رغم أن المصادر التاريخية والأدبية لم تسعفنا بنقل أخبار الشاعر محمد جواد البغدادي، ولم تذكر ما يفي بالغرض للباحث بالحديث عن أسرته وعشيرته وحياته الاجتماعية ونشأته الأدبية، إلّا أن ديوانه يكشف الكثير من المزايا والخصائص التي يتمتع بها هذا الشاعر، كما ينمّ شعره أيضاً عن انتمائه إلى أسرة عريقة في العلم والأدب ولها الكثير من المكارم والمآثر في سجل التاريخ، ويقيناً إن من أفضل المآثر وأجل المكارم لهذه الأسرة هي إنجابها هذا الشاعر الذي يعد نسيجاً وحده في أدبه وقوة شاعريته.
ولد محمد جواد بن عبد الرضا بن عوّاد البغدادي في بغداد في أسرة آل عوّاد البغدادية العريقة، أما ما يخص أسرته فهناك قول للمؤرخ الأستاذ المرحوم عباس العزاوي ينسب فيه الشاعر إلى أسرة آل عوّاد الكربلائية الشهيرة والمعروفة بمواقفها الوطنية، غير أن الأستاذ سلمان هادي آل طعمة يفنّد هذا القول بقوله: (لم يثبت لدينا حتى الآن على أنه ينحدر بنسبة إلى آل عواد الأسرة الكربلائية الشهيرة المعروفة بمواقفها الوطنية، حيث قد اتصلت بكبار هذه العائلة فصرّحوا أن هذا الشاعر ليست له أية صلة بأسرتنا كما أننا لم نعثر على مكان وتاريخ ولادته ووفاته). (1)
أما السيد السيد جواد شبر فيقول: (ينحدر الشاعر محمد جواد البغدادي من أسرة عربية من قبيلة شمر هبطت بغداد قبل أربعة قرون، وعميد هذه الأسرة قبل قرنين في بغداد كان الحاج محمد علي عواد من الأعيان وأرباب الخير) (2)
ولادته
أما تاريخ ولادة الشاعر فرغم أنه لم يتطرّق الكتاب والمؤلفون إليها، غير أن هناك قول نستشف منه الفترة التي عاش فيها، فعندما يتعرّض السيد محسن الأمين إلى ترجمته يقول: (كان حياً سنة (1128هـ) وهو معاصر للسيد نصر الله الحائري وبينهما مراسلات وذكره جامع ديوان السيد نصر الله الحائري فقال: شمس دار السلام بغداد، المولى الأكرم الحاج محمد جواد ووصفه أيضاً بعمدة الفضلاء، وزبدة الأدباء الأوحد الأمجد)، ثم يقول الأمين: (وهو شاعر أديب له ديوان شعر صغير جمعه في حياته رأينا منه نسخة في العراق سنة (1352هـ)، وابن عواد من بارزي شعراء عصره وممن مرّ عليه الثناء من أعلام المترجمين والشعراء، وهو كما يبدو من شعره أديب له ديباجة طيبة شأن) (3)، كما أن هناك قصيدة في ديوان السيد نصر الله الحائري تبين حالة الشاعر البغدادي الاجتماعية في تلك الفترة، وهذه القصيدة هي في رثاء الحاج عبد الرضا (والد الشاعر) الذي توفي مع زوجته (أم الشاعر) وحفيده طه (ابن الشاعر) سنة (1127هـ) في مكة المكرمة، ويتضح من هذه القصيدة أن البغدادي كان أباً في تلك الفترة وعلى هذا الاعتبار يمكننا القول أنه ولد في بدايات القرن الثاني عشر الهجري على أقل تقدير.
في سفر التاريخ
وكما لم تذكر المصادر تاريخ ولادته على وجه التحديد فقد غفلت أيضاً عن تفاصيل نشأته سوى كلمات الثناء والتقدير من قبل مترجميه، ويهمنا هنا أن نورد ــ باختصار ــ بعض هذه الترجمات التي تسلط الضوء أكثر على الشاعر.
فقد ترجم له الشيخ آغا بزرك الطهراني فقال: (الشاعر الأديب، الكامل الأريب) (4) ، كما ترجم له الشيخ محمد حرز الدين فقال: (كان من أدباء بغداد وشعرائها ووجوهها الكُمَّل) (5)، وترجم للشاعر الشيخ محمد علي بشارة الخيقاني فقال: (أديب أحله الأدب صدر المجالس ونجيب طابت منه الفروع والمغارس) (6)، وقال عصام الدين عثمان بن علي بن مراد العمري عن الشاعر: (طريقته في المعارف مبرأة من المحذور والمخاوف، ففهمه قفل كمال، ويده مفتاح مقال، ونفثاته تدل على خبرته في الأدب) (7)، أما محمد بن مصطفى الغلامي فيقول في ترجمته: (شيخ بالسن والأدب، سيف قريحته لا ينبو، وجواد فصاحته لا يكبو والصارم الذي لا ينبو، نشره يزري بمنثور الحدائق، ونظمه يفوق العقد الرائق) (8)، ويبدو من قول السماوي فيه أنه كان ميسور الحال وافر النعمة حيث وصفه بالقول: (كان فاضلاً سرياً أديباً شاعراً وكان ذا يسر ممدّحاً تقصده الشعراء)، وهناك أقوال أخرى عن الشاعر في كتب أخرى لا تختلف في القصد عن هذه الأقوال التي تغني عن البحث والتقصي للدلالة على شاعرية البغدادي.(9)
شاعريته
ومما تقدم من الأقوال فيه يبرز لنا هذا الشاعر من أدباء بغداد الكبار وشعرائها الإفذاذ يمتاز شعره بالقوة والمتانة والرقة والدقة، فضلاً عن تسجيله لأحداث مهمة في بغداد والعراق لها قيمتها التاريخية، وقد أجمع مترجموه من الأدباء والمؤرخين على أنه من الطبقة الأولى في شعراء عصره. ومن الأحداث المهمة في عصره والتي أرخها في شعره هي تجديد صندوق ضريح الإمام علي بن أبي طالب (ع)، فقد جاء في تاريخ العراق بين احتلالين وماضي النجف وحاضرها ما نصه: (جرى هذا التجديد أيام الوالي حسن باشا سنة (1126هـ/1714م) إذ قام بزيارة الحسين (ع) وقد خيّم خارج البلدة يومين ثم توجه الى زيارة الإمام علي (ع) وفي هذه المرة جدد الصندوق في الضريح ولمّا حضر القاضي والمفتي والنقيب أُجري الاحتفال المهيب ورفع الصندوق العتيق فوضع مكانه الجديد فغطاه بالستار).
فقال الشاعر البغدادي في هذه المناسبة مؤرِّخاً هذه المناسبة من ضمن قصيدة:
للإمــــامِ الذي لرفعته *** لَثمَ العــــــــــــالمونَ أعتابَه
ذو المعالي علي بن أبــــــــــــــي طالبٍ من غدا التقى دابَه
أسدُ الله من بصـارمهِ *** قــــــدّ عمرواً وصدّ أحزابَه
يا لهُ في البهاءِ صندوقــــــــــــاً مدّ فيـــــــــــه السنا أطنابه
فهر بـــرجٌ بدأبهِ قمرٌ *** ظلّمُ الغــــــــــيّ فيه منجابه
ألهم الحق فيه تاريخاً *** (أسدٌ جــــــــــدّدوا له غابَه)
فلأمير المؤمنين (ع) مكانة كبيرة في قلب الشاعر حتى أنه صدّر ديوانه بقصيدة في مدحه (ع) وقال في تصديرها: (قد يدّعي المرء الكحل بكحلِه، وقد يتزيّا بالهوى غير أهله، أني لم استجلب بشعري لجيناً ولا ذهباً، وإنما قلته متأدباً لا متكسباً، وقد أحببت التصدير بقصيدة في مدح الأمير (ع)).
يقول في هذه القصيدة:
أبارقٌ في جـــنحُ ديـــــــــــماسِ *** لاحَ لنا أم ضــــــوءُ نبراسِ
أم ذاك نورٌ قد بدا لامــــــــــــعاً *** من قبرِ مــــولىً للتقى كاسِ
أعني ابنَ عمِّ المصطفى الطاهر الأعـــــــراقِ مــــــن رجسٍ وإدناسِ
سلالة الأمجاد من هــــــــــــاشمٍ *** ذوي السناءِ الشامخِ الراسي
عبّر الشاعر في هذه البداية عن حبّه العميق لإمامه وتعديد بعض صفاته ثم ينتقل إلى الكلام عن بعض مآثره ومناقبه (ع) فيقول:
كهفٌ منيعُ الجــارِ للملتجي *** بحرٌ خضمُ الجودِ للحـــــاسي
سهلٌ رقيقُ القلـبِ في سلمهِ *** صعبٌ شديدُ العزمِ في الباسِ
قالعُ بابِ الحصنِ في خيبرٍ *** رامي أولي الشركِ بأبـــلاسِ
وقاتلٌ مرحـــــبُ إذ لم يجد *** غنىً بأسيافٍ وأتـــــــــــراسِ
ومؤثرٌ بالقـــــرصِ لم يدنِهِ *** ثلاثةً منـــــــــــه لأضـــراسِ
ويومُ خمٍّ تمَّ عـــــــقدُ الولا *** له عـــــــــلى الأمّةِ والنــــاسِ
ويترسل الشاعر في تعديد فضائل أمير المؤمنين (ع)، وعندما يصل إلى بعضها يعبر عن عجزه أمام هذه شخصيته العظيمة فيقول:
ذو مكرمــــاتٍ جـمّة لم أُطقْ *** إحصاءها في طـيِّ قرطاسِ
مناقبٌ تعجــزُ عـن حـصرِها *** في الطرسِ أقلامي وأنفاسي
يا سيدي يا خير مـن أودعتْ *** أعظمه في ضــــمنِ أرماسِ
يا مأمن اللاجئ ويا مؤمن الـــــــــــــوجلان من خــوفٍ ووسواسِ
أغثْ محباً في الولا مخلصاً *** من دائــــــــهِ قد عجزَ الآسي
وله ايضاً قصيدة طويلة جداً في مدح أمير المؤمنين (ع) نجتزئ منها هذا المقطع الذي يعبر فيه عن مدى حب الشاعر لسيده أمير المؤمنين (ع):
عليٌّ أميـــــــــــرُ المؤمنينَ ومن بهِ *** تقوّضَ من أهلِ الضـــــلالِ خيامُها
مقامُ الندى، ركنُ الهدى، كعبـةٌ غدا *** على الناسِ فرضاً حجُّها واستلامُها
هو العروةُ الوثقى فمستمســـــكٌ بها *** لعمريَ لا يُرجى لديـــــهِ انفصامُها
وصيُّ الرسولِ المصطفى ونصيرُه *** إذا اشتدَّ من نارِ الهياجِ احتـــــدامُها
له الهمّةُ القعســــــــاءُ والرُّتبُ التي *** تجــــــاوزَ ما فوقَ السماكيـنِ هامُها
ينورُ به المحـــرابُ إن باتَ ساهراً *** بجنحِ الليــــــــــــالي جفنُه لا ينامُها
وإن نارُ حــربٍ يومَ روعٍ تسعّرَت *** وشعَّ على قلبِ الجنـــــــانِ اقتحامُها
سطا قاطـــــــعاً هامَ الكماةِ بصارمٍ *** غدا فيه يغتــــــــالُ النفـوسَ حمامُها
أما في سيد الأنام النبي محمد (ص) فيقول:
محمــدٌ المختارُ أعني أبا الــــــــــــــــــقاسم هادينا الرســـولُ الرشيدْ
نبيُّنا المنـــعوتُ بالخُلقِ والـــــــــــــــــمبعوثُ للخــــلقِ بـــذكرٍ مجيدْ
خاتمُ رســــلِ اللهِ كنزُ الرجا *** درَّةُ تاجِ المجدِ بيــــــتُ القصيدْ
شهمٌ شديدُ البأسِ من لم يزلْ *** له بمرمى الفضلِ ســــهمٌ سديدْ
حباكَ من ألطافِ ربِّ السما *** سحبَ صلاةٍ وســـــــــلامٍ يزيدْ
وآلكَ الأطهــــــارُ من حبِّهمْ *** أنجو به من هولِ يــــومِ الوعيدْ
وكيفَ لا أنجو وقدمــــاً نجا *** بحبِّ أهلِ الكهفِ كـلبُ الوصيدْ
وله أيضا قصيدة أخرى في سيد الخلق نقتطف منها هذا المقطع الذي يتوسّل فيه بالنبي (ص):
ألا يا رسولَ اللهِ إنْ مـــــــدنفٌ شكا *** إلى الناسِ همـــــاً حلَّ من نُوَبِ الدهرِ
فإني امرؤ أشـــــــــكو إليك نوازلا *** ألمّت فضاقَ اليوم عن وسعها صدري
وأنتَ المــــــرجّى يا ملاذي لدفعِها *** فإني لديهـا قد وهت بي عُرى صبري
فكمْ مُبتـــــلى مُذ حط عـنـديَ رحله *** ترحَّـــــــل عنه قـاطن البـؤسِ والضرِّ
ولمّا رأيتُ الركبَ شدُّوا رحــــالَهم *** وقد أخـذتْ عيس المـــطيّ بهم تسري
تجاذبني شوقي إليــــــــــــك لو أنّه *** بذا الصبحِ لم يشرق وبالليـــــلِ لم يسرِ
فكنْ لي شفيعاً في معادي فليسَ لي *** سواكَ شفيعٌ فـي معادي وفي حـــشري
ويدأب الشاعر على إبراز فضائل أهل البيت (ع) وتضحيتهم في سبيل إعلاء كلمة الله وتحقيق مبادئ الإسلام اقتداء بقول الإمام الصادق (ع): (أحيوا أمرنا) فيقول في حق أمير المؤمنين أيضاً:
وإن قيل لي فضِّل عليّاً على الورى *** بأجمعِهم ممـــــن أطاعَ ومن عصى
أقلْ: هو سيــــــفُ اللَّه لستُ مفضِّلاً *** علاهُ عــــــــلى من بالنقائصِ قمَّصا
ألم ترَ أن السيــــــــفَ يُزري بقدره *** إذا قيل إنّ السيف أمضى من العصا
ويستذكر واقعة الطف وموقف الإمام الحسين (ع) واستشهاده فيقول:
وكلُّ بلاءٍ ســـــوفَ يُبلى ادّكاره *** سوى مصرعِ المقتولِ في طفِّ كربلا
فيا ويحَ قومٍ قـــد رأوا في محرمٍ *** ببغيـــــــــــــــــهمُ قتـلَ الحسينِ محلّلا
همُ استقدموهُ مــــن مدينةِ يثربٍ *** بكتبهمُ واستمــــــــــــــردوا حينَ أقبلا
وشنّوا عليـــــه إذ أتى كل غارةٍ *** وشبّوا ضـــــــراماً باتَ بالحقدِ مِشعلا
رموهُ بســـهمٍ لم يراعوا انتسابَه *** لمن قد دنا من قــــــابِ قوسينِ واعتلا
فأصبحَ بعد التربِ والأهلِ شلوهُ *** على التربِ محــــــزوزَ الوريدِ مُجدّلا
أبـــــانوا له أضغـانَ بدرٍ فغيَّبوا *** شموساً ببطـــــــنِ الأرضِ أمسينَ أُفّلا
ويقول من قصيدة أخرى:
سليلُ البتولِ الطهرِ سبـــــــــطُ محمدٍ *** ونجلُ الإمـــامِ المرتضى وأخي الحسنْ
شهيدٌ له السبعُ الطبـــــــــاقُ بكتْ دماً *** ودكّت رواسي الأرضِ من شدّة الحزنْ
وشمسُ الضحى والشهبُ أمسينَ ثُكّلاً *** ووحــشُ الفلا والأنسُ والجنُّ في شجنْ
على مثله يُستحــــــــسنُ النوحُ والبكا *** ومســــحُ الأمـاقي لا على دارسِ الدِّمَنْ
وللشاعر قصائد أخرى في حق أهل البيت وهي مثبتة في ديوانه الذي لا يزال مخطوطاً في مكتبة الإمام الحكيم العامة بالنجف الأشرف برقم 30 قسم المخطوطات ولعل في مقبل الأيام سنراه مطبوعا ليضاف إلى دواوين شعراء أهل البيت (ع)
توفي الشاعر محمد جواد البغدادي عام (1160 هـ / 1747)، راجياً رحمة ربه وشفاعة أهل البيت (ع) الذين طالما أحيا ذكرهم وأمرهم بأنامله وأدبه.
محمد طاهر الصفار
............................................................
1 ــ شعراء كربلاء ج 1 ص 24 و 31
2 ــ أدب الطف ج 5 ص 276
3 ــ أعيان الشيعة ج 17 ص 155
4 ــ الكرام البررة ص 87
5 ــ معارف الرجال في تراجم العلماء والأدباء ج 3 ص 318
6 ــ نشوة السلافة ومحل الإضافة ج 2 ص 36
7 ــ الروض النضير في ترجمة أدباء العصر ج 3 ص 111
8 ــ شمامة العنبر والزهر المعنبر ج 3 ص 221
9 ــ الطليعة ص 67
اترك تعليق