ العدالة الاجتماعية.

إنه علي بن أبي طالب، مبدع نهج البلاغة ــ القرآن الثاني ــ وهو أروع دستور خطته يد إنسان للأمة، يحقق لها مستقبلها الزاهر فيما لو عملت به وبتعاليمه.

إن مما يؤسف له حقاً، بل ومما يُدمَى له القلب أننا تركنا العمل بهذا السفر، ونبذناه وراء أظهرنا، واتخذناه مهجوراً، فالأمم تقتبس من تراثها ما ينير لها مستقبل أجيالها في جميع الفنون والآداب ومجالات الحياة الأخرى، وهي كلها دون ما ضمته صفحات هذا النهج من البلاغة والشمول والموسوعية والإحاطة بكل المجالات بما يفوق حد التخصص لأصحاب كل مجال، حتى أخذ منه أصحاب الاختصاص، كلٌ حسب اختصاصه.

فقد امتلأ هذا البحر الزاخر بعوالم الحكمة، والفلسفة، والنصح، والموعظة، والسياسة، والاجتماع، والعرفان، والعبادة وهو ما أذهل العلماء، ومنهم جامع هذا النهج السيد الشريف الرضي حيث يقول:

(ومن عجائبه التي انفرد بها، وأمِنَ المشاركة فيها، أن كلامه الوارد في الزهد والمواعظ والتذكير والزواجر، إذا تأمله المتأمل، وفكّر فيه المفكر، وخلع من قلبه أنه كلام مثله ممن عظم قدره، ونفذ أمره، وأحاط بالرقاب ملكه، لم يعترضه الشك في أنه كلام من لاحظ له في غير الزهد والعبادة، ولا شغل له بغير العبادة، قد قبع في كسر بيت، أو انقطع إلى سفح جبل، لا يسمع إلا حسه، ولا يرى إلا نفسه، ولا يكاد يوقن بأنه كلام من ينغمس في الحرب مصلتاً سيفه فيقطع الرقاب ويجندل الأبطال، ويعود به ينطف دماً ويقطر مهجاً وهو مع تلك الحال زاهد الزهّاد، وبدل الأبدال، وهذه من فضائله العجيبة، وخصائصه اللطيفة التي جمع بها بين الأضداد، وألف بين الأشتات، وكثيراً ما أذكر الأخوان بها، واستخرج عجبهم منها، وهي موضع العبرة بها والفكر فيها).

وقال محمد عبده عندما وقع كتاب نهج البلاغة في يده: (فتصفحت بعض صفحاته، وتأمّلت جملاً من عباراته من مواضع مختلفات، ومواضع متفرقات، فكان يخيل لي في كل مقام أن حروباً شبت، وغارات شنت، وإن للبلاغة دولة، وللفصاحة صولة... وإن مدبر تلك الصولة هو حامل لوائها الغالب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، بل كنت كلما انتقلت من موضع إلى موضع أحس بتغير المشاهد وتحول المعاهد).

ويقول الكاتب اللبناني - المسيحي- ميخائيل نعيمة في مقدمة كتاب (الإمام علي صوت العدالة الإنسانية) لجورج جرداق:

(بطولات الإمام ما اقتصرت على ميادين الحرب، فقد كان بطلا في صفاء رأيه، وطهارة وجدانه، وسحر بيانه، وعمق إنسانيته، وحرارة إيمانه، وسمو دعته، ونصرته للمحروم والمظلوم من الحارم والظالم، وتعبده للحق أينما تجلّى له الحق).

وهذا مما أبهر الشاعر صفي الدين الحلي أيضاً فضمّنه في قصيدته التي مدح بها الإمام علّياً (عليه السلام) فقال:

جُمعت في صفــــاتكَ الأضدادُ   ***   ولهذا عــزّت لكَ الأندادُ

زاهدٌ حـــــــــاكمٌ، حليمٌ شجاعٌ   ***   فاتكٌ ناســــكٌ فقيرٌ جوادُ

شيــــــمٌ ما جُمعن في بشرٍ قط   ***   ولا حــــازَ مثلهن العبادُ

خلقٌ يُخجلُ النسيـمَ من اللطفِ   ***   وبأسٌ يذوبُ منه الجمادُ

جلّ معناكَ أن يحيطَ به الشعرُ   ***   ويحصــي صفاتكَ النقّادُ

فلم يكن الإمام يهدف من خلال كلامه البليغ إظهار عبقرية أدبية، أو صناعة لفظية، فلم يكن الكلام عنده هدفاً بل وسيلة إلى أهدافه، لذلك تخطّى (نهج البلاغة) حدود عصره، وتخلّد عبر الزمان والمكان.

..........................................................

1 ــ شرح النهج ج 15 /  ص 14

2 ــ البيان والتبيين ص 202

3 ــ بحار الأنوار للمجلسي ج ٤١ ص ١٤٦

محمد طاهر الصفار

المرفقات

: محمد طاهر الصفار