وظيفة الفن..

تحاول الفنون بجميع أشكالها وانواعها أن تخبرنا - عن طريق الفنان والعمل الفني - بشيء ما عن الإنسان أو الحياة أو الكون، فهي تبرز البعد المعرفي بوصفه خصيصة ثابتة ومتجذرة في الفن، فالفن نهج للمعرفة ذو قيمة للإنسان شأنه شأن الفلسفة والعلم، ولا يسعنا الوصول إلى ماهية الفن وتقدير أهميته ووظيفته في المجتمع، إلا إذا اعتبرناه سبيلاً للمعرفة بل ومتميز عن سائر السبل الاخرى التي يستعين بها الإنسان لفهم حياته والتواصل مع ابناء جنسه.

عادة ما يدرج الفنان بوصفه عنصراً فعالاً في المجتمع ضمن الصفوة المؤهلة لتوجيه المجتمع وارشاده إلى طريق التقدم والصلاح، فهو يوظف عقله وبصيرته في الواقع ليصل إلى كشوفاته المعرفية و ينقلها إلى الآخرين عبر الفن، فالفن يعد وسيلة اتصال وترابط مثلى بين الناس.. وعن طريقه تنتقل الخبرة من الفنان إلى جمهور المتلقين.. فالفنان يحس بشحنة انفعالية لا يلبث ان يفرغها في قالب فني ما سواء كان رساما او اديباً، ثم يأتي بعد ذلك المتلقي الذي تذهله تلك الشحنة فيتأثر بها، وتتكيف عقليته تبعاً لها،  فهو – الفن - بهذه الصيغة يلتزم بوظيفة أخلاقية تجاه الآخرين من ابناء المجتمع، فالفن يحقق التزامه الأخلاقي بمقدار ما يكشفه من الحقيقة الجمالية، ومادامت الأخلاق والفضيلة ومسألة الحق والخير منضوية جميعاً تحت راية الجمال.. فنحن لا بد ان ندرك ان العمل الفني يحتوي على ما يهذب الإنسان وينمي ذوقه وإحساسه الجمالي ويزكي روحه بشكل مؤثر، وهذا ما لا تملكه الرسائل الاخلاقية الاخرى الموجهة لمجتمع ما، فالجانب الروحي الأخلاقي قد يتسرب ألينا خلسة من خلال العمل الفني الإبداعي وبالتالي يؤدي وظيفته التي أُبدع من اجلها.

وقد تناول الفلاسفة ومنذ القدم وظيفة الفن واختلفت آرائهم حول وظيفة الفن، ولكنها وعلى رغم الاختلاف يجب ان تكون وفق سياق شروط الشكل الجمالي، فأفلاطون مثلاً كان يرى ان للفن وظيفة تتمثل في التوجيه نحو ما هو صحيح وعادل وشريف، اما تلميذه أرسطو فيرى ان الانسجام والنظام هما المثال الأعلى للفن ، ومن منطلق فلسفته في الفن التي تتحدد في محاكاة ماهية الأشياء التي اكد فيها أن هدف الفن ليس إظهار مظهر الأشياء بل أهميتها الداخلية لان الداخل هو حقيقة الفن فيها، وقد أنيطت أهمية كبيرة للفن وما يؤديه من وظيفة جوهرية في الحياة، فهناك من يعطي أهمية عظمى لدور الفن بوصفه تجسيداً شعورياً لأفكار الحقيقة والخير.

ان الفن بما يمتلك من قوة هائلة تنبع من طبيعته الفكرية يعد سلاحا ذا حدين، فهو كما يوظف لخدمة الحقيقة ودعوة الإنسان إلى التحرر والفضيلة فمن الممكن ان توظف قوة الفن لما هو معاكس لاتجاه الخير والمنفعة الإنسانية.. فالموسيقى على سبيل المثال قد تخدمنا إلى حد السلبية كما قد ترفعنا وتحركنا إلى العمل، ويقول تولستوي في هذا الشأن ( انه حيثما تريد ان تتخذ عبيداً فلتصطنع من الموسيقى بقدر ما تستطيع، لأنها تبلد الفهم )، ولا يخفى مقصده في هذه المقولة  فالموسيقى هنا هي الموسيقى المسببة للميوعة وبعض الميول الغير مقبولة اجتماعياً وليس كل الموسيقى، فهناك من الموسيقى ما الموسيقى ما يحاكي المثل ويرفع الهمم في المعارك والثورات.

ومن المفترض أن تستثمر قوة الفن في الاتجاه الصائب والصحيح ليحقـق النتائج النافعة للإنسانية، فلا يمكن أن يطلق العنان لقوة الخيال كي تفعل ما تشاء بل يجب تحديدها بهدف عقلائي يكون غاية لها وموجهاً لها، وهذا ما يؤكده بعض منظري الجمال حين يعدون الخيال تمثيلا لما وجد منذ الأزلية، بشكل حقيقي لا يمكن تغييره، أي بمعنى ادق البحث عن الحقيقة الخالدة وتجسيدها في شكل جمالي، كما تؤكد المدرسة الرومانتيكية في الفن هذا الأمر حين تقرر في مبادئها أن مهمة الفنان هي أن يقرأ السر العلني في الكون، وتلك هي وظيفة يتبناها الفنان ويكتف من خلالها جوهر الأشياء ويحاول تجسيدها في شكل جمالي بما يملكه من قوة الخيال الخلاق، والإنسان بوصفه عاقلاً مفكراً فان طلبه للمعنى جزء من طبيعته البشرية، والأدب والفن التشكيلي هما الأقدر على توفير هذا المطلب، لأنها أوثق الفنون صلة بالملكة العقلية.. وبإمكان الإنسان أن يزداد فهماً لواقعه ونفسه وان يسعـى لإغناء تجربته وتنظيمها بممارسة الفنون كي يحيا حياة افضل، وهذه بالتحديد هي وظيفة الفن كما هو متفق عليها، والغرض من الفنون بصورة عامة وحسب الآراء الشائعة والغالبة، هو محاكاة الطبيعة سواء في صورتها الواقعية أم في صورتها المثالية والفن التشكيلي و الأدب بلا شك ينطبق عليهما ذلك الامر.

ففن الأدب مثلاً بما تهيئه له أداته المتمثلة في اللغة يعد ميداناً رحباً للأفكار والمعرفة وعرض المبادئ الفلسفية والخلقية بصيغة جمالية ضمن شروط العمل الفني وطبيعته، فهو قادر على مساعدة الإنسان بان يعي ذاته ويفهمها وان يفهم حياته والكون المحيط به، وحثه على التحلي بالفضيلة والسعي لاكتساب الكمال ومعرفة الحقيقة، وزرع بذرة الإنسانية وروح التعاون بين البشر... وكذا الحال بالنسبة للفنون التشكيلية فهما متطابقان في الغالب باستثناء الاداة فهنا يكون اللون والخط هما اداة تصوير الاشكال وروحيتها.. فمن المسلمات ان الأديب او الرسام يملكان قوة معرفية كافية لتصوير الحياة في أشكال تثير في المرء الرغبة في العيش والإصلاح والاتجاه نحو المثل العليا، فكل منهما يعرض للناس النموذج المثالي للحياة وتجميله لتحفيز الآخرين على الحذو حذوه وسلوك مدارج الرقي الروحي والفكري، فالرسم مثلاً بانتمائه للفنون التشكيلية نلاحظ انه يحمل بعداً جماليا بل مبدأً من مبادئ الجمال، وهو مبدأ الوحدة في الكثرة فمهما تعددت مهمة الرسم وكثرت وتشعبت فإنها تبقى ضمن الوظيفة الام التي ينبغي ان يلتزم بها الفنان بوصفه فناً من الفنون التشكيلية ، والوظيفة الأساسية للفنون التشكيلية هي خلق عالم حي نابض من خلال تجسيد التجارب الجمالية، ومن البديهي ان التجربة الحية بوصفها عينة من الحياة فأنها تحفل بما تزخر به الحياة من متع وعبر ومعارف وجواهر وغيرها.

سامر قحطان القيسي

الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة

المرفقات